من مصائب الثورة الصناعية الرابعة

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5999 - 2018 / 9 / 20 - 23:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كلما شاهدت المصائب التي تحدثها الأعاصير والرياح العاتية والسيول المدمرة والزلال العنيفة أِشعر بأن الطبيعة تنتقم من الانسان لما فعله بها من تلوث واستغلال سيئ لكل ما منحته إياه من نعم وجمال، فالطبيعة ذكية وتدرك أن الانسان هو أسوأ مخلوق يعيش فوق ثراها. ولم يكتف الانسان بما أحدثه الانسان من خراب في الطبيعة فهو الآن يسعى بهمة لدمار نفسه بنفسه من خلال ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة والتي ستكون الأخيرة كما نعتقد.

بدأت معالم الثورة الصناعية الرابعة في الظهور في السنوات القليلة الماضية وهي امتداد لما حدث من تقدم كبير في التقنيات الرقمية والإنترنت وانظمة المعلومات الضخمة. ويطلق على هذه الثورة مصطلح الذكاء الاصطناعي أو AI. ونحن هنا نتحدث عن ثورة في مجالات علمية متقدمة للغاية مثل التحكم في الاشياء ونظم التشغيل والشبكات من خلال الانترنت، النانو تكنولوجي، الهندسة الوراثية والبيوتكنولجي، ميكانيكا الكم، تقنيات الواقع الافتراضي، البلوك تشين وتقنيات تحليل البيانات الضخمة، عمليات تأمين الفضاء الإليكتروني الخاص بالمرافق الحيوية للدول مثل البنوك والمطارات ومحطات الكهرباء ضد أي هجمات اليكترونية، الطائرات والسيارات الذاتية الحركة والطباعة ذات الابعاد الثلاثية. ....الخ

والهدف الأول لهذه الثورة والتي تقودها الشركات متعددة الجنسيات بالأساس هو هدف اقتصادي بامتياز يتمثل في إحلال عنصر العمل أو العمالة التي أصبحت مكلفة جدا في الغرب بالآلات الذكية. كما أن عملية الإحلال هذه ستمكن الشركات متعددة الجنسيات من تفادي مخاطر الاعتماد المتزايد على اعادة توطين صناعاتها في دول جنوب شرق آسيا وأفريقيا حيث العمالة الرخيصة.
وبالطبع فإن عملية إحلال الإنسان بالألة من أجل المزيد من الأرباح سوف تؤدي إلى استفحال مشكلة البطالة وتبين مدى قوة غريزة الانانية والطمع التي خلق بها الانسان. ومن المؤكد أن العمالة غير الماهرة في الشرق والغرب سوف تكون أول من يتضرر من هذه الثورة التي لا سبيل لوقف زحفها لأنها تتميز بسرعة النمو والحركة وتوفر الدعم المالي والفني مما يجعل أي محاولة لكبح جماحها عملية شبه مستحيلة. ولذلك فإن الجامعات والشركات الكبرى ومراكز الابحاث في المؤسسات العسكرية في الغرب وبعض الدول الأسيوية مثل الصين وكوريا الجنوبية والهند وتايوان وسنغافورة واسرائيل كلها في سباق مع الزمن لأخذ مواقع قيادية في هذه المرحلة بما يحافظ على قدرتها التنافسية ضد الدول الأخرى، الكل يجري بعقلية القطيع.

وكما ألمحنا سابقا فإن الهدف الأول وغير المعلن لهذه الثورة هو زيادة الإنتاج والاستهلاك بأقل تكلفة ممكنة ومن ثم زيادة الأرباح. وللأسف فإن كل هذا يحدث بالرغم من الأضرار الفادحة التي تسببها عمليات زيادة الإنتاج والاستهلاك غير الضروري على البيئة والمناخ وكافة أنواع الحياة على وجه الأرض بما فيها الإنسان ذاته. وعلى سبيل المثال نتساءل ما هو المبرر الحقيقي لإنتاج كل هذه الانواع من الهواتف المحمولة وتغييرها كل عدة أشهر بهواتف أخرى بدعوى أنها أحدث قليلا؟ ليس هناك مبرر لهذا سوى رغبة الشركات متعددة الجنسيات في النمو المستمر وتحقيق معدلات أرباح أكبر بغض النظر عن التكلفة التي ستتحملها أجيال المستقبل من جراء استنزاف الموار الطبيعية لإنتاج هواتف جديدة لا أحد بحاجة لها، ناهيك عن عميات التلوث البيئي التي تحدثها عمليات التخلص من الهواتف القديمة.

وبالإضافة إلى الجوانب الاقتصادية لهذه الثورة فإنها تحدث تغيرات غير مسبوقة ومخيفة في العلاقات الاجتماعية بين البشر، حيث تعكف شركات الميديا العملاقة مثل فيسبوك والجامعات الغربية الكبيرة على إعداد تطبيقات جديدة يمكنها قراءة عقل الإنسان والتنبؤ بردود أفعاله. وبديهي فإن من يستطيع فعل هذا يمكنه أيضا إعادة تشكيل طريقة عمل هذا العقل. وعلى سبيل المثال فآن جامعة MIT الأمريكية الشهيرة والرائدة في مجالات أبحاث وتطبيقات التقنيات الجديدة وتحليل السلوك الإنساني، تعمل منذ سنوات على معرفة كيف وفيما يفكر أي شخص. وعلى سبيل المثال، فإن المتقدم ﻷي وظيفة جديدة سوف يكون من الممكن قراءة عقله أثناء عملية المقابلة المعتادة ومعرفة ما إذا كان يكذب أم لا وذلك من خلال أخذ صور متعددة لوجهه وحركات يديه أثناء المقابلة وادخالها على كمبيوتر متقدم يحتوي على تطبيقات ذكية ومعلومات عن هذا الشخص يمكن من خلالها قراءة عقله.

ويتحدثون أيضا عن برامج جديدة يمكن للبنوك أن تستخدمها لمعرفة الجدارة الائتمانية للعميل الذي يرغب في الاقتراض من البنك وذلك من خلال تجميع تاريخه الائتماني وعاداته وعلاقاته من خلال تصفحه للإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وبالنتيجة سوف يقرر الكمبيوتر ما إذا كان هذا العميل مستحقا للقرض أم لا دون أي تدخل بشري.
كما بدأت الكثير من المطارات الأمريكية والأوروبية في استخدام برامج بايوميترك حديثة تعتمد بشكل أساسي على استخدام وجه الإنسان لمعرفة هويته الحقيقية وتاريخه الجنائي خلال لحظات.

أما تطبيقات الواقع الافتراضي المركب فإنها ستغير حياتنا بشكل كبير وتجعلنا نعيش في عوالم موازية قد تكون أكبر تأثيرا علينا من عالمنا الحقيقي على الأرض. وفي هذا فقد دخلت أحد مراكز سامسونج في لندن لمعرفة الجديد كما أفعل كل فترة. شاهدت سيدة تجلس على دراجة واقع افتراضي وكانت تتفاعل معها بشكل ملفت لكل من كان في المركز حيث كانت تهتز بعنف وتتحرك وكأنها على وشك الاصطدام بشيء ما. ولما انتهت قالت انها قامت بجولة بالدراجة في شوارع مدينة رائعة ولكنها تعرضت لبعض الحوادث البسيطة!

زادت هذه التجربة من قناعاتي السابقة بأن الاكاذيب لا تعتبر أكاذيبا عندما تصدقها عقولنا. وأن ما يسمى بالواقع الافتراضي المركب يمكن أن يتلاعب بعقولنا بسهولة شديدة.
وإذا ما أضفنا الى ما سبق ما يجري الان من أبحاث معقدة باستخدام علوم النانو والهندسة الوراثية والبايوتكنولوجي مجتمعة أدت الى إمكانية التلاعب في ذرات كل المواد وهو ما يعني تقديم تقنيات جديدة من شأنها تغيير طبيعية كل المواد والمخلوقات بما فيها الإنسان!

صحيح أن هذه التقنيات سوف تقدم حلولا جديدة في مجالات علاج الأمراض المستعصية والامن الغذائي للبشرية، إلا أن المخاطر التي ذكرناها سابقا مضافا اليها التغيرات المناخية العنيفة الحاصلة على سطح الأرض بسبب عمليات التلوث البيئي الكثيفة التي يقوم بها الانسان، سوف تفقد كوكبنا كل التوازنات البيئية الطبيعية التي أدت الى نشأة الحياة على الأرض واستمرارها حتى الآن.

كما آن سيطرة الآلات الذكية عي حياتنا سوف تؤدي حتما الى اخطاء كبيرة وربما كوارث خطيرة نتيجة الفارق الكبير بين الذكاء الإنساني والذكاء الآلي حيث يتميز الإنسان بشيء من الوعي والضمير أما الآلة فإنها صماء وتعمل بشكل أعمى بحسب برمجتها، فإذا ما طلب منها مثلا أن تدمر شيء محدد وحدث عطل ما في برمجتها فأنها سوف تستمر في عملية التدمير إلى ما لا نهاية.
كل التطورات السابقة توضح أن الآلات والأجهزة الحاسبة والتطبيقات المزودة بلوغاريتمات متقدمة للغاية تمكنها من تشغيل نفسها بنفسها سوف يكون بمقدرها التأثير على الطريقة التي نفكر ونرى الاشياء بها، بالإضافة إلى ما ستتمتع به من قدرة على اتخاذ قرارات هامة ومؤثرة تتعلق بحياتنا دون أن نتدخل نحن فيها ودون أن نستطيع تغيرها، أي هذه القرارات.

ولا ينبغي أيضا أن ننسي أن أقلية مجتمع ال 1% في عالمنا والتي تسيطر على ما يقارب 80% من ثروات الأرض هي التي تقود الثورة الصناعية الرابعة وهي التي ستسيطر أيضا على كل هذه التقنيات الجديدة، وهو ما يعني تفاقم مشكلة اللامساواة بين البشر والمزيد من تدمير السلام المجتمعي في كل دول العالم.

نتوقع أن تنجح الرأسمالية في الدول المتقدمة في التخفيف من تبعات الثورة الصناعية الرابعة على طبقة العمال غير الماهرة حتى لو اقتضى الامر حثهم على الجلوس في بيوتهم مقابل دخل معقول وتوفير بعض برامج الحماية الاجتماعية لهم ولكن إلى متى وهل سيقبلون بهذا العالم الغريب ويكتفون بالمشاهدة من داخل بيوتهم؟
أما في دولنا العربية حيث تتعرض الطبقة العاملة لكل أنواع الاستبداد والظلم والنهب والقمع، من سيدعم هؤلاء؟ وهل يمكن أن يحدث ما تنبأ به ماركس؟


محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي