المقاطعة، مسار فكرة سياسية ثورية


عبد السلام أديب
الحوار المتمدن - العدد: 5861 - 2018 / 5 / 1 - 22:06
المحور: ملف الأول من أيار عيد العمال العالمي 2018 المعوقات والتحديات التي تواجهها الحركة العمالية والنقابية في العالم العربي     

انطلقت في 20 أبريل 2018 عبر المواقع الاجتماعية حملة مقاطعة شعبية لثلاث منتجات أساسية لشركات معينة هي بترول شركة افريقيا غاز وشركة الماء المعدني سيدي على وشركة سانترال ودانون. فما هي الدوافع الخفية لهذه المقاطعة الشعبية لثلاث منتجات رئيسية عدا ارتفاع أسعارها مقارنة بأسعار نفس المنتجات حتى في فرنسا؟ قد نجد الجواب عند التعرف على الدور السياسي والاقتصادي المهيمن لمالكي الشركات الثلاث.

ففي قطاع المحروقات نجد عزيز أخنوش صاحب شركة افريقيا غاز لتوزيع المحروقات ووزير الفلاحة والصيد البحري ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار من بين المساهمين الرئيسيين الى جانب بنكيران ثم إلى جانب سعد الدين العثماني في اعتماد سياسات لا شعبية منذ سنة 2011 ترمي الى معالجة أزمة رأس المال على حساب الطبقة العاملة والتي من بينها إلغاء صندوق المقاصة ورفع الدعم على المحروقات وتطبيق نظام المقايسة مع تجميد الأجور والرواتب وتدمير نظام الصندوق المغربي للتقاعد وتعويم الدرهم.

وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنه في قطاع البنزين والغازوال حققت الدولة منذ سنة 2014 أرباحا خيالية. ففي سنة 2013 وصل سعر برميل النفط في السوق العالمي 130 دولار، لكنه في سنة 2014 بدأ هذا السعر ينخفض إلى أن وصل في منتصف سنة 2014 إلى 30 و32 دولار للبرميل، أي نسبة الانخفاض وصلت الى 75 %. ولنلاحظ تطور أسعار النفط في السوق العالمي: من 2014 إلى 2015، تأرجح برميل النفط في السوق العالمي بين 40 و30 دولار. ومن بداية 2015 إلى 2016، بين 30 دولار و58 دولار. ومن بداية 2016 إلى 2017، بين 58 دولار و 66 دولار.

ورغم ذلك لم ينخفض سعر البنزين والديزل في المغرب سوى بـ 3 دراهم في أحسن الحالات ليبقى سعر البنزين مرتفعا اليوم بين 9.9 درهم و10,2 درهم، وسعر الديزل بين 8,1 درهم و9,94 درهم. رغم أن الحكومة السابقة، قبل تحري سعر النفط، كانت تدعي أنها تطبق المقايسة. والواقع لو طبقت الحكومة هذه المقايسة المزعومة لانخفض سعر البنزين إلى 4 دراهم والديزل إلى 3 دراهم في أقوى انخفاض نهاية سنة 2014، ويصل سنة 2018 في أقوى ارتفاع له إلى 6 دراهم فقط.

فلنقارن إذن أسعار البنزين والغازوال في المغرب مع أسعارهما في تونس، رغم أن تونس تمر من أزمة اقتصادية وتعاني أيضا من أزمة اجتماعية عميقة، منذ بداية سنة 2011 عقب إسقاط نظام «زين العابدين بن علي" ولم تستطع إلى حد الآن تجاوز هذه الأزمة.

ففي المغرب : يصل سعر البنزين الممتاز 11,01 درهم للتر ، أما في تونس، فسعر البنزين الرفيع بدون رصاص 6,93 درهم للتر ، وفي المغرب، يصل سعر الغازوال (ديزل): 9,69 درهم للتر، أما في تونس، فسعر الغازوال 50 يصل إلى 1,61 دينار تونسي، 6,03 درهم مغربي للتر. (ملحوظة: 1 دينار تونسي = 3,74 درهم)


أما في قطاع المياه المعدنية فيوجد أهم احتكار فيه تحت هيمنة رئيسة الباطرونا مريم بنصالح، صاحبة شركة سيدي اعلي وسيدي حرازم والتي تتدخل دائما باسم نقابة الباطرونا ومن أجل خدمة مصالحها، للضغط على الحكومة من أجل تجميد أجور الطبقة العاملة ورواتب الموظفين العموميين والجماعات المحلية عبر رفض أي زيادة تتقدم بها النقابات المهنية والمطالبة برفع الدعم عن المواد الأساسية وإلغاء صندوق المقاصة لتطبيق حقيقة الأسعار لتمكين الرأسمال من تحقيق الأرباح الخيالية نتيجة لذلك وافشال ما يسمى بالحوار الاجتماعي.

ويعود احتكار المياه المعدنية في حوض والماس الى سنة 1933 حينما حصل أحد المعمرين اسمه جان بيرطران Jean Bertand حصل على امتياز استغلال المياه المعدنية في الحوض، أنظر الظهير الصادر بهذا الشأن في عدد الجريدة الرسمية رقم 1102. كان الاتفاق في 20 شتنر 1933 بين المدير العام لإدارة الاشغال العمومية وبين “المسيو Bertand” وتمت المصادقة عليه بظهير شريف يوم 24 اكتوبر 1933. الشركة التي كانت تستغل العيون بحوض ولماس كانت تسمى ب “شركة استغلال عيون المياه المعدنية بولماس” المملوكة “لبرطران جان”. استغلال المعمر كان إذن بدون مقابل.

بعد هذا التاريخ انتقل امتياز استغلال حوض المياه المعدنية بوالماس الى “عبد القادر بنصالح” الذي كان يشغل منصب مدير ديوان مبارك البكاي لهبيل اول رئيس حكومة بعد الاستقلال الشكلي، ويقال انه في سنة 1962 مكنه الحسن الثاني من الحصول على 700 هكتار من الأراضي السقوية المسترجعة من المعمرين. وحيث ورثت اليوم احتكار تسيير امتياز الاستغلال، ابنة عبد القادر بنصالح، مريم بنصالح.

ويبلغ معدل صبيب عين مياه سيدي على 70 متر مكعب في الساعة (أنظر قرار وزير الأشغال العمومية والمواصلات رقم 15.76 بتاريخ 6 يناير 1976). فإذا كان المتر مكعب من الماء يساوي 1000 ليتر، وإذا كان نصف ليتر من سيدي علي يباع ب 3 دراهم، فصبيب العين المالي يصبح هو: 3 دراهم * 2000 *70*24 = 10.080.000 درهم. النتيجة هي مليار سنتيم في اليوم. إذن فهذه العين المائية تنتج الذهب بتكلفة انتاج شبه منعدمة.

أما بالنسبة لقطاع الألبان والحليب الذي يوجد أهم احتكار له تحت هيمنة شركة سانطرال دانون المغرب والتي هي اليوم شركة فرنسية بنسبة 65 في المائة من رأسمالها وحيث اتهم مديرها عدنان بنكيران المغاربة المقاطعون لمنتجاتها بالخيانة لعدم استهلاك منتجاتها علما أن هذه الشركة اصبحت تشكل جزءا من الباطرونا الاجنبية المهيمنة في المغرب وتساهم بدورها الى جانب الباطرونا المحلية في مطالبة الحكومة بفرض تجميد الأجور والرواتب والزيادة في إجراءات الأمن لحماية رأس المال ورفع الدعم عن المواد الأساسية وإعدام صندوق المقاصة. علما أن الشركة لا تؤدي للفلاحين منتجي الحليب سوى درهمين و19 سنتيم للتر الواحد من الحليب الخام، بينما تبيعه لعموم الشعب بعد تصفيته بثمن اغلى مقارنة مع فرنسا (7 دراهم للتر).

ومعلوم أنه قبل تاريخ 2014 كان المغرب يعاني فعليا من إنتاج الحليب والألبان، واضطر للجوء إلى الاستيراد لسد حاجياته من هذه المادة الحيوية. وكانت تحدث معارك شرسة في الخفاء بين شركات المنتوجات الحليبية للظفر برضى المزارعين والفلاحين خاصة في منطقة شتوكة آيت باها.

وبحسب الفلاحين الفقراء، فإن تعاونية كوباك أو المعروفة ب ”جودة” كانت تغريهم ب “هدايا” الأعلاف، بينما كانت المركزية للحليب أو سنطرال ليتيير تلعب على ورقة المعدات وآلات حلب الأبقار مقابل احتكار جل إنتاجهم من الحليب الطازج.

أما الشركات المتوسطة كجبال، الشركي، فروميطال، سيلدا وأخريات فقد كانت تقتات مما تتركه “الشركتان” سنطرال وجودة من فتات، بل رفعت هذه الشركات سعر شراء الحليب الخام لدى الفلاح ب 20 سنتا إضافية مقابل الظفر ببضع لترات لكي لا يتوقف نشاطها. وقد استغل كل هذه المعطيات والأجواء السائدة آنذاك في الشارع المغربي مسؤولو سنطرال للرفع من ثمن الحليب ب 0.25 درهما ثم 0.50 درهما لكل نصف لتر عند متم سنة 2013، وكان من الطبيعي أن تحدو كوباك حدو “شريكتها” لأن المنافسة الفعلية منعدمة حقا في هذا المجال.

سنتين بعد ذلك، ارتفع انتاج الحليب والألبان لمستويات قياسية، وقلص المغرب حاجياته من هذه المادة الحيوية، وانخفضت الواردات منها بشكل كبير حيت استقرت عند معدل 8660 طن خلال الأشهر الأولى من السنة الماضية، مقابل 22466 طن من نفس الفترة من سنة 2014 حسب وثيقة رسمية من مكتب الصرف. ومع وفرة الإنتاج، بقي نصف لتر من الحليب دون تغيير أو تخفيض في ثمنه رغم أن منطق السوق يفرض -في ظل منافسة حقيقية-أن ينخفض سعره بشكل كبير، إلا أن جشع “الشريكتين” والاحتكار الغير المباشر للسوق حال دون ذلك.

على المستوى الحسابي، واستنادا إلى إحصاءات رسمية لسنة 2017، بلغ متوسط استهلاك الحليب للفرد في السنة ما بين 54 و 72 لترا (لنأخذ 63 لترا كمعطى)، وعدد سكان المغرب يناهز 36 مليون نسمة. بعملية بسيطة يبلغ استهلاك المغاربة لمادة الحليب 2,27 مليار لتر سنويا، يقابله إنتاج سنوي يفوق 2,8 مليار لتر. مما يعني أن هناك فائضا يتم تصريفه في التخزين والادخار من طرف الشركات المحتكرة عوض أن ينعكس ذلك على الأثمنة من خلال قانون العرض والطلب.

بالنظر إلى هاته الأرقام، وحصة السوق التي تحظى بها سنطرال ليتيير والمقدرة ب 65% من خلال معطيات رسمية من موقعها الرسمي وبورصة الدار البيضاء، فإن المواطن المغربي يستهلك ما يفوق 1,476 مليار لتر من الحليب من هذه الشركة لوحدها، أي أنه يساهم نظريا وبشكل مباشر ب 5,1 مليار درهم سنويا من رقم معاملاتها (رقم المعاملات الرسمي للشركة حسب بورصة الدار البيضاء يبلغ 6,5 مليار درهم بجميع منتجاتها)، بربح صافي وصل إلى 115 مليون درهم نهاية سنة 2017.

فالشركة الفرنسية تستنزف المواطن المغربي بما مجموعه 11 مليار و 500 مليون سنتيم سنويا (بمعدل مليار سنتيم شهريا)، ورغم ذلك يتجرأ مدير انتاجها بكل وقاحة بوصف المواطن الذي عزف عن استهلاك منتوجه بالخائن للوطن، ومدمر للاقتصاد الوطني.


إذن فتجربة مقاطعة الشعب لهؤلاء الرأسماليين مصاصي دماء ذوي الدخل المحدود، أخذ يشكل جزءا من الصراع الطبقي العام القائم بين الحركة العمالية المغربية من جهة وهيمنة التحالف البرجوازي الطبقي المهيمن من جهة أخرى، ووسيلة من الوسائل السريعة في انتشار الوعي الطبقي واختبار قدرة الجماهير على تغيير واقعها المأزوم، وحيث تعري فترة المقاطعة عن عورة العديد من الانتهازيين سواء داخل الاحزاب السياسية أو المركزيات النقابية.

ويمكن تكييف المقاطعة الشعبية الحالية، العفوية، على أنها نتيجة لسيرورة أزمة التناقض الحاد بين، من جهة، التطور الهائل لقوى الانتاج والتي من بينها طبعا تطور قوى انتاج الحليب ومشتقاته وإنتاج أنواع وكميات مختلفة من المياه المعدنية أو "شبه المعدنية" ومنتجات استيراد وتكرير البترول ومن جهة أخرى علاقات الانتاج المتدهورة والمنحطة بسبب جشع الباطرونا والتي يتم في ظلها استغلال بشع لعمال الطبقات الشعبية المسحوقة. ويحدث هذا الاستغلال بشكل مباشر عبر سداد أجور زهيدة، يتم في اطارها الاستحواذ على اكبر فائض قيمة من الأرباح، انطلاقا من المداخيل الضعيفة الموزعة، مضاف اليها الاقتطاعات الضريبية الفاحشة التي تستخلص الحكومة أكبر عائداتها من ذوي الدخل المحدود والضعيف. كما يحدث هذا الاستغلال بشكل غير مباشر عقب اعدام صندوق المقاصة وتحرير الاسعار ورفع اسعار المحروقات رغم انخفاضها في السوق العالمي ورفع اسعار كافة المنتجات والخدمات.

فنتيجة لهذا التناقض الحاد بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، تدهورت الوضعية الاجتماعية لفئات واسعة من الشعب المغربي نحو حالات مزرية من البؤس والافقار. وهي السيرورة التي أدت الى اندثار شرائح واسعة مما يسمى بالطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغرى بينما تفاقمت معاناة الطبقة الكادحة نتيجة اتساع رقعة البطالة والفقر وتراجع مداخيل الطبقة الوسطى المرتبطة بها. وقد أشعل هذا التدهور الاجتماعي فتيل الحراك الشعبي في العديد من المناطق المغربية كان أبرزها منذ سنة 2016 كل من حراك الريف نتيجة تهميش منطقة بكاملها منذ نصف قرن وحراك مدينة جرادة المنكوبة عقب الاقفال الارتجالي لشركة مفاحم جرادة سنة 1998.

لكن إرادة التحالف الطبقي المهيمن ومن خلفه مصالح رأس المال المالي الدولي والمحلي أملت على خدام النظام الاوفياء من أحزاب حكومية وبمباركة من المركزيات النقابية والرأسمال المهيمن المحلي والدولي، الجواب الوحيد الذي تتقنه وهو تسليط القمع العدواني الشرس على ابناء الشعب المحتج وممارسة التعذيب والاعتقالات والاحكام الجائرة في حقهم، أنظر حالات معتقلي الريف وجرادة كمثال.

إذن فالاستجابة الحالية الواسعة للجماهير الشعبية المسحوقة من الطبقتين الوسطى والكادحة لنداء المقاطعة، الذي انطلق في 20 أبريل 2018 من طرف عدد من الشباب الفايسبوكي، لثلاث منتجات أساسية تتعلق ب: منتجات شركة افريقيا غاز، وشركة الماء المعدني سيدي على، وشركة سانترال ودانون، يمكن اعتباره شكل آخر جديد من المقاومة الشعبية لتدهور علاقات الانتاج والاستبداد السياسي المرتبط به، والذي تسبب، منذ سنة 2011، في إقفال جميع فضاءات التفريغ الديموقراطي للغضب الشعبي، حيث تم اضعاف الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية والمنظمات الحقوقية وتم تسليط القمع على الاحتجاجات بكافة أشكالها واعتقال كل من يحتج بشكل سلمي وحضاري للمطالبة بحقوقه الأساسية.

وأصبحت حملة المقاطعة الحالية كالنار في الهشيم، سريعة الانتشار والتفاعل وسط الطبقات الشعبية المسحوقة، وتحدث نتائج كارثية على أرباح الشركات الرأسمالية المستهدفة، كما زادت من منسوب الوعي السياسي والاجتماعي وسط مختلف الطبقات الاجتماعية، وهذا ما يجعل الوضع السياسي والاجتماعي على فوهة بركان، وهي وضعية غير مسبوقة رغم كونها لا تزال دون تأطير سياسي يدفع بها نحو اتجاه التغيير والثورة الديموقراطية.

إن الشركات التي تمت مقاطعة منتجاتها أصبحت تخسر يوميا حصصها في السوق، ويتزايد هذا التأثير يوميا مع استمرار المقاطعة. وحتى وإن كانت الشركات المعنية بالأمر قادرة على تقليص أسعارها، إلا أنها تتعرض لضغوطات من المتحكمين في السوق والمال والاعمال حتى لا تقلص أسعارها. وهناك اجتماعات يومية ومخططات لتفادي الاضطرار الى نقص الأسعار، لأن ذلك سيعتبر انتصارا للمقاطعين.

فلو تم انتقاص ثمن الحليب مثلا فإن ذلك سيكسب المواطن المقاطع ثقته في نفسه، ويدرك بأنه هو وحده صاحب القرار وبالتالي سيمر نحو مقاطعة منتجات أساسية أخرى تعرف ارتفاعا فاحشا في أسعارها كالزيت والسكر والشاي واللحوم والأسماك وكافة المنتجات والخدمات. لذلك فالشركات تراهن على تلاشي المقاطعة مع الزمن.

إن الخوف الأكبر من انتصار إرادة المواطن في معركة المقاطعة هو اكتسابه للثقة في نفسه لكي يمر الى فرض قضايا وجودية أكبر ذات علاقة بالحريات والحقوق والديموقراطية ... الخ. لذلك تمارس ضغوطات كبرى على أعلى مستوى حتى يستمر التحكم في إرادة المواطنين.

إن ما لم تحققه الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية بسبب تواطؤها المستمر في الزمن مع التحالف الطبقي المهيمن، تستطيع الجماهير تحقيقه مع اكتسابها للثقة في قدرتها الجماعية على مقاطعة كل ما يؤديها.