اوزير وترسيخ الاستكانه فى الفكر المصرى


هشام حتاته
الحوار المتمدن - العدد: 5429 - 2017 / 2 / 11 - 16:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كما ان هناك اذن موسيقية لاتستطيع ان تهضم اى نغمه نشاذ ، وهناك اذن لغوية لاتستطيع ان تهضم اى لحن فى اللغه ( واللحن بمعناه اللغوى هو اهمال قواعد اللغه العربية )
فان هناك عقلية نقدية تقف طويلا امام بعض المقولات وبعض حوادث التاريخ لاتستطيع ان تهضمها ، ولاتكتفى بهذا بل انها تحاول ان تبحث عن الجذور
واشكر الظروف ان الطبيعه وهبتنى هذه العقلية النقدية والتى كانت وراء العديد من كتاباتى ودراساتى وابحاثى والتى كانت قمتها كتابى الذى صدر من اسبوع وكان فى معرض الكتاب ( محمد ومعاوية والتاريخ المجهول ) اكشف فيها الكثير من المجهول فى التاريخ الاسلامى .
ولم تكن الطبيعه وحدها من وهبتنى هذه العقلية النقدية ، لان البيئة والنشاة ايضا كان لهم الفضل فى هذا
وقفت طويلا امام الخنوع المصرى لمعظم العاملين معى فى مملكة آل سعود عندما رايت جنسيات اخرى عربية ترفض هذا الخنوع والاستسلام والسير فى فلكهم ، وربما من دول اقل فقرا من مصر وعلى رأسها الاخوه السودانيين
لن انسى موقف شاهدته هناك فى بداية عملى عندما ذهبت الى مكتب البريد فى الرياض لارسال حوالة ماليه الى مصر ، كان كل العاملين فى المكتب من الاخوة السودانيين ( قبل وفود العماله المصرية بكثافة ) ، ثلاثة تقريبا على الشباك وثلاثه تقريبا على مكاتب ومكتب كبير لرئيسهم السعودى
كنا نقف فى الطابور لانتظار دورنا حتى جاء شخص سعودى يريد ان يتجاوز الطابور ، فنهره الموظف السودانى ، فما كان من رئيس المكتب السعودى الا توبيخ الموظف السودانى ، لارى على الفور كل العاملين فى المكتب يتضامنون مع زميلهم وينسحبوا من العمل
هذه الظاهره لم اراها ابدا فى الكثير من المصريين ، بل رأيت العكس منها تماما ، التقرب والتزلف للكفيل السعودى ( وان مشى واحد وايه يعنى ... نجيب لك غيره الف من مصر ) هذه الجمله سمعتها اكثر من مره وآلمتنى كثيرا .
المهم .....
عندما بدات مطالعه التاريخ عموما والمصرى خصوصا وقفت امام معلومة معروفة لكل دارسى التاريخ وهى ان بداية الاحتلال الفارسى لمصر كانت مع العام 525 ق.م وظلت الاحتلالات تتوالى من الفرس الى اليونان الى الرومان الى العرب مابين خلافة اموية وخلافة عباسية حتى الدولة الطولونية التى كانت بدايه للتخلص من الخلافة العباسية وتلاها الدولة الاخشيدية ثم الفاطميين وبعدها الايوبيين ثم المماليك ( العبيد ) ثم العثمانيين وانتهاءا بالاسرة العلوية حتى جاء جمال عبدالناصر كاول حاكم مصرى لها ولأول مره فى تاريخ طويل من الاحتلالات المتعاقبة لمدة 2500 سنه
تاريخ استمر حوالى 2500 عام ، ولم يسأل احد نفسه : كيف لدولة كانت منبع الحضارة الانسانية يستمر احتلالها طوال هذه الفترة من شعوب اقل فى الحضارة واقل فى التمدن والتى لم تحدث فى طول التاريخ وعرضه لدولة اخرى ؟
ثم نتسائل : لماذا كان عبدالناصر يريد فرض رؤيته على الدول العربية الاخرى بالقوة فى وقت لم يكن لديه القوة الكافية لذلك ، وفى حين وقف حسنى مبارك لمده 30 عاما محلك سر ولم يكن فاعلا لاى دور مصرى فى المنطقة رغم امتلاكه القوة الكافيه لذلك .
واخيرا ايها السيدات والسادة موقف الرئيس السيسى من الجبروت السعودى فى فرض الهيمنه على مصر وتصريحه بان مصر تتعامل باخلاقيات وقيم لاتتوفر للاخرين ( ويقصسد بها السعودية ) ولماذا لايقارعهم بنفس منطق القوة ، وان كانت مصر ضعيفة اقتصاديا فانها قوية عسكرية ولها وزنها فى المنطقة ، ولنتامل معا موقف الاتحاد السوفيتى الضعيف اقتصاديا امام امريكا الاقوى اقتصاديا وعسكريا والذى نجح فى ترسيخ دور روسى فى المنطقة العربية .... !!!
لاشك ان ماسبق وكتبته عدة مرات عن الفارق بين المجتمع الزراعى وانتاجه الاخلاقى المتسم بالتسامح وبين المجتمع البدوى وانتاجه المتسم بالغلظة والخشونه وحق الاعتداء ، لاشك انه صحيح ومتوافق مع كل ماجاء به علم الاجتماع ، فالاستقرار حول مجرى النهر فى مشتركات قروية وانتظار المحصول وجهد وعرق الايام ، وبعد جنى المحصول وانتظار موسم زراعى آخر – حيث كانت الدورة الزراعيه فى مصر القديمة دورة واحده من فيضان العام الى فيضان العام التالى – يولد نوعا من الاطمئنان والاستقرار النفسى ، عكس ساكن الصحراء المرتحل دائما وراء عيون الماء ومراعى الكلأ والتصادم بين القبائل الذى دونه الموت المحتوم ولد لديهم ما اطلقت عليه ( حق الاعتداء ) وحق الملكية المطلقة الذى تعطية لهم الصحراء الواسعه
ولكننا امام جانب آخر من الصورة استطيع ان اطلق عليه ( الاستكانه ) استكانه المصرى امام الاخر ، واستكانته امام الظروف والتعايش معها بدلا من محاولة تغييرها والتغلب عليها
ولنبدأ كالعاده من الجذور ، من مصر الفرعونية التى انتجت الحضارة والعلم واول دولة مركزية فى العالم واول جيش فى العالم كيف احتلها شذاذ الافاق وقطاع الطرق ممن اطلق عليهم الهكسوس والتى لم يتعرف المؤرخين والباحثين الى الان عن : من اين جاءوا ، واين ذهبوا بعد خروجهم من مصر وكأنهم تبخروا ؟
وان كان الاصل الذى جاء منه الهكسوس خارج موضوعنا ، الا انه لامانع من ذلك لان معظم باحثى التاريخ حتى الان فى حيره من امرهم فى الاجابه على هذا التساؤل
عن السؤال الاول يجيبنا الباحث ( ايمانويل فلايكوفسكى ) فى موسوعته من جزأين ( عصور فى فوضى ) و ( عوالم فى تصادم ) انهم من جزيرة العرب الذين خرجوا منها بعد مجموعه زلازل ضربت هذه المنطقة ومنها مصر ودخلوا مصر بعد انهيار الدولة المركزية واحتلوا شمالها – وان كنت شخصيا اتفق مع هذا الطرح جزئيا وليس اجمالا ، فالاسلحة التى استعملوها فى الهجوم عل مصر لم تكن معروفة لدى المصريين من عربات تجرها الخيول والأقواس المركبة والفؤوس الخارقة والسيوف المنحنية والتي كانت تستعملها الشعوب السامية ، فاعتقادى اهم قدموا من جزيرة العرب فعلا بعد ثورة الزلازل والبراكين التى ضربت المنطقة وتحالفوا من العديد من القبائل السامية التى كانت تعيش فى النقب وسيناء والتى كانت تمتلك هذه الاسلحة وتم غزو واحتلال شمال مصر حتى اوسطها
فكلمة الهكسوس هى كلمة مصرية تعنى : هكا سوس – الملوك الرعاه
وتختلف مده حكم الهكسوس مابين 100 عام الى 250 عام لانهم منعوا الكتابه والتدوين واسدلوا ستارا كثيفا على التاريخ المصرى
واما السؤال الثانى فقد اجاب عليه الدكتور لويس عوض فى كتابه ( مقدمة فى فقه اللغه ) الذى نسب الى اقليم الحجاز اكتسابه لهذا الاسم بعد نزول الهكسوس الى جزيرة العرب بعد طردهم من مصر ، فهم الكاسيين وهم الـ ( هى – كاس ) والت جائت منه كلمة ( الحجاز ) وانا ايضا اتفق مع هذه الطرح لان التاريخ العربى نفسه يفيد بهجره كائت من شمال جزيرة العرب واستقرت فى الحجاز واطلق عليهم ( العرب المستعربة )
ولماذا فوجئ المصريين بهذه الاسلحة وكيف لم يتعرفوا عليها وهى موجوده شرقا بالقرب منهم مما استدعى اكثر من مائه عام حتى يصنعها المصريين فى مملكة الجنوب ويتدربوا عليها ليبدأوا بعدها فى حروب التحرير ؟
ظلت مصر منذ بدايه تاسيسها فى العام 3200 ق.م حتى احتلال الهكسوس لها فى العام في 1790 ق.م اى حوالى 1800 عام منغلقة على نفسها ، مكتفيه بذاتها عمن سواها ، يمر بها الزمن متمهلا ، نعرف تاريخ ملوكها وامرائها وكهنتها ولانعرف عن الشعب الا شكاوى الفلاح الفصيح
تاريخ طويل متكرر ، الملوك اولاد الالهه يتربعون على العرش والكهنه يطوعون لهم الشعب فى تحالف نفعى وللاسف مستمر وحتى الآن ...!! فالحاكم والكاهن وجهان لعمله واحده
والمصرى يعمل بالزراعه ثم الحصاد ، وبين الزراعه والحصاد يبنى المعابد والاهرامات ويشيد المسلات ، متمتعا بحماية إلهه الشعبى ( اوزير ) الذى حكم مصر فى سالف الزمان وسوف يعود ليملأ الارض عدلا بعد ان امتلأت ظلما وجورا
يتحمل المشقة احيانا والظلم احيانا فى انتظار العائد او المأمول الذى سيملأ الارض عدلا ، وان لم ياتى فيكفيه الخلود الآخروى فى مملكته الخالده ، ويكفيه مايدفعه للكاهن مما يقتطعه من قوت يومه ليضمن له الافلات من المحكمة عبر تمائمه السحرية التى تدفن معه ليمر بسلام من المحاكمة وينجح فى الامتحان ويضمن الخلود من حبيبة اوزير .
الحضارة المصرية القديمة مع كامل اعتزازى بها هى حضارة الحاكم والكاهن بعيدا عن الشعب ، فالحاكم يوفر للكاهن حياته الكريمه ويقطعه الاقطاعيات غير ما يدفعه له افراد الشعب ليضمن لهم الخلود مما اتاح للكاهن الفرصة الكامله للنظر فى النجوم والتامل والصفاء الذهنى مما ساعده فى استلهام بعض القوانين الكونية
كان حكم الملوك متوارثا وجائت فترة حكم فيها الكهنه مصر مما كان له اثرة فى عدم اتاحه الفرصة للمصرى – حتى وان كان من الوجهاء – اى يحكم مصر ، ولهذا لم تظهر فيها اى زعمات شعبية تتولى الحكم ، مما كان له اثره فى الاحتلالات المتعاقبة لمصر محتل يطرد محتل ويظل على قمة السلطة بمن معه من الاهل والعشيرة حتى ياتى محتل آخر فيطرده ..... وهاكذا دواليك
اذن مصر لم تعرف طوال تاريخها الفرعونى مايمكن ان نطلق عليه الآن ( حكم النُخبة ) فمن الطبيعى ان لانجد اى مقاومة للمحتل الجديد مادام اختفى الجالس على العرش والكاهن
وكما تلعب الجينات الوراثية دورها الفعال فى صياغه الانسان فان لها ايضا دورها الفعال فى صياغه الشعوب
توارثنا الاستكانه جيل بعد جيل وقرن بعد قرن والف عام بعد الف عام وزياده عليهم خمسمائة عام ، بدون اى قيادة شعبية تقاوم المحتل ، وفى انتظار المأمول اوزيريس الذى سياتى فى آخر الزمان ويملا الارض عدلا ، وعاش جُل حياته لارضاء الآلهه مع مجموعه القيم الخلقية الرفيعه والقانون الاخلاقى الاول
ونستطيع ان نقول انه عاش لاخرته وترك الدنيا لمحتليه
وعلى الجانب الآخر من البحر الاحمر – والبدوى عموما - ثوارث البدوى فى جيناته حق الاعتداء
اذن فنحن امام جينات استكانه ورثها المصرى – تعيش معه حتى الان – امام جينات حق اعتداء ورثها البدوى وتعيش معته حتى الان
دعونا نوسع الدائرة لتكون الصورة اوضح واشمل ، لنجد كل الدول التى كونت الامبراطوريات ورث ابنائها مايمكن ان نقول انها جينات الاستعلاء
فما زالت ايران تتوارث هذا الحق وتريد ان تفرض نفسها على دول الخليج ، ومازالت بريطانيا حتى الآن تحتفظ بالعديد من تقاليدها دونا عن اوروبا ، حتى ان الشعب الانجليزى وافق مؤخرا على الانسحاب من الاتحاد الاوروبى
ونجد فرنسا عندما قال عنها بوش ابان حرب العراق ( فرنسا تمثل اوروبا العجوز ) فرد عليه الرئيس الفرنسى قائلا : لاتنسى اننا من حررناكم وعلمناكم الحرية والديمقراطية
ونجد السعودية بميرائها الجينى البدوى تهيمن على الخليج وتتصادم مع ايران فى هذا الملف ، والاكثر انها تريد تركيع مصر
واذا قال قائل ان مصر كانت يوما امبراطورية ايام حكم الاسرة الثامنه عشر ، لنقول انها لم تكن امبراطورية بالمعنى المعروف مثل الامبراطوية العربية والفرنسية والانجليزيه ، فكان نفوذها يمتد شمالا وجنوبا الى الشلال فقط ولم يستمر هذا طويلا ، وانها لم تفكر فى الخروج من الوادى واحتلال ماحولها الا وهى تطارد الهكسوس فرأت سهولة الانتصار وعرفت معنى العمق الاستراتيجى
جاء عبدالناصر ... صعيدى من بنى مر ، ولاجدال ان معظم اهل الصعيد من مهاجرى جزيرة العرب الذين مازالوا وحتى الان يحتقرون الفلاح ويستعلون عليه ، والملفت للنظر ان كل القرى حتى فى دلتا الوادى التى دخلها العرب اصبحوا ساده عليها وحتى الآن ، ساعدهم على ذلك جينات الاستكانه المصرية وجينات الاعتداء البدوية ، وكلمة ( بنى مُر ) تحيل الى القبلية والعشائرية ، ومازال الصعيد حتى الان معروف عنه الشراسه ، وعادة الثأر متوارثة بينهم من جزيرة العرب التى وفدوا منها
اذن جمال عبدالناصر كان يحمل فى جيناته الوراثية حق القوة والاستعلاء البدوى ، ولهذا رايناه يريد هيمنه مصرية فى المساحه التى اطلق عليها ( الوطن العربى ) وحدث ماحدث
ولكن كلا من السادات ومبارك جاؤا من وادى النيل من ابوين فقيرين لايمكن ان يكونوا من العرب الذين لهم السيادة على القرى التى يقيمون فيها ، فرأينا كلا منهما مكتفيا بحكم مصر دون ان يحاول فرض اى سيطره او هيمنه على ماحولة ـ بل راينا مبارك منبطحا امام العرب حتى يتسنى له العودة الى الحضن العربى بعودة مصر الى الجامعه العربية التى طردت منها ايام السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد ، ويكون عراب العودة صدام حسين وياسر عرفات ( .... !!!! )
حتى جاء السيسى من احد احياء مصر الفاطمية من اسرة تعمل فى الانتيكات والتحف الفرعونية ، وهى الاماكن والصناعات التى لايمكن للعرب ان يقوموا بها او يقيموا فيها
فنراه منبطحا امام السعودية بعدهجومها الاخير عليه
ومازال المصرى يتحمل الظلم ويمضغ الاستكانه حتى يعود اليه فى آخر الزمان ( اوزير ) ليملأ الارض عدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا .
ومن هنا ايضا دخلت فكرة العائد والمامول فى الفكر الدينى للاديان الابراهيمية الثلاثة مابين المهدى الشيعى الذى سيخرج من السرداب ، والمسيح القادم الذى بشرت به التوراه ، والمهدى المنتظر الذى سيعود فى صورة المسيح لينشر الاسلام ويدخل القدس ويكسر الصليب
وانا لمنتظرون .
والى اللقاء فى مقاله اخرى