من عبقريات ماركس وإخفاقاته

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 5925 - 2018 / 7 / 6 - 01:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تتجلى عبقرية ماركس في أفكاره التي تمزج بين الاقتصاد السياسي والفلسفة بشكل غير مسبوق، وهي أفكار ستبقى شاهدا على نظرة الرجل الثاقبة وفهمه العميق لطبيعة النفس البشرية.
ومن أفكاره التي حفرت في أعماقي منذ كنت طالبا جامعيا يدرس الاقتصاد ما يلي:

1- تأكيد ماركس الدائم على أن النظم الاقتصادية التي روج لها آدم سميث وديفيد ريكاردو ومعظم الاقتصاديين السياسيين ممن عرفوا بالكلاسيك والكلاسيك الجدد تم بناءها على أساس استغلال عنصر العمل والعمال بشكل سيء " لا يمكن الجزم بأن هذا كان مقصودا كما نعتقد ". وماركس محق في هذا لأن كل من يتعمق في تاريخ الفكر الاقتصادي يجد تحيزا واضحا في النظم الاقتصادية القديمة والمعاصرة وسواء كانت متقدمة أو متخلفة لعناصر الإنتاج الأخرى مثل رأس المال والتنظيم. وعادة ما يعامل عنصر العمل كأحد المعطيات المسلم بها أو المضمونة وكأنه عنصر غير رئيسي في نجاح العملية الإنتاجية. وهذا ما دعا ماركس الى تشبيه رأس المال بمصاص الدماء الذي يعيش على دماء العمال.

وعندما كنت طالبا مبتعثا في المانيا الغربية كان الألمان يصنفون العمال الى ثلاث فئات؛ غير المهرة وهم الاتراك وشبه المهرة وهم عمال أوروبا الشرقية والمهرة وهم العمال الالمان. والفئة الأولى كانت تعيش تحت حد الكفاف ولا يحظون بالاحترام الكافي وكأنهم يتسولون ولا يعملون!

2- ومن الافكار الفلسفية الجميلة لماركس قوله أن التاريخ يعيد نفسه، في المرة الاولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة. والمعنى العميق لمقولته هي أن الإنسان لا يتعلم أو يتعظ من أخطائه، أو أن العبر التاريخية كثيرة ولكن قلة الاعتبار والمهازل في حياة الانسان أكثر.

3- أما عن الدين فقد قال إن الانسان هو من صنع الدين وإن الدين لم يصنع الانسان. الدين هو نوع من الوعي الذاتي يمثل احتراما للإنسان الذي خسر نفسه بعد أن فشل في الحصول على احترام المجتمع الذي يعيش فيه، الدين هو أفيون الشعوب. والدين بالفعل مسكن قوي لأوجاع الناس ما نرى.

4 - يرى ماركس أن البنيان الاقتصادي للمجتمع‘ أي عوامل الإنتاج وعلاقاته هي التي تحدد هيكله الاجتماعي ونفسية وسلوكيات الناس ودرجة تحضرهم. ونتيجة سؤ أحوال العمال فإن الصراع الطبقي حتمي في المجتمعات الرأسمالية " منتجة اللامساواة "
وكما أوضحنا في مقالات سابقة لنا فإن مشكلة اللامساواة في الدخل والثروة هي مشكلة معقدة وعجيبة في آن ونقول عجيبة لأنه كان من المعتاد تاريخيا أن تشهد اللامساواة نوعا من التحسن بعد الحروب والأزمات الاقتصادية العنيفة. حدث هذا بعد أزمة الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن المنصرم وحدث بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. وكان من الطبيعي أن نتوقع أن يتكرر هذا السيناريو بعد الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في أواخر 2007 ولكن الغريب ان مشكلة اللامساواة ازدادت عنفا بعد هذه الأزمة الكبيرة حيث يمتلك أغنى 10% من سكان العالم حاليا حوالي 80% من ثروة العالم وهذا لم يحدث من قبل وهذا شيء تنبأ به ماركس.
كما أن اللامساواة ليست فقط في الدخل والثروة ولكنها تتمدد لتشمل كل أوجه المعيشة مثل التعليم والرعاية الصحية والإسكان والمواصلات والطرق....الخ

والحقيقة المرة هي أن ازمة اللامساواة وفجوة الدخل تضرب كل دول العالم التي يحكمها النظام الرأسمالي سواء أكانت غنية أو فقيرة، وعلى سبيل المثال فإن أغنى 1% من سكان الولايات المتحدة استولت على 95 % من مكاسب النمو الاقتصادي منذ عام 2009 وحتى الآن وهو ما ترتب عليه أن الدخل الحقيقي لغالبية عمال وفلاحين الولايات المتحدة ازدادوا فقرا من بعد الأزمة المالية وقد نجح ترامب ببراعة في استغلال هذا الوضع للوصول إلى البيت الأبيض، وهذا يوضح أن النظام الرأسمالي في أزمة حقيقية بالرغم من كل منجزاته في العالم كما تنبأ ماركس.

5- أن النظام الرأسمالي ينتج أكثر من احتياجات الناس الاستهلاكية بمراحل كما انه يمعن في انتاج أشياء غير ضرورية ويدفع الناس للإقبال عليها من خلال الاعلانات والحملات الدعائية المكثفة والتي تستهدف الشباب والنساء بشكل خاص بدعوى اتباع أحدث خطوط الموضة والتكنولوجيا. ونحن دائما نتسأل ما معنى تغيير المحول كل عام بدعوى أن الموديل الجديد أكبر قليلا أو أنه مزود بكاميرا أقوى قليلا؟ أو شراء المزيد من الملابس التي لا نحتاجها حتى لا نتخلف عن الموضة! اليس هذا نوع من الغباء والنصب والاحتيال على البسطاء؟ هذا ناهيك عن الآثار المدمرة لهذا البذخ الاستهلاكي عل البيئة؟
إنه الطمع والجوع للمال والانانية واستهداف الربح دون أدنى اكتراث بالآخر أو بالطبيعة، انها الرأسمالية المتوحشة التي تجر العالم من أزمة لأخرى وستنتهي إذا لم تحدث معجزة ما بتدمير نفسها ومعها العالم كله نتيجة للظلم الاجتماعي والتشوهات السابقة التي أشرنا اليها اجمالا كما تنبأ ماركس.

6- وهناك شبه إجماع في الاوساط الأكاديمية في الغرب على انه بالرغم من النجاحات الباهرة للنظام الرأسمالي في رفع مستوى معيشة مئات الملايين من البشر على مستوى العالم إلا أن توجهه الاستهلاكي الحالي على حساب التوجه الإنتاجي الذي تميز به إبان الثورة الصناعية الأولى والثانية، وما نتج عن هذا من آثار مدمرة على البيئة واستفحال مشكلة اللامساواة في الثلاث عقود الماضية، هي أمور باتت تهدد البشرية والحياة على الأرض. وكل هذا يدعم فكرة ماركس المركزية بأن الرأسمالية تشتمل على أليات داخلية لتدمير الذات.

وهناك أراء عديدة في الغرب لكيفية تلافي هذا المصير المؤلم ولكن ليس هناك توافق على سياسة محددة. وغياب هذا التوافق يجعل الرأسمالية عرضة لهذا الانهيار بشل دائم وربما يكون هذا هو سر اهتمام الغرب بكل جامعاته ومراكز أبحاثه بماركس منذ نحو قرنين وحتى الآن.

أما عن إخفاقات ماركس كما تري بعض الاوساط الأكاديمية في الغرب فإنها تتمثل أساسا في أن الغرب لازال هو المسيطر على العالم وأنه ثورة البروليتاريا لم تحدث وان أفكاره لم تجلب إلا الفقر والاستبداد والفساد لكل الدول التي طبقتها. ونحن نرى أن هذه الآراء تتسم بالسطحية وتنقصها الموضوعية العلمية.

ولعلي أختم مقالي بما توصلت اليه من بحث سابق لي بأن النظام الرأسمالي بالفعل يستغل الفقراء ويعمل لصالح الأغنياء وهم الأقلية ولكنه مرن وبارع في علاج الأزمات التي يمر بها ويوفر إطاراً من الحرية الفردية والديمقراطية والفصل بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقانونية تشعر المواطن بالأمان والانتماء والمشاركة رغم كل ما يتعرض له من خداع وظلم في المنظومة الاقتصادية للرأسمالية كما أوضح ماركس في قوانينه الشهيرة. وبكلمات أخرى فإن المواطن في الغرب عندما يرى أحوال أخيه في المجتمعات الاشتراكية يغض الطرف عما يتعرض له من خداع ويمضي في طريقه مفضلا الاستقرار بدلا من التعلق بأحلام ماركس.

أما بالنسبة لمسألة انهيار الرأسمالية أو زوالها على النحو الذي توقعه ماركس فإننا نعتقد أن هذا لن يحدث في المدى المنظور لسبب بسيط وهو عدم وجود نظام سياسي أفضل حالياً، ولكن العالم بصدد عملية تطور طويلة وبطيئة نحو نوع من التغيير بدأت بالفعل وسوف تثمر عن ميلاد نظام اقتصادي جديد يقوم على أساس التعاون المشترك والتحالفات الإقليمية المتجانسة التي تلبي احتياجات اعضاءها حتى ولو كان على حساب الآخرين وهذا يعني استمرار الصراع بين هذه التحالفات وربما استمرار معاناة غالبية البشر بشكل أو آخر وذلك الى حين استيقاظ الضمير الإنساني وهو أمر غير متوقع في الأمد القصير حيث ستتواصل مسيرة انهيار القيم ومعاناة الإنسان حتى نصل بظهورنا الى الحائط ... عندها سوف تبدأ البشرية في الخطو الى الأمام.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي