كتاب الربيع العربي بين نقد الفكرة ونقد المفردة


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 5424 - 2017 / 2 / 6 - 22:10
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

كتاب"الربيع العربي" بين نقد الفكرة ونقد المفردة
مقالة في المنهج
محمد علي مقلد
طلب مني باسل صالح تزويده بمقالاتي المنشورة التي تناولت فيها موضوع الأصوليات، ليستند إليها في إنجاز قراءته النقدية لكتابي "هل الربيع العربي ثورة؟ قراءة يسارية". سرني في البداية أن يهتم باحث واستاذ جامعي بكتاب وبموضوع مثيرين للجدل، وحين سألت نفسي عن حاجته إلى المقالات في قراءته الكتاب، قلت ربما لأن النصوص القصيرة أكثر إثارة للجدل من الكتب، أو لأن المقالة تتسع لثغرات يتفاداها البحث العلمي، أو لأنها كالسندويش، بحسب تعبير مارون عبود، أما الكتاب فهو كالوليمة يلزمها وقت أطول، وتحتاج إلى جرأة من نوع آخر، فيها من المسؤولية في التعامل مع الكتابة أكثر بكثير من استسهال النقد بلا معايير وبلا ضوابط في وسائل التواصل. استجبت للطلب وأرسلت إليه ما تيسر لي جمعه من مقالاتي المنشورة في صحيفتي النهار والحياة الورقيتين، وفي صحيفتين إلكترونيتين، ليبانون نيوز والمدن، وفي موقع الحوار المتمدن.
بعد إنجازه البحث قرأته منشوراً في مجلة الحداثة، العدد المزدوج 177 - 178 بعد أشهر على صدور المجلة في صيف 2016، وهو بحث أعده كاتبه ليضيفه، على ما أظن، إلى أبحاث أخرى تتيح له أن يترقى على أساسها، إن صنفت كأبحاث "أصيلة"، بحسب المصطلحات المعتمدة في تقويم الأبحاث الجامعية.
تأكد لي أنه طلب المقالات ليستعين بها على نقد الكتاب مواربة، وكأني به رأى الكتاب مستعصياً، إن قرئ وحده، على النقد، أو رآه محكم البناء والصياغة وشديد التماسك، ولم يجد فيه ثغرة ينفذ منها، ما جعله يميل إلى توسل المقالات ليخترق بواسطتها منظومة الكتاب الفكرية. شجعني على مثل هذا الظن اعتقادي أن المعنيين بشأن الربيع العربي، ولا سيما اليساريين منهم، وبالأخص من حصلوا على نسخة منه، ترددوا في الكتابة عنه مفضلين العزف المنفرد على المساجلة، فلم يقصر أحد منهم في إغناء النقاش حول الربيع، لكنهم تحاشوا الكتابة عنه. شذ عن ذلك ما قيل في الكتاب خلال ثلاث ندوات عامة، شارك فيها الدكتور طارق متري وكريم مروه وكمال حمدان والشيخ حسن مشيمش. لم ينشر في الصحف أو المجلات، سوى مقالتين إحداها للدكتور علي نسر في جريدة السفير، والثانية للدكتورة ناتالي خوري في جريدة الجمهورية، وقد تعامل باحثنا معهما كأنهما من قائمة مقالاتي فاستهل بحثه بالإشارة إليهما، متناولاً مقالة ناتالي خوري، جاعلاً منها مدخلاً لنقد المنهج المعتمد في الكتاب، مرتكباً بذلك أول خطأ منهجي في بحثه، إذ لا يجوز أن تزر وازرة وزر أخرى، إن صح أن هناك وازرة ووزراً. ربما كان من الأفضل لبحثه العلمي أن يبدأ بعرض أفكار الكتاب ثم يبدأ بنقدها، فتبدو الاستعانة بالمقالات أمراً مقبولاً من الناحية المنهجية.
يقول باسل في نقد المنهج : " ...ما يعني أن الخوري(ناتالي)تحسم أن "جميع" كتابات مقلد تستند إلى منهجية أصيلة، على الرغم من تحيزه وتطرفه في قول ما يراه وما يريده، وهو ما يشير إلى مشكلتين منهجيتين، هما:
"أولا في الشكل: عدم منهجية استخدام مصطلح شمولي"جميع" بالإضافة إلى التناقض بين المحاولات المتطرفة والذاتية مع المنهجية العلمية التي يجب أن يتمتع بها أي باحث، خصوصاً عند الخوض في مسألة اجتماعية ك"الربيع العربي"
"ثانيا في المضمون، وهو ما سيظهر خلال البحث، لكن يمكن الإشارة إليه: استخدام الشعارات بطريقة مشوهة والوقوع بجملة من التناقضات الداخلية، وهو ما يعبر عنه منطقياٌ بمبدأ "عدم التناقض"، بالاضافة إلى استخدام المناهج بطريقة خاطئة. (...) يلحظ أن مقلد يبدأ بخلل أساسي يتعلق بتسمية المنهج الذي يستخدمه، معتبراً أن (استقراء الأحداث والعبر) يشبه منهج الرياضيات في تقديم الفرضية ثم إثباتها بالأدلة والبراهين. وهو كلام مغلوط، لأن الرياضيات لا تستخدم الاستقراء((induction أو الانتقال من الجزء إلى الكل(استقراء الأحداث واستخلاص العبر)، بل تستخدم الاستنباط((deduction أي نقل اليقين من الكل إلى الجزء، وعليه فإن كلام البرهنة والسعي إلى الاثبات لا يقوم على الاستقراء منذ هجوم الفيلسوف David (1711-1776)Hume وأدى إلى تقويضه، وأدى لاحقاً إلى استبعاد معيار الاثبات((verification وصولاً إلى اعتماد محاولة التأييد أو التعزيز كبديل منه"
لم يقع اختياري على هذا المقطع الطويل من بحث الدكتور باسل، إلا لكونه يتناول فيه قضية المنهج، وهي القضية الأكثر تعقيداً التي يعتبر الخوض فيها مغامرة غير محمودة النتائج إن لم يكن الباحث، هو نفسه، يملك منهجاً واضحاً يجنبه الوقوع في حفرٍ، على طريق من غير خارطة.
نشير في البداية إلى أن صياغة هذا المقطع ملتبسة، تضيع فيها حدود الاقتباسات وأنساب الكلام، ويحشر فيه اسم الفيلسوف دافيد هيوم حشراً. يبدأ باسل بأن "الخوري تحسم..."، لكنه لا يشير إلى بداية الاقتباس ولا إلى نهايته، بل يكتفي بوضع كلمة "جميع" بين مزدوجين، ليركز نقده على هذه المفردة "جميع" ونعتها بالمصطلح الشمولي، وأظن أنه يقصد ما دون ذلك، إذ يرى في استخدامها نوعا من التعميم الذي يتناقض مع مبادئ البحث العلمي. غير أن المفردة "جميع"، لا تصح تسميتها بالمصطلح العلمي الشمولي. بل هي، لغة، اسم نكره يستخدم للبدل أو للتوكيد، ولم يرد من معانيه إلا نقيض البعض أو التفرق، وليس له في علم الدال والمدلول غير معناه القاموسي، ولا يتعداه إلى مدلولات فلسفية أو نفسية أو تاريخية أو اقتصادية، ولم يصادره ميدان من ميادين العلوم الانسانية والاجتماعية، ولم يتعامل معه أحد بصفته مصطلحاً.
ربما كان يقصد بكلمة شمولي، المصدر "شمول" أو النعت "شامل" لينتقد التعميم كخطأ منهجي. حتى بهذا المعنى فإن استخدامها في غير محله، فضلا عن أن “الشمولي” مصطلح يساق في نعت نظام سياسي ما، وهو ترجمة عن الفرنسية لمصطلح totalitaire ولا محل لاستخدامه الصحيح في سياق بحث باسل. كان بإمكانه أن يقول بكل بساطة، إن استخدام كلمة "جميع" هو زلة منهجية لأنها تفيد التعميم، فيستقيم المعنى من حيث الشكل. أما في المضمون، فإن مفردة "جميع" في المقالة ليست من النوع الذي يسيء إلى بحث علمي جامعي، وذلك لاختلاف المقالة الصحافية عن البحث، وربما كانت الكاتبة محقة في التعميم، بقولها إن "جميع إصدارات مقلد، باستثناء كتابيه الأولين، كما مقالاته الاسبوعية هي طروحات سياسية سجالية استفزازية"، أي أن التعميم جائز إذا كان المقصود منه نعت جميع الطروحات السياسية "بالسجالية والاستفزازية".
تعبير "عدم منهجية..." هو تعبير مغلوط لغوياً ومنهجياً. يمكن أن يقال عن المنهج أنه غير مطابق أو غير مناسب أو غير مطبق بدقة، لكن لا يمكن للقارئ أن "يعدم" وجوده، إذ لا يمكن أن يخلو نص من منهج. حتى الهذيان له منهجه. حين يرى الباحث "عدم منهجية" في نص ما، فهذا لا يعني أن النص خلو من المنهج، بل يعني أن الباحث لم يتمكن من القبض عليه من القراءة الأولى، وما عليه إلا أن يعيد القراءة مرات ومرات ليكتشف الخيط الفكري الهادي الذي يقف وراء النص ويربط بين مفاصله، أو أن ينسحب من مهمة قراءة النصوص من زاوية منهجها، ليقرأها من زوايا أخرى ويجعلها مادة لبحوث ذات طبيعة مختلفة.
في المنهج أيضاً، وردت في المقطع عبارة "على الرغم من تحيزه وتطرفه"، وهي مقتبسة من مقالة ناتالي من غير إشارة إلى اقتباسها، فضلا عن تحريف محتواها. وردت العبارة في المقالة في سياق وصف الطروحات السياسية السجالية الاستفزازية... "لكنها متطرفة في تحيزها" ( عن الطروحات) ، لكن باسل حوّل الوصف إلى حكم مبرم، لا على الطروحات بل على صاحبها. وهي في النص الأصلي نعت واحد هو الانحياز (إلى حد التطرف في الانحياز) فيما هي تحولت في الاقتباس إلى نعتين منفصلين لصاحب الطروحات، مع الفارق الكبير بين العبارتين ( طروحات متطرفة في تحيزها، أو كاتب متحيز ومتطرف) ما يدل على أن البحث ينتهك المبادئ الأولية "للمنهجية الأصيلة" التي ينشدها ويسعى إليها
توقف الباحث عند "مشكلتين منهجيتين"، الأولى، وهي في الشكل، بحسب رأيه، تتعلق ب"المصطلح" "جميع"، وكانت من نصيب الكاتبة ناتالي لسوء حظها، أما الثانية، وهي في المضمون، فقد اكتفى الباحث بالإشارة إليها مجرد إشارة، واعداً بتفصيلها خلال البحث، لكن الإشارة تفرّعت إلى قائمة طويلة من الأخطاء، عدّد منها: "استخدام مشوه للشعارات، الوقوع بتناقضات داخلية، وهو ما يعبر عنه منطقياً بمبدأ “عدم التناقض” " ، فضلاً عن "استخدام المناهج بطريقة خاطئة"، فضلاً عما يشير إليه خارج التعداد، من نوع: الارتباك المنهجي، عدم الدقة، الاغفال، التشويه، التسطيح، غير علمي، الخلط الفاضح، التعدي على التاريخ والمجتمع، النظرة الفوقية، التجهيل، مأزق الرؤية، التسرع، الخلل المنهجي، التوتر، القراءة المغلوطة، التلفيق، العقم. بالإضافة إلى حكم تكرر عشرات المرات عنوانه "مشكلة مقلد"، ولم يظهر بوضوح من هو ضحية المشكلة، كما في قوله، "مشكلة مقلد الأساس مع هذه الحركات(القومية والدينية) هي أنها عززت الاستبداد" أو قوله،" مشكلة مقلد في كل ذلك أن الاحزاب القومية أجهضت الجنين الديمقراطي" (ص45) أو قوله،" المشكلة الأولى :يفصل مقلد بين الثورة الفرنسية والثورة البرجوازية... المشكلة الثانية.... المشكلة الثالثة: يغفل مقلد دور الأزمات الاقتصادية، المشكلة الرابعة، يغفل مقلد، المشكلة الخامسة تتعلق بالدولة..."(ص60-61) أو قوله" المشكلة الأكبر ان مقلد لم يقف عند هذا الخطأ المنهجي بل تسرع..." (ص66) ولنا عودة إلى معالجة عينة من هذه المشكلات (عينة واحدة تفادياً للإطالة).
يذيّل الباحث القائمة بخطأ منهجي يشبه الخطيئة، عندما يؤكد في كلامه عن الاستقراء والاستنباط، بصورة جازمة، "أن الرياضيات لا تستخدم الاستقراء"، واصفاً قولي بأن المنهج الذي "يشبه الرياضيات في تقديم الفرضية ثم إثباتها بالأدلة والبراهين بالكلام المغلوط". هي خطيئة لأن الباحث اقتبس النص منقوصاً، وحذف منه العبارة التي تجمع الاستقراء إلى الرياضيات. فقد ورد في آخر جملة من التمهيد في كتاب، هل الربيع العربي ثورة؟ ما يلي ... "تقديم الفرضية ثم إثباتها بالأدلة والبراهين والمقارنات المنطقية" فحذف الإشارة إلى علم "المنطق" الذي يشرح الرابط بين الاستقراء والرياضيات، فضلا عن أن البحث عن مادة الاستقراء في المعاجم تشير إلى المصطلح مقرونا بأحد نعوته، فيقال الاستقراء الرياضي. ولست أعلم على أي مرجع استند الباحث لينفي عن الرياضيات استخدامها الاستقراء كطريقة من طرق القياس المنطقي.
كان يمكن للباحث أن يعثر على المنهج المصرّح عنه في مقدمة الكتاب، من دون أن يتنكب عناء البحث عنه لاستكشافه. فقد ورد في التمهيد أن "النص يعتمد منهجاً مركباً" بادئاً بالسعي إلى 1-"إعادة تركيب مصطلح الثورة الذي شوهته الانقلابات العسكرية" ثم إلى 2- إثبات أولية القراءة السياسية مقابل القراءتين الاقتصادية(نموذجها الاقتصادي الكبير سمير أمين) والثقافية(نموذجها الشاعر الكبير أدونيس) لأحداث الربيع العربي، ثم إلى 3-إعادة تركيب مصطلح " الرأسمالية " والتعامل معها كحضارة، فضلا عن 4-اعتماد منهج مقارن للاستفادة من تجربتي الثورة الفرنسية وحركة الاصلاح الديني اللوثرية، استناداً إلى 5- ما توفره التجربة المعاشة والخلاصات التي يستفاد منها في نقد تجربة الانخراط في الحرب الأهلية اللبنانية... إضافة إلى 6-" ما يشبه منهج الرياضيات في سوق الأدلة والبراهين واستخلاص النتائج". كل ذلك انطلاقاً من 7-الاعتقاد بأن للعوامل الداخلية أولية على العوامل الخارجية، وبأن سبب خروج العرب من التاريخ( فوزي منصور) هو الاستبداد الداخلي الذي كان يمارَس على الشعوب باسم محاربة الخطر الخارجي.
غير أن شجرة المفردات كانت تخفي عن أنظار الباحث غابة المنهج. فقد اقتبس الباحث مقاطع مطولة من مقدمة الكتاب تتعلق بالمنهج، لكنه مهّد بها من غير أن يوظفها في بحثه أو يجعلها مادة للنقد، أي من غير أن يناقشها. فهو اكتفى باقتباسها وسارع إلى تنظيم اشتباك خارج حلبتها، ما يعني أنه لم يكن من الضروري إيرادها لعدم الحاجة إلى اقتباسها، وهذا خطأ منهجي؛ ثم استبدل نقاش "الخيط الهادي" أي منهج الكتاب، بمساجلات مع مفردات فيه، سأكتفي بالتوقف عند عينات منها: "لا" الرفضية، الاسقاط أم التغيير، التحريم بدلالتيه الدينية والقانونية، الاستغلال والاستثمار، الأساسي والمهيمن والمسيطر، الصراع السياسي والصراع الطبقي، وغيرها من المفردات.
تمهيداً لتفصيل الكلام على النقد "بالمفرق" أو النقد المفرداتي، وعلى النقد "بالجملة" أو نقد المنهج (الخيط الهادي)، سأعرض السياق الذي وردت فيه تلك المفردات في الكتاب، لأن "السياق" ركن أساسي في النقاش المنهجي، ولأن تناول المفردات أو المصطلحات من خارج سياقاتها يعد انتهاكاً لأبسط قواعد المنهج.
يجيب الكتاب على سؤال العنوان "هل الربيع العربي ثورة" بنعم هي ثورة، وهي أول ثورة منذ النبي محمد، لأن ما بينهما لم يكن سوى انقلابات هدفها تغيير السلطة لا تغيير النظام، ولأنها هي الأولى التي نشدت التغيير بالانتقال من النظام الوراثي الاستبدادي إلى النظام البرلماني الديمقراطي، وبهذا المعنى فهي تشبه الثورة التي قامت أول مرة في أوروبا ضد النظام الاقطاعي، والتي ما كان لها أن تنجح في عملية الانتقال المنشودة تلك لو لم تكن ثورة سياسية بالدرجة الأولى، لأن التغيير السياسي هو الذي يحمي التغييرات الثورية الأخرى في المجالين الاقتصادي والثقافي.
هذه هي الفرضية التي يزعم الكتاب السعي إلى برهنتها بالأدلة والبراهين والمقارنات. وكان من الطبيعي أن يناقش الكتاب الاعتراضات المتوقعة عليها من أنصار الفكر القومي الذي ما زال يرى أن الانقلابات العسكرية أو الدينية، القديمة أو الحديثة، تجسد صورة حقيقية للثورة، ومن أنصار اليسار الذي يصر على تفسير الأحداث التاريخية على منهج سوفياتي في فهم الصراع الطبقي وفي تأويل الأفكار الماركسية، ومن باب أولى اعتراضات جاهزة لا يكف عن إطلاقها أنصار الفكر الديني. على رأس تلك الاعتراضات عدم الموافقة على تصنيفي التيارات الثلاثة تحت مسمى واحد هو الأصوليات، وهو تصنيف كنت قد أطلقته عليها في تسعينات القرن الماضي، في بحث طويل نشرته في مجلة الطريق اللبنانية في ربيع 1994، لكونها، بالرغم من تباين منطلقاتها ومبادئها وقيمها، من وجهة نظري، متشابهة في ممارساتها المؤيدة لأنظمة الاستبداد القديمة أو المستحدثة، وفي معارضتها للديمقراطية. متشابهة بهذين الأمرين ومتباينة في كثير غيرها.
قراءة باسل النقدية لم تتناول الكتاب ولا الفرضية، بل كلمات منه ومفردات. بعد أن يستعرض ما ورد في الكتاب عن الثورة، يستنتج على هواه، ويصادر على المطلوب، قائلاً: " ما يعني باختصار، أن "الربيع العربي" قام على قول "لا" في وجه كل ما هو قائم"، وذلك في تناقض صارخ مع قول مقلد "إن كل الأصوليات، بهذا المعنى، أقرب إلى منطق الرفض الذي لا يبني خطة ولا وطناً ولا حضارة، بل يكتفي بالانكماش على الذات والتقوقع والعجز. اللاءات لا تبني وطناً. قيل هذا عند تأسيس الجمهورية اللبنانية وقيل كذلك في غمرة النضال الفلسطيني. ما يبني هو المشروع الايجابي لا الخطة السلبية"
كتاب الربيع العربي كله قائم على فرضية المعنى الجديد للثورة، وقد تضمّن، لإثبات ذلك، عرضاً مفصلا لمعنى الثورة الحديثة وللسياق الذي حصلت فيه عملية الانتقال من منظومة الحضارة الاقطاعية إلى منظومة الحضارة الرأسمالية، ليخلص إلى القول إن ثورة الربيع العربي قامت ضد أنظمة الاستبداد، أي ضد الطابع الاستبدادي لهذه الأنظمة وليس ضد طابعها الطبقي ولا ضد مواقفها من الصهيونية والرأسمالية والاستعمار. يختصر باسل الكتاب على هواه بجملة وحيدة بقوله، "ما يعني باختصار أن الربيع العربي قام على قول "لا" في وجه كل ما هو قائم". من حق الباحث أن يختصر، شرط أن يحافظ المختصر على المعنى لا أن يتعداه ولا أن يقصر عنه. فإذا جاز اختصار الكتاب بجملة أو تكثيفه بفكرة فأفضل تعبير عن هذا الاختصار هو أن ثورة الربيع العربي فضحت مزاعم الأنظمة عن المخاطر الخارجية وصوبت على الخطر الداخلي الأساسي وهو الاستبداد، واقترحت سبيلاً للمعالجة بعيداً عن الحروب الأهلية هو قيام الأنظمة الدستورية بديلاً عن تلك التي لا تعترف بالدساتير أو تلك التي تقوم على تعليقها واعتماد الأحكام العرفية. المطالبة باستبدال أنظمة الاستبداد بأنظمة دستورية. هذه هي الخلاصة المفيدة.
التوصل إلى خلاصة لا تلخص، أو إلى اختصار لا يختصر، قد يعبر عن وجود عيب في كتابة النص إذا ما ظهرت "لعثمة" في بسط الأفكار، أو حين لا يكون الكاتب بارعاً في عرضها، أو حين تشكو لغة النص من خلل في التركيب أو في قواعد البلاغة والفصاحة. لكنه قد يعبر أيضاً عن عيب في منهج قراءة النص حين لا يتقن القارئ تلخيصه واستخلاص فكرته الأساسية. لقد "قرر" باسل تلخيص فكرة الكتاب بكلمة "لا" الرفضية، كما قرر أنها " هي أساس الحراك الشعبي العربي أي لحظة الرفض المطلق لكل ما هو قائم بمعزل عن كل ما يجب أن يقوم. إنها لحظة الرفض التحطيمية." وقرر، على لساني، أنها " أساس كل الأصوليات وهي نفسها أساس الحراك الشعبي العربي (ص 41)ليبيح لنفسه وضع هذه الخلاصة موضع التعارض مع كلام لي ورد خارج نص الكتاب، أقول فيه، " إن كل الأصوليات، بهذا المعنى، أقرب إلى منطق الرفض الذي لا يبني خطة ولا وطناً ولا حضارة، بل يكتفي بالانكماش على الذات والتقوقع على العجز، قيل ذلك عند تأسيس الجمهورية اللبنانية، وقيل في غمرة النضال الفلسطيني المسلح. ما يبني هو المشروع الإيجابي لا الخطة السلبية" (ص40 من المجلة ، وهو مقتبس من مقالة لي منشورة في جريدة الحياة بتاريخ 10-5-2011 عنوانها، في نقد الأصوليات غير الدينية)
صحيح أن كل ثورة أو انتفاضة أو حركة تمرد تعبر عن نزوع إلى رفض ما هو قائم وعن رغبة بتغييره. هذا من حيث المبدأ، لكن العموميات والتعميمات وحدها لا تفسر حقيقة الواقع بقدر ما تخفيه. فالربيع العربي، كما ظهر في الكتاب( هل الربيع العربي ثورة؟) ليس الرفض المطلق لكل ما هو قائم، بل هو رفض، على وجه التحديد، للنظام الاستبدادي العربي بصيغتيه الوراثيتين الجمهورية والملكية، وهو ليس رفضاً بمعزل عن كل ما يجب أن يقوم، بل كان شديد الوضوح في مطالبه: الشعب يريد إسقاط النظام الوراثي وإقامة النظام الدستوري، وهو ما أنجزته الثورتان التونسية والمصرية في المرحلة الأولى، حيث تمت الاستجابة، في كل من البلدين، وليس من دون ثمن، لمطلب إعادة صياغة الدستور وإدخال تعديلات عليه من شأنها زيادة منسوب الديمقراطية في إدارة شؤون الدولة، وهو ما تم إنجازه في ليبيا التي لم تكن تعرف أيام حكم القذافي دستوراً غير الكتاب الأخضر، وهو ما حصل في المملكتين الأردنية والمغربية اللتين أنجزت السلطة السياسية في كل منهما تعديلات دستورية ذات منحى ديمقراطي. أما في سوريا واليمن، حيث اختار النظامان دفع البلاد إلى الحروب الأهلية، وكذلك في سائر البلدان الواقفة على رصيف الانتظار، فلا حل أمامها سوى الانتقال إلى نظام تعددي غير استبدادي، لا يقوم على عبادة الفرد ولا على الاستئثار بالسلطة.
من ناحية أخرى، بعد أن استخلص باسل، وهو استخلاص في غير محله، إشادتي بصيغة الرفض المطلق التي جسدها الربيع العربي، بحسب رأيه، وعدّه من إيجابيات الثورة، راح يعيب عليّ إدانتي "الرفض" الذي اعتمدته الأصوليات غير الدينية، مستنداً إلى قولي أن "هذا الرفض لا يبني خطة ولا وطناً ولا حضارة". غير أن باسل وقع في خطأين منهجيين في وضعه القولين المنسوبين لي موضع التعارض، وهو تعارض موجود حقاً، لكنه ليس بين قولي الأول وقولي الثاني، بل بين نوعي الرفض. الخطأ الأول حين لوى عنق الاقتباس، جاعلا الرفض مطلقاً، بينما هو رفض محصور في الاستبداد، والثاني حين استخدم الاقتباس خارج سياقه. فحمل الإشادة على غير ما يريده النص المقتبس وهو ما سبقت الإشارة إليه، كما أنه انتزع الإدانة من سياقها فشوه معناها.
نعم. المقالة تدين ميل الأصوليات غير الدينية إلى الرفض، لكن شتان ما بين الرفضين. الرفض الأول موضوع الإشادة، (إن صح أن كانت إشادة) هو رفض الاستبداد. أما النوع الثاني من الرفض فهو لم يرد الكلام عنه في الكتاب بل في مقالة صحافية سبقت صدور الكتاب بأربع سنوات، ورد في سياق اتهامي للأصوليتين القومية واليسارية(أي غير الدينية) اللتين اجتمعتا في جبهة تمرست وتمترست في موقف الرافض كل الحلول، حاصرة مسؤولية أزمات العالم العربي في الأسباب والعوامل الخارجية، وعلى وجه التحديد، في الصهيونية والامبريالية والاستعمار، وأسدلت ستاراً من التضليل على الأسباب الداخلية، واستندت في هذا التحليل على نظرية المؤامرة، ثم رسمت خطة دفاعية استقر إسمها على "الممانعة" بعد أن كان الفكر القومي الأصولي قد استخدم للتعبير عنها مصطلح " الصمود والتصدي". الممانعة تعني، ظاهريا فقط، عدم الموافقة على ما "يطبخه" العدو الخارجي، والبقاء في الانتظار، رافضة كل الحلول المطروحة. في هذا السياق وردت العبارة في مقالتي:
"الحركة القومية العربية وافقت على التقسيم الذي كانت قد رفضته غداة النكبة . كان الثمن نكسة أو نكبة جديدة وعشرين عاما من الممانعة تصدياً للمستبد الخارجي وتعزيزاً للاستبداد الداخلي. وهي وافقت على الصلح والمفاوضات والاعتراف في مدريد بعد أن كانت قد رفضته في لاءات الخرطوم الشهيرة. كان الثمن انخراط الحركة القومية كلها في غزو العراق، وثلاثة عقود من الحروب والحروب الأهلية من المحيط إلى الخليج. كل الأصوليات، بهذا المعنى أقرب إلى منطق الرفض الذي لا يبني خطة ولا وطنا ولا حضارة بل يكتفي بالانكماش على الذات" ( جريدة الحياة، 10-5-2011)
الرفض الأول هو رفض للاستبداد، فيما الرفض الثاني هدفه تأبيد الاستبداد. نعم هما متعاكسان، كل منهما باتجاه. بدل أن يرى باسل هذا التناقض بين الرفضين على حقيقته، رآه تناقضاً في موقفي، بين إشادة وإدانة، وحكم عليه أنه"في أصل الارتباك والتناقض اللذين وقع فيهما مقلد... بعد أن اعتبر الاحتجاج العربي تحطيم[كذا] لكل أصولية" (ص41)
يلاحق باسل نقد المفردة، فيتدرج من نقد المفردة "لا"، إلى نقد ما يحيل إلى معناها، "السلب والنفي"، "لحظة الرفض"، فتحمله العبارة الأخيرة"لحظة الرفض التحطيمية" إلى اقتباس لا يربط بينه وبين الموضوع إلا رابط لغوي فيقول: "إنها لحظة الرفض التحطيمية، مطرقة نيتشه Friedrich Nietzsche 1844-1900 كشرط أساس لكل راديكالية يمكن أن تصبح مشروعا سياسيا يعبر عن ذاته بنزوع نظري يحمل هموم الناس وأمانيها. إنه الفارق الجوهري بين الاسقاط والتغيير " (ص41). إذا وضعنا جانباً غموض التركيب اللغوي لهذه العبارة، وغموض معناها، وغموض العلاقة بين مفرداتها: الراديكالية والمشروع السياسي والنزوع النظري وهموم الناس والفارق الجوهري بين الاسقاط والتغيير، يمكن وصف الرابط بين مادة البحث، أي الرفض، والاستعانة بنيتشه، بأنه نوع من التداعيات الألسنية: لا، رفض، تحطيم، مطرقة، التي تتيح لمن يعتمدها منهجاً، بحسب عالم اللغة السويسري الفرنسي دو سوسور، أن ينتقل في تداعياته مثلاً، من اللون الأخضر إلى الشجرة ثم إلى الغابة ثم إلى المرج ثم إلى عاشقين على نبع ماء، نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء، ثم إلى أحمد شوقي ومحمد بن عبد الوهاب وأم كلثوم والفن الأصيل والفن الهابط. يحق للمخيلة الشعرية أن تطلق تداعياتها إلى حيث تشاء لكن لا يحق لها أن تصير جزءاً من عدة البحث العلمي.
كان باحثنا قد خصص فقرة كاملة عن الفارق بين "الاسقاط" و"التغيير" ليؤكد ميله إلى نقد المفردة بدل نقد الفكرة، إذ يقول: إن مقلد "يبدأ باستخدام مشوه للشعار... حيث استبدل شعار:"الشعب يريد إسقاط النظام، بشعار، الشعب يريد تغيير النظام"(ص39). هو يوجه تهمة واضحة بتشويه الشعار، ولا يكتفي بذلك، بل يعنّف الناقدين، ناتالي خوري وعلي نسر على إغفالهما الإشارة إلى ذلك، حتى أن الأولى لم تقف خطيئتها عند الاغفال، بل تعدتها إلى نعت "كتابات مقلد بالأصالة المنهجية"، خصوصاً وأن الاغفال، في حد ذاته، "إغفال الفارق بين الاسقاط والتغيير سينتهي بالبحث في حركة الاحتجاج الشعبية العربية كمحاولة إسقاط إيديولوجية، يحاول مقلد مواجهتها لكنه يقع في ما هو أكثر عمقاً" (ص39). لتأكيد هذا الاستنتاج وتثبيته، يضيف باسل: "إن مصطلح إسقاط له دلالة مختلفة تماماً عن مصطلح تغيير الذي يعني الانتقال، وبالضرورة، من منظومة متعينة إلى منظومة أخرى متعينة أيضاً، وذلك على خلاف مصطلح إسقاط الذي يعني الانتقال من حالة نظام ما إلى حالة أخرى غير متعينة وغير محددة بالضرورة، ليست هي نظاماً، أو ليست هي فوضى عارمة، وليس لها منطلقات غير الإطاحة بالقائم ولا تحمل مشروعاً واضح المعالم"
عند كلامه عن هذه النقطة يحيل باسل إلى صفحتين فقط من كتاب الربيع العربي (43-45) اللتين ترد فيهما المفردة "تغيير"، مع أن الكتاب كله من ألفه إلى يائه يتحدث عن التغيير، معبراً عنه بمفردات شتى، من بينها الاستبدال والانتقال والنقل والتقدم والتطور والاصلاح والانتفاضة والتمرد، وصولا إلى الثورة، وهي كلها تعبر عن رغبة في استبدال حالة بحالة أخرى، عن "إسقاط " حالة وإحلال أخرى محلها، إلا أنه لم يتحدث عن الاسقاط من أجل الاسقاط. بل يمكن القول إن جوهر الفكرة التي تقوم عليها فرضية الكتاب تتضمن المعنى الذي أشرنا إليه عند حديثنا عن الانتقال من البنية السياسية السائدة في حضارة العصر الاقطاعي إلى البنية الموازية التي تأسست مع الحضارة الرأسمالية، أي من الاستبداد إلى الديمقراطية.
هذا في الكتاب. أما الشعار الذي رفعته حركة الانتفاضات " الشعب يريد إسقاط النظام"، فهو لم يكن يعني في أي من بلدان الربيع العربي التوقف عند إسقاط النظام، بل إسقاطه من أجل تغييره. غير أن لصياغة الشعارات في المظاهرات والتحركات الشعبية آليات وخصوصيات وتقنيات قد تكون أكثر بلاغة من تلك التي يحتاجها البحث العلمي، ولذلك فالشعار السياسي الذي تردده الجماهير يتميز بإيجازه وبما ينطوي عليه من إيقاع تحريضي، ويحتاج إلى "صائغ" يصوغ الشعار من ذهب الكلام ، قبل حاجته إلى محلل سياسي يفسره ويشرحه ويتناول أبعاده ومراميه، في حين يتميز البحث العلمي بالاطناب والتفصيل والتدقيق، الأمر الذي لا يحتمله الشعار السياسي. أخطأ باسل حين نظر إلى الشعار وأخضعه لمعايير البحث العلمي.
حالة وحيدة يمكن فيها أن يكون المقصود من الاسقاط هو الاسقاط فحسب، هي عندما تنتمي قيادة الثورة إلى الحركة الفوضوية أي حين تعرف تلك القيادة ما ترفضه وما لا تريده وتجهل ما تريده. تلك هي حال الأنظمة التي تم تصنيفها كأنظمة تقدمية وحال القوى اليسارية المتحالفة معها. ربما كان التعارض بين التغيير والاسقاط قد نشأ في ذهن الباحث، إما لأنه يرفض الصورة النمطية للثورة التي تجسدت في الانقلابات العسكرية والتي رسخت في الوعي السياسي منحى خطيراً سلكته الثورات- الانقلابات، وتمثل في قصورها عن البناء أو إعادة البناء وفي اكتفائها بالاسقاط دون التغيير. وربما نشأ من عدم ثقة بهذه الثورة، أو من تفسير مغلوط لمآلاتها، أو من تسرع في الحكم على ظاهرة لن تبلغ نهاياتها قبل عقود، ولن تحقق أهدافها إلا إذا عمت العالم العربي من محيطه إلى خليجه.
أعاب الباحث على كتاباتي أنها تنطوي على تناقضات كثيرة، لكنه لم يفسر ولم يفصّل ولم يقدم دليلاً، بل كان يكتفي بتكرار الاسلوب ذاته في القراءة، الذي يقضي بنقل اقتباس طويل من المقالة قد يبلغ حجم المقالة بكاملها، ثم يتبعه بحكم مبرم على فكرة من أفكار الكتاب. سأتوقف عند عينة من قراءاته تتناول جزءاً من مقالة لي عن الأصوليات نشرت في جريدة المدن الالكترونية وتحمل عنوان، داعش وتأويل النص الديني.
المقالة من 670 كلمة يقتبس منها باسل نصفها الثاني البالغ 320 كلمة. من حق الباحث طبعاً أن يقتبس ما يشاء والحجم الذي يشاء ، ضمن الشروط المتبعة في آليات الاقتباس. لكن من واجبه أن يدرج ما يقتبسه من سياق النص، لا أن يقطعه عن جذوره. موضوع المقالة يتناول العنف الذي تمارسه الأصوليات الاسلامية، داعش على وجه التحديد، والنصوص الدينية التي تستند إليها في ممارسة العنف. وقد نشرت المقالة في غمرة حملة إدانة واسعة للعنف الداعشي شارك فيها معنيون بالشأن الديني. فتوجهت المقالة إلى المشاركين في تلك الحملة لتضعهم أمام مسؤولياتهم الفعلية والعملية، انطلاقاً من أن التنديد وحده ليس كافياً لوقف العنف، وطالبتهم بالقيام بخطوات أكثر جذرية، ولاسيما أنه يستمد مشروعيته من التأويلات المغلوطة والتفسيرات غير التاريخية للنص الديني. وبعد أن أشارت المقالة إلى الآيات التي تنص على العنف مع أرقامها ومواقعها في السور، طالبت المعنيين بالشأن الديني بموقف أكثر حزماً من النص ومن التأويل ومن المؤولين ومن الذين يوظفون النصوص أو قراءاتها المغلوطة لتبرير العنف، على أن يجسدوا هذا الموقف الحازم بقرارين تتخذهما "المؤسسات والمرجعيات الدينية... يحرّم القرار الأول على أي عامل في الحقل الديني توظيف النصوص الدينية وتأويلاتها في كل أمر يتعلق بالحياة العامة للمواطنين، باعتبار ذلك شأناً يخص الدولة والقوانين المرعية..." ويطالب القرار الثاني "بثورة فقهية تنتصر للعقل على النص وتأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التاريخية التي تلت الدعوة الاسلامية وصولاً إلى اليوم، فتضع حدا لقراءات قاصرة ومجافية لروح العصر وقيم الدين"
ما الذي استوقف باسل في هذا النص؟ أمران. الأول مفردة التحريم الواردة في "يحرم القرار الأول توظيف النصوص الدينية من قبل العاملين في حقل الدين"، ورأى أنه "استخدام الذهنية الدينية نفسها". هو يختصر الذهنية كلها بكلمة. فهل كان استقام المعنى عنده لو قلنا الحظر أو المنع بدل التحريم؟ نعم هي الكلمة ذاتها التي يستخدمها الفكر الديني في ثنائية الحرام والحلال. لكن التحريم الذي نطالب به في المقالة يختلف عن التحريم الديني اختلاف القرار عن الفتوى. الأول معياره قانون يصدر عن سلطة سياسية أو إدارية أو عن مؤسسة دينية، وعقوبته دنيوية بحسب نص القرار أو القانون. أما الثاني فمعياره مطاط لأنه يدخل في متاهة التأويل وفي طاحونة الاجتهادات وأمزجة الأمراء والمرشدين والدعاة وغير ذلك من ألقاب توزع مجاناً على فقراء العقل وأصحاب العمائم.
كما يستنتج باسل، على هواه أيضاً، " أن مقلد يريد كفّ يد المؤسسات الدينية.... ويريد من المؤسسات الدينية أن تنقلب على نفسها وأن تضع حداً لتدخل الدين في السياسة... ويريد منها أن الانتفاض على مصالحها ومكاسبها". من حيث المبدأ، لا أمانع في كف يد المؤسسات الدينية عن التدخل في الشأن المدني وفي شأن العلاقة بين الدولة والمواطن، لكن مثل هذا الاقتراح لم يرد في المقالة ولا في الاقتباس، لأن التحريم موجه ضد العاملين في الحقل الديني وبالتحديد ضد من يوظفون الدين، أي ضد الذين يمارسون الارهاب باسم الدين، وباسل ذكر في السطر اللاحق أن المقالة تطالب المؤسسات الدينية بلعب دور في هذا المجال، فكيف يمكن مطالبة الجهة ذاتها بكف يدها ثم بمد يدها للمساعدة؟ ارتكاب مثل هذا الخطأ يعد مخالفة لأبسط قواعد التكتيك السياسي في التعامل مع مسألة على هذا المستوى من الحساسية.
من الواضح أننا لا نناقش صوابية رأي الباحث من عدمه، فمن حقه أن يخالفنا الرأي في أي مسألة يشاء، لكننا نعترض على أخطائه المنهجية الكبيرة التي تضع بحثه خارج معايير "الأصالة" في أبحاث الترقية الجامعية، ونأخذ عليه أنه، بتوقفه عند المفردات يضيع الخيط الهادي ويسيء قراءة النص ويشوه المعنى ويحرف المراد. ونأخذ عليه أنه يورد الاقتباس ويناقش سواه. ولو أراد أن يناقش حقاً موقفنا من الاصلاح الديني لكان عليه أن يعود إلى الكتاب لا إلى المقالة، وهذه نقطة في المنهج أيضاً، لأن المقالة الصحافية ، مهما طالت، تقصر عن تقديم مشروع للاصلاح الديني، والمقالة المقصودة هنا مهتمة، قبل الاصلاح، بالتعبئة على مواجهة العنف وبالدعوة إلى تضامن أوسع القوى والجهات، بما فيها الدينية ضد من يرتكبون المجازر الداعشية باسم الدين . فضلاً عن أنه سيجد في الكتاب عرضاً مسهباً عن الحركة اللوثرية في الشمال الأوروبي، واستنتاجاً واضحاً خلاصته أن الاصلاح الديني، كما كل إصلاح، لا يمكن أن يتم إلا من الباب السياسي، وأنه يحتاج إلى سلطة سياسية، لأن المصلحين الدينيين عاجزون عن بلوغ أهدافهم، (فضلاً عن كونهم لا يرغبون ولا يسعون) بغير مساعدة تقدمها السلطة السياسية. لو فعل ذلك لما تسرع بتفسير النص، على هواه، ولما قرأ فيه مطالبة المؤسسة الدينية بالقيام بعملية الاصلاح الديني. كل ذلك لأنه، بدل أن ينقّب في المعنى، راح يتعقب المفردات.
مفردة أخرى حجبت عن نظر باسل فضاء النص، إذ يقول: "أول ما يمكن ملاحظته في الفقرة السابقة هو المحاولة التلفيقية التي اعتمدها مقلد لاستبدال كلمة “استغلال” ب”استثمار” وهي محاولة للعب على الألفاظ وتلطيف الممارسات السائدة التي تعتمدها الطبقة البرجوازية المهيمنة" (ص66)
نعود أولاً إلى "الفقرة السابقة" لنرى في أي سياق وردت العبارة ثم نبحث بعد ذلك في الفارق بين الكلمتين وأخيراً في "الأبعاد الخطيرة" والنوايا "التلفيقية" لهذا الاستبدال.
جرياً على عادته في هذا البحث، واستكمالاً لمنهجه في قراءة الكتاب، يعود باسل إلى مقالة صحافية فيقتبس منها مقطعاً ويقطعه عن سياقه ويقابله بمقطع من الكتاب مقطوع هو الآخر عن سياقه، ثم يقرر أن بينهما تناقضاً، فيما المقطعان، وإن كانا من مصدرين مختلفين، ينهلان من منهج التفكير ذاته القائل بأن الربيع العربي ثورة، وأنه ثورة ضد الاستبداد اليساري والقومي والديني.
ينطلق باسل من مقالة صحافية عنوانها، الدرس اليساري من تونس، منشورة في الحوار المتمدن، في تشرين الأول من العام 2014، أي غداة الانتخابات النيابية الثانية بعد الثورة، التي خرج فيها الاسلاميون الممثلون بحزب النهضة من السلطة، مقتبساً المقطع التالي: "العمود الفقري في قضية اليسار القديم هو سؤال العدالة ، أي ما يتعلق بتوزيع الثروة وإزالة الفروقات الطبقية وطي صفحة استثمار الانسان للأنسان، الخ. وإذا صحيح[ كذا]، ما قاله ماركس، وهو صحيح ، أن الحياة توضح لنا الحقيقة بأفضل مما توضحها الأفكار( أنها أهم من جميع أفكارنا) فقد اثبتت تجربة قرن من حياة الاشتراكية المحققة وقرنين من حياة الماركسية، أن الأولوية في حياة البشرية المعاصرة هي لسؤال الحرية لا لسؤال العدالة، من غير انتقاص من أهمية السؤال الثاني."
نعم. الاقتباس حرفي، مع خطأ لغوي في نقله، (إذا صحيح[ باللغة العامية] بدل إذا كان صحيحاً). لكن هذا النص ليس جزءاً من "صياغة مشروع يساري جديد مختلف عن السابق" كما يستنتج باحثنا، بل هو تجربة اقترحنا على اليسار الاستفادة من دروسها، و استنتجنا منها ما يؤكد الفرضيات التي انطلقنا منها في حسابات الربح والخسارة لثورات الربيع العربي. ولو أراد أن يقرأ ويحلل وينتقد اقتراحنا لبرنامج يساري جديد، فما عليه إلا العودة إلى الكتاب لا إلى المقالات، أو إلى نصوص أخرى من بينها بحث منشور في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 17-4-2012، تحت عنوان، في نقد اليسار نحو يسار عربي جديد.
الجولة الأولى من الثورة التونسية انتهت بانتصار انتخابي للتيار الاسلامي وبصياغة دستور حديث تضمّن، من بين ما تضمّنه فقرة تنص على حرية الضمير، وليس فقط على حرية المعتقد. وانتهت الدورة الثانية من الانتخابات بخروج حزب النهضة الاسلامي من السلطة. استخلصنا من هذه التجربة أن الثورة ماضية في مسارها الصحيح وأنها حققت أهم إنجاز لها وهو سن دستور جديد من شأن تطبيقه الصحيح أن يعمق التجربة الديمقراطية ويحقق قيام دولة القانون والمؤسسات بديلاً من نظام جمهوري بالوراثة أو بالتعيين أو باغتصاب السلطة. واستنتجنا أن هذا الانجاز يؤكد فرضيتنا القائلة بأولية الحرية والديمقراطية على العدالة، ودعمنا وجهة نظرنا بقول لكمال جنبلاط ورد كعنوان فرعي في كتابه، من أجل لبنان، المنشور بالفرنسية، وترجمته: ما نفع الخبز من غير الحرية؟! وقد عبرنا عن هذه الفكرة بشكل واضح في المقالة بقولنا: " أثبتت تجربة قرن من حياة الاشتراكية المحققة وقرنين من حياة الماركسية، أن الأولوية في حياة البشرية المعاصرة هي لسؤال الحرية لا لسؤال العدالة، من غير انتقاص من أهمية السؤال الثاني" في إشارة إلى عبارة سابقة في المقالة ذاتها تقول، "العمود الفقري في قضية اليسار القديم هو سؤال العدالة وما يتعلق بتوزيع الثروة وإزالة الفروقات الطبقية وطي صفحة استثمار الانسان للانسان"
لا نعتقد أن كلمة استثمار تستحق هذا الحجم من الغضب الذي دفع بصاحبنا إلى اتهامنا بالتلفيق. لنعد وإياه إلى المعنى القاموسي للكلمة. فقد ورد في لسان العرب عن الاستغلال، في المادة الثلاثية غلل: "الغلة من كراء دار وأجر غلام وفائدة أرض، واستغل عبده أي كلفه أن يغل عليه..." أما كلمة استثمار فلم ترد في لسان العرب بزيادة الأحرف (أ س ت) التي يمكن أن تزاد على الأفعال لتفيد هذا المعنى الوارد في استعبد واستثمر واستفاد واستغل ، لكن جذرها الثلاثي (ثمر) يفيد المعنى ذاته المتضمن في مادة (غلل). فقد ورد في لسان العرب : "الثمر هو حمل الشجر وأنواع المال والولد"، وبالتالي فإن الغلة والغلال مما ينتجه الزرع والأرض، كما أن الثمر هو أيضاً مما ينتجه الشجر. أما المعنى الاصطلاحي فهو ينزاح قليلاً عن المعنى القاموسي لكل من الكلمتين. ترجمتهما عن الأجنبية exploitation استغلال و investissement استثمار. المعنى القاموسي بالعربية لكل من الجذرين الثلاثيين ينتمي إلى حقل دلالي واحد( الغلال والثمر والزراعة) أما بالأجنبية فكل منهما إلى حقل دلالي مختلف عن الآخر من غير تعارض أو تناقض، وما خلو القاموس العربي القديم من كلمة استثمار إلا لأن معناها الاصطلاحي مرتبط برأس المال، أي بالحضارة الرأسمالية التي لم يتسن لابن منظور، واضع قاموس لسان العرب، أن يشهد ولادتها. غير أن الدلالة الاصطلاحية تكاد تكون واحدة لأنها تعني الاستفادة من فائض القيمة، بالتعبير الماركسي، الذي ينتجه الجهد البشري. إذن الاستغلال والاستثمار، بالمعنى السياسي المقصود في نص المقالة، يحيلان إلى المعنى ذاته.
يقتبس باسل من كتاب هل الربيع العربي ثورة، مقطعاً قصيراً ولا يكتفي بقطعه عن سياقه، بل يقتبسه منقوصاً ويبني حكمه على المحذوف عمداً. يقول باسل في الصفحة 60 من بحثه: "يمتد الارتباك المنهجي إلى مجمل كتابات مقلد، ما يؤدي بدوره إلى ارتباك مشابه على مستوى القراءة السياسية، كأن يفصل مقلد بين الثورة الفرنسية والمنظومة الرأسمالية"، ويقدم الدليل على هذا الارتباك المزدوج الشامل الكامل مقتبساً العبارة التالية من الكتاب: " سرديته (مقلد ) تقوم على أن الثورة الفرنسية لم تتمكن من أن تصنع سلاماً أهلياً، لكنها وضعت أسسه"، فيوهم قارئ بحثه بأنني أقف من الثورة الفرنسية موقفاً سلبياً وأنني أتهمها بالعجز عن صنع السلام الأهلي، في حين أن العبارة وردت داخل الكتاب في سياق مناقض تماماً.
رداً على من قرأ التاريخ العربي الحديث من غير أن يشير إلى دور الثورة الفرنسية في صناعة التاريخ الحديث للبشرية، ورداً على سرديات متنوعة نظرت إلى وقائع الربيع العربي بعين ثقافية أو من زاوية اقتصادية أو من منطلق إدانة الغرب ودوره، قلنا في الكتاب" سرديتنا نحن تستند إلى معادلة أخرى وتبدأ من الثورة الفرنسية، أم الثورات الحديثة. صحيح (محذوفة من الاقتباس) أن هذه الثورة لم تتمكن من أن تصنع سلاماً أهلياً، لكنها وضعت أسسه". الاقتباس حذف كلمة واحدة من النص فتبدلت الدلالة. كل فرضية الكتاب تنطلق من الاعتقاد بأن الربيع العربي ما هو إلا الثورة الفرنسية التي أرادها الربيع أن تأتي، ولو متأخرة، وأصرّت أنظمة الاستبداد والأحزاب الأصولية على ألا تأتي أبداً.
لم يكتف باسل بذلك بل استنتج أن هناك مشكلة مركبة ، وجه المعاناة الأول فيها أن " مقلد يفصل بين الثورة الفرنسية والثورة البرجوازية علماً بأن هناك شبه توافق على أن الثورة الفرنسية هي النقطة المحورية، نقطة الذروة، نقطة انجذاب الصراع الاجتماعي وفق نص مهدي عامل السابق. وقد أدت إلى الإطاحة التامة بنمط الانتاج الاقطاعي الذي كان سائداً في أوروبا، ووضعت نمطاً انتاجياً ونظاماً اجتماعياً جديداً عبرت عنه في شعارها “حرية إخاء مساواة”، كرست من خلاله قيم الفردية والحرية والديمقراطية. علماً أن هذا الصراع الذي يتمنى مقلد ألا يطول في العالم العربي، امتد، في فرنسا وفي مجمل أوروبا، لأكثر من مئة عام تكرست بعده القيم البرجوازية وقامت الدولة بشكلها الحالي بعد انتقالها وتبديلها لعدة دساتير". (ص60).
في هذا المقطع القصير أخطاء منهجية فادحة. أولها القرار المبرم بأن هناك مشكلة معقدة لا تصيب النص بل صاحب النص، وكلمة مشكلة تتكرر في بحثه كاللازمة: مشكلة مقلد هي (ص41)، مشكلة مقلد الأساس(ص45)، مشكلة مقلد في كل ذلك(ص45)، المشكلة هنا هي أن مقلد ...(ص50)، المشكلة هنا تنقسم إلى عدة مشكلات، الأولى ان مقلد يفصل ...(ص60)، الثانية أن مقلد يبين هذا كله بشكل ميكانيكي(ص60)، الثالثة يغفل مقلد دور الأزمات الاقتصادية(ص61)، الرابعة يستبعد مقلد المعيار الاقتصادي(ص61) الخامسة أن مقلد يحاول أن يظهر أن الأزمة أزمة سياسية(ص61)، المشكلة الأكبر أن مقلد تسرع إلى إعلان خواتيم أولية ثورية( ص66). هذا ما أمكنني رصده في البحث ما جعلني أرثي لحالتي الرازحة تحت عبء هذه المشكلات كلها.
من الرثاء لحالتي على سبيل السخرية إلى الرثاء فعلاً لحالة باحثنا، لأنه يقرر، بلا مقدمات ولا حيثيات، قراراً مبرماً مفاده أن "مقلد يفصل بين الثورة الفرنسية والثورة البرجوازية". ويدفعني هذا الحكم إلى الظن، رغم معرفتي بأن بعض الظن إثم، بأن باحثنا لم يقرأ الكتاب موضوع البحث. بداية، لست أدري علام استند في هذا الحكم، إذ يستحيل أن يجد في طول الكتاب وعرضه أي تصريح أو تلميح، كما يستحيل أن يقع فيه على أي عبارة تحتمل تفسيراً أو تأويلاً أو اجتهاداً يصب في هذا المعنى. ففي مقدمة الكتاب تعداد لفرضيات تأسيسية من بينها، وعلى رأسها، أن الرأسمالية حضارة، وأن الرأسمالية التي انطلقت في نهاية القرن الخامس عشر، متزامنة مع اكتشاف أميركا وسقوط غرناطة، وتجسدت في الثورة العلمية والفلسفية والانتقال من حضارة العصر الاقطاعي، حضارة الزراعة، إلى حضارة الآلة والصناعة، وأن هذه الثورة التي بدأت على الصعيد الاقتصادي في بريطانيا وفي البلدان المنخفضة التي كانت تخضع لسيطرة مملكة إسبانيا( مدينة أنفير البلجيكية استمرت تستقبل منذ ذلك الحين ما كان ينقل إليها من مناجم الذهب والفضة في أميركا الجنوبية) قد توجتها الثورة الفرنسية على الصعيد السياسي، وبفضل هذا الدور التتويجي حملت الثورة الرأسمالية أسم الثورة الفرنسية دون سواها من ثورات سبقتها إلى الظهور خارج فرنسا، على الصعيدين الاقتصادي والثقافي.
جهدت الأصوليات لأن تبعد عنها كأس التسمية المر، فلا هي وافقت على أن الرأسمالية ثورة ولا قبلت بتصنيفها بين الحضارات. فيما جهد الكتاب في تأكيد هاتين الثورة والحضارة لينطلق منهما ويستند إليهما ليثبت أن الربيع العربي ثورة وأنه أول ثورة بعد النبي محمد، وما كان ممكناً نعتها بالأولى بعد نشر الدعوة الاسلامية لولا وجه الشبه بينها وبين الثورة الرأسمالية، وقد برر الكتاب ذلك من خلال عرض مسهب لثلاثة أجيال من الحضارات، الدينية التي تزامن فيها الفكر التوحيدي في الديانات السماوية وغير السماوية مع الاقتصاد الزراعي، ما قبل الدينية المتزامنة مع الفكر الأسطوري والاقتصاد الريعي، وما بعد الدينية المتزامنة مع الفكر العلمي والحضارة الرأسمالية. وفي الكتاب استعراض مفصل للتطورات العلمية والاقتصادية التي مهدت للثورة الفرنسية ثم للتطورات التي أعقبتها، يستخلص منه، بصورة لا لبس فيها، أن أحداث الربيع العربي أطلقت شرارة الثورة السياسية، تمثلاً بالثورة الفرنسية التي توجت وحمت تغييرات ثورية سبقتها زمنياً في الفكر وفي الاقتصاد( الرأسمالي). مع ذلك يرى باحثنا أن "مقلد يفصل بين الثورة الفرنسية والثورة البرجوازية".
السبب ذاته، التعلق بالمفردة بدل تعقب الفكرة. ربما خلا الكتاب من بعض مصطلحات منقولة من حقل الاقتصاد إلى الحقل السياسي، من بينها كلمة "البرجوازية"، وكان يمكن أن تكون ملاحظة باحثنا جدية لو تناول الفكرة من زاوية منهج "المسكوت عنه". كان يمكنه اتهام الكاتب بإغفاله المتعمد مصطلحات يحسبها الفكر"المرتد" من العدّة الإيديولوجية اليسارية. غير أن ملاحظته مبنية على خطأ منهجي يتعلق باستخدامه المراجع والاقتباسات وبعودته إليها من خلال ربطها ربطاً غير محكم بالفكرة التي يناقشها، ربطاً يقوم على التداعيات اللغوية لا على تناسل الأفكار وتسلسلها المنطقي، فراحت المفردات تتداعى، ثورة، ماركس، ، رأسمالية متوحشة، استعمار، حزب شيوعي، صراع طبقي، طبقات، برجوازية. وأفضل من ربط ما بين هذه المصطلحات مهدي عامل المفكر والشهيد الشيوعي فكان من الطبيعي أن تحط التداعيات رحالها في كتاباته عن الثورة.
غير أن باسل لم يفصل بدقة بين قول منسوب لمهدي عامل وأقوال أخرى لسواه. وهذا خطأ ثان في هذا المقطع القصير. فقد ألحق الجملة الأولى" مقلد لم يفصل..." بثانية يؤكد فيها الإدانة ( عدم الفصل) ويعللها بقوله " علماً أن هناك شبه توافق على أن الثورة الفرنسية هي النقطة المحورية... " من غير أن يشرح لنا بين من ومن حصل ذاك التوافق، ربما لأنه يرى تحققه ممكناً بمجرد نسبته إلى مهدي عامل " وفق نص مهدي عامل السابق"، ثم يتبعهما بمقطع يضيع نسبه بين الباحث ومهدي و كتاب الربيع العربي، إذ يقول باسل: " علماً أن هذا الصراع الذي يتمنى مقلد ألا يطول في العالم العربي( جملة مقتبسة من كتاب الربيع العربي قبل أسطر وصرح الكاتب باقتباسها )، امتد في فرنسا وفي مجمل أوروبا لأكثر من مئة عام، تكرست بعده القيم البرجوازية، وقامت الدولة بشكلها الحالي بعد انتقالها وتبديلها لعدة دساتير". استهلال الجملة بعبارة "علماً أن" ينطوي ضمناً على اتهام مقلد بإغفال أهمية الثورة الفرنسية، فاستحق التنبيه والتذكير بأهميتها وبأنها ليست لحظة عابرة بل هي امتدت قرناً من الزمان. ربما تكون هذه الفكرة قد دخلت في طبقات الذاكرة حين قرأ باسل كتاب هل الربيع العربي ثورة؟ وحين بدأ بحثه استحضر الفكرة ونسي مصدرها، وربما كان مصدرها، الأقرب زمنياً إلى تاريخ كتابة البحث، أربع صفحات من كتابنا 135-138 استعرضت أحداث ذلك القرن، المتعلقة بالثورة الفرنسية وتعرجاتها ودساتيرها وكوموناتها وتقلباتها، للرد على حالة الاحباط واليأس أو على حالة التسرع والحماس، اللتين استقبلت بهما الثورة في أوساط الجمهور العربي الواسع.
غير أننا سنحاول أن نقرأ في العودة إلى مهدي عامل والاستعانة به شيئا آخر غير التداعيات اللغوية، صنفناه، منذ قليل في خانة المسكوت عنه. أطبقه أولا على المسكوت عنه في كتاب الربيع العربي لأساعد باسل على تفسير عدم استخدامي مصطلح البرجوازية. فقد يكون شكلاً من أشكال التعبير الضمني عن الاعتراض على قراءة اقتصادية للربيع العربي، ما يفسر استبعاد بعض مصطلحات من حقلها المعجمي والتركيز على مصطلحات من الحقل المعجمي السياسي، استناداً إلى الاقتناع بأن القراءة السياسية وحدها هي القادرة على فهم أبعاد الربيع وأهدافه البعيدة، وبأن القراءتين الاقتصادية والثقافية ( رائد الأولى سمير أمين والثانية أدونيس) غير قادرتين على الإجابة على السؤال الأساسي الذي طرحته الأحداث، سؤال الحرية، أو سؤال التخلص من أنظمة الاستبداد.
المسكوت عنه في عودة باسل إلى مهدي عامل ربما كان أكثر وضوحاً. فهو يرفض قراءتي التي تحمّل العوامل الداخلية مسؤولية التخلف، ويميل إلى تحميلها للعوامل الخارجية، ممثلة بالاستعمار والصهيونية، ولذلك وجد أن خير من يستعين به رداً على "مشكلاتي" و" تشويهاتي" و"تناقضاتي" وعلى "اختلالات" التحليل، وغير ذلك مما عده باسل خروجاً على المألوف اليساري الذي غرف منه خلال تكوينه الفكري والسياسي. مهدي عامل "شاهد من أهله"، ومرجع لا يرقى إلى يساريته شك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
استعان باسل بمهدي عامل ليعيد تحليل الربيع العربي إلى جادة الصواب اليساري، وينقض ما في كتاب الربيع العربي من كلام غير مألوف عن الرأسمالية والاستعمار والحضارة وعن اليسار والأصوليات وعن استبداد الأنظمة والأحزاب. لقد تناول مهدي هذه القضايا وسواها استناداً إلى تكوينه النظري الفلسفي، وإلى اعتماده منهج التحليل المادي على ضوء الماركسية وعلى ضوء الخط السياسي للحزب الشيوعي اللبناني والنهج "الرسمي" للأممية الثالثة، التي كانت تضم "الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية وحركات التحرر في العالم والمعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي".
هذان الخط السياسي والنهج الرسمي كانا ينطلقان من الاعتقاد بأن هذا العصر هو "عصر الانتقال إلى الاشتراكية". مهدي عامل قضى شهيداً قبل أن يشهد سقوط هذه الفرضية وسقوط الأممية وانهيار الشيوعية وأحزابها وحلفائها في حركات التحرر. ولم تكن كتاباته إلا صياغة شديدة التماسك للأساس النظري الفلسفي للخط السياسي الذي وضعته قيادة تمتاز بكفاءة سياسية عالية وببراعة في تحليل الأوضاع الملموسة في لبنان والعالم العربي وفي وضع الخطط وبرامج المواجهة، لكنها، بحسب تعبيره، كانت تجهل الأساس النظري الفلسفي الذي يبنى عليه نهجها السياسي السليم( قال هذا الكلام ممازحاً قيادة الحزب وأجزت لنفسي بنشره في الصحافة في إحدى مناسبات تكريمه السنوية)
سنترك لمهدي عامل أن يصوغ بنفسه المفهوم الإجرائي( نمط الانتاج الكولونيالي) الذي استخدمه في التفسير الماركسي لنظرية الثورة. يرى مهدي أن " سيطرة الاستعمار على البلدان المتخلفة قائمة في وجود علاقات الانتاج نفسها في هذه البلدان، كعلاقات انتاج كولونيالية" (ص 284، من كتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، القسم الثاني، في نمط الانتاج الكولونيالي، ملحق رقم واحد، الاستعمار والتخلف، منشورات دار الفارابي، بيروت، 1976)، ويستكمل هذه الرؤية بقوله إن " منطق الثورة التحررية هو بمثابة انتقال عنيف من نظام انتاج محدد إلى نظام انتاج آخر، من الكولونيالية إلى الاشتراكية" (م.ن.ص267).
الثورة التي قصدها مهدي هي غير الثورة التي عالجنا موضوعها في كتاب، هل الربيع العربي ثورة؟ الأولى تتناول قضية الانتقال من الكولونيالية( وهي نمط مشوه من الرأسمالية التابعة) إلى نمط الانتاج الاشتراكي، فيما الانتقال في الثانية ليس من نمط إنتاج إلى نمط آخر، بل انتقال داخل نمط الانتاج الرأسمالي من أنظمة الاستبداد إلى الأنظمة الديمقراطية. وإذا كانت الثورة في الأولى اقتصادية الطابع، أي تهدف إلى تغيير نمط الانتاج، فهي في الثانية محصورة في الحقل السياسي، أولاً لأن غايتها تغيير طبيعة النظام السياسي لا تغيير نمط الانتاج، وثانياً لأن الحلول الممكنة لكافة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والبيئية، في أوضاعنا الملموسة، لا يمكن الولوج إليها إلا من الباب السياسي.
التحليل الذي يتناول ثورة الربيع لا يصوّب على الرأسمالية كنمط إنتاج اقتصادي، لأنه يرى، خلافاً للتحليل الطبقي، أن أسباب انفجار الازمة، في الظروف الملموسة للعالم العربي، لم تكن ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، رغم أن العامل الاجتماعي هو الذي فجر الصاعق التونسي، إذ إن الصاعق ليس القنبلة، بل إن دوره يقتصر على تفجيرها. غير أن القراءة الاقتصادية لم تميز بين القنبلة والصاعق
منهج التعلق بالمفردة بدل الفكرة أوهم الباحث بأن كلام مهدي عامل عن "الثورة" الاشتراكية قد يصحح اعوجاج التحليل عن "ثورة" الربيع العربي، وذلك لأنه لم يميز بين ثورة من داخل الرأسمالية وثورة على الرأسمالية، متوحشة كانت أو استعمارية أو كولونيالية، ما يدفعني، مرة أخرى، إلى الظن سوءاً بقراءة باسل، لأن الرغبة والتصميم على إعادة النظر بالمصطلحات اليسارية، ولا سيما السياسية منها، ليس فحسب أمراً ظاهراً للعيان في الكتاب، بل هو الأمر الصريح الذي ركّزنا على إبرازه من السطور الأولى، ولم نترك مجالاً لأي تفسير أو تأويل واجتهاد.
إن الفكر اليساري ، انسجاماً مع علاقاته الوطيدة التحالفية أو التابعة مع الاتحاد السوفياتي، كان يرى الخطر الأساسي مجسداً بالرأسمالية والاستعمار، فيما كشف انهيار التجربة الاشتراكية والأحزاب المرتبطة بها أو المتحالفة معها، أن الخطر الأساسي، في الوضع الملموس لبلادنا، يتمثل بأنظمة الاستبداد الملكية والجمهورية، التي ربضت على صدر الأمة العربية، منذ مرحلة الاستقلال، وتذرعت بالمصالح القومية العليا وبقضايا التقدم والاشتراكية والسلم العالمي، لتمارس القهر على شعوبها وتحتكر السلطة وتضع بلدان العالم العربي أمام خياري تأبيد الاستبداد أو الحروب الأهلية، من غير أن يعني ذلك أننا نرفع عن العوامل الخارجية مسؤولية التواطؤ مع أنظمة الاستبداد التي تحمي مصالح الدول الرأسمالية وتوفر لها الظروف المناسبة لاستثماراته.
بدل أن يناقش باسل قراءتي النقدية لتجربتنا اليسارية التي عرضتها في كتاب الربيع العربي، استوقفه كلامي عن الاستعمار في مقالتين صحافيتين، هما عبارة عن مشاهدات وانطباعات خلال رحلة سياحية على متن باخرة ضخمة "تجمّع فيها كل لسن وأمة". بين الكتاب والمقالة لم يتبدل الموقف من القضايا ولم تتغير الرؤيا، بل زاوية الرؤيا هي التي تختلف بين بحث تتشعب فيه الأفكار ومقالة يدور محورها على فكرة واحدة. ماذا قال الكتاب عن الرأسمالية وماذا قالت المقالة؟ كيف قيلت الفكرة ذاتها هنا وهناك؟
الكتاب استعرض التحولات الثقافية والعلمية والاقتصادية في أوروبا من بداية القرن السادس عشر، وقارن بينها وبين ما شهدته بلدان العالم خارج أوروبا، واستنتج أن الجديد في تلك التحولات هو قيام حضارة جديدة هي الحضارة الرأسمالية. لم "يخترع" الكتاب جديداً في هذا الاستنتاج، لكن الجديد هو ما اقترحه على أصحاب التجارب النضالية وعلى المهتمين بكتابة تاريخ هذه المنطقة، طالباً إليهم قراءة هذا التاريخ وتلك التحولات بعين نقدية، وإعادة النظر بالقراءات التي كانت تمليها نظرية "التحرر الوطني"، والنظر، بالتالي، إلى الجديد الأوروبي على أنه حضارة، وتسميتها باسمها، الرأسمالية، بديلاً عن الأسماء والنعوت غير الحسنى التي انطبعت في اللغة الكفاحية لحركات التحرر الوطني، والتمعن بكونية هذه الحضارة، وبآليات نشوئها وتكونها التي تنزع دوماً إلى التوسع، بهدف تأمين مواد أولية وأسواق لتصريف بضائعها، ولهذا كان من بين أهم إنجازاتها تطوير الاتصالات بشبكات بحرية وبرية، ثم بشبكة جوية وصولا إلى شبكات التواصل عبر الأثير، بدءاً بالهاتف وصولاً إلى الأقمار الأصطناعية وشبكات التواصل الاجتماعي بواسطة الانترنت.
الرأسمالية تعني التوسع إذن، ولا رأسمالية من غير توسع. ولذلك فهي بدت، من هذه الزاوية، كأنها عدوان على أنماط العيش وأنماط الانتاج المادي والفكري، وعلى العادات والتقاليد، في البلدان التي وصلت إليها وسائل الاتصال الرأسمالية ودخلت وسيطرت، بالعنف والاحتلال، على غرار ما حصل في أميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا، أو بالوسائل السلمية كما في اليابان. ولم تتوقف الحضارة الرأسمالية عند حدود اليابسة على الكرة الأرضية فهي راحت تغوص في أعماق البحار وتمخر عباب "السماوات السبع"، بحثاً عن أي مجال للاستثمار في أي مكان من هذا الكون الواسع. الاستعمار، إذن، هو جزء من آليات التوسع الأفقي في الحضارة الرأسمالية، أي أنه جزء من تكوينها الداخلي، ولا يمكن، بالتالي الفصل بين الرأسمالية وطابعها التوسعي، والفصل بينهما كالفصل بين الوردة وعطرها، ولا يمكن، بالتالي، التعامل معهما بانتقائية، فنقبل أحدهما ونرفض الآخر، لأنه من المستحيل إيقاف نزوعها الحتمي والطبيعي إلى التوسع، إلا بالقضاء عليها وإلغائها، واستبدالها بحضارة أخرى. هذا ما حاولته الاشتراكية وفشلت.
من ناحية أخرى، لا يجوز أن ننظر نظرة واحدة إلى طرق التوسع الرأسمالي المختلفة وأساليبها المتنوعة في الدخول إلى العالم العربي. فهي احتلت الجزائر واستعمرتها لأكثر من قرن من الزمن ولم تخرج منها إلا بعد حرب تحرير فادحة الأثمان، لكن إقامتها المؤقتة في المشرق العربي في فترة ما بين الحربين، لم تستلزم حرب تحرير أو كفاحاً مسلحاً، من غير انتقاص من التضحيات التي قدمتها شعوب المشرق في لبنان وسوريا والعراق لنيلها الاستقلال.
من ناحية ثالثة، بلدان العالم العربي بدأت تتشكل كبلدان، كأوطان، في فترة ما بين الحربين العالميتين. ما يعني أن تاريخها الحديث بدأ مع بناء الوطن والدولة في كل منها، وبالتالي فإن كل فكرة التحرر الوطني من الاستعمار لم تجد لها محلاً من الإعراب، على الأقل في المشرق العربي، وذلك لثلاثة أسباب. الأول هو أن التنافس بين الدول الرأسمالية على السيطرة قصّر مهلة انتدابها. الثاني هو أن النظام الراسمالي العالمي لا يمانع في أن تدير القوى المحلية شؤونها بنفسها إذا لم يتعارض ذلك مع مصالحها. الثالث هو الدور الإيجابي الذي لعبه الاتحاد السوفياتي لإثبات وجوده على ساحة الصراع الدولي، مناصراً دول العالم الثالث في نيل استقلالها.
بعد أن تحول الصراع العالمي إلى مواجهة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، تراجع التنافس بين البلدان الرأسمالية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فصار من الأجدى للتحريض على الغرب الرأسمالي إبراز صفته كمستعمر، رغم زوال أشكاله الأولى في كثير من البلدان المستعمرة، ونعني بالأشكال الأولى الاحتلال بالقوة العسكرية، والاشراف المباشر على إدارة شؤون البلاد، وهو ما لم يعد موجوداً بعد قيام الدول ذات السيادة، وبعد أن تم استبداله بأشكال من السيطرة الرأسمالية وبآليات للاستثمار لا تحتاج إلى احتلال عسكري أو سيطرة مباشرة.
هذا في الكتاب. أما المقالة فمن غير المنطقي أن تقول شيئاً مناقضاً، بل ستقول الشيء ذاته لكن بما يتناسب مع حجم المقالة وخصائصها، استناداً إلى قاعدة ذهبية في الكتابة، وهي أن لكل مقام مقالاً. هي ليست مقالة، بل اثنتان، تحملان عنوانين استفزازيين: حاجتنا إلى الاستعمار، وجاذبية بلاد الاستعمار. والمقالتان تشيران إلى ما تنعم به بلاد "الاستعمار" من استقرار يجذب السائحين من كل بلدان العالم، وذلك بالضد على الحروب الأهلية في بلداننا، فالإشادة، إن كانت إشادة، تعني الاستقرار مقابل حروبنا الأهلية، ولا تعني النظام الرأسمالي الذي أشار الكتاب إلى الكلفة العالية التي دفعتها البشرية بسبب نزعته التوسعية، حربين عالميتين على الأقل. وفي المقالتين مقارنة بين ما كانت عليه بلادنا في مرحلة "الاستعمار" وما صارت عليه في زمن الأنظمة الاستبدادية.
ورد في إحداهما أن "الاستعمار كان شرطا من شروط قيام النظام الرأسمالي في القرن السادس عشر، بعد اكتشاف أميركا ورأس الرجاء الصالح. هذا ما تقوله لنا متاحف البرتغال وإسبانيا حيث ترتفع أنصاب التكريم لفاسكو دي غاما وكريستوف كولومبوس، أو أنصاب التكريم لشهداء الجزائر الذين سقطوا في النورماندي دفاعا عن فرنسا ضد النازية. وهذا ما تقوله لنا كتب التاريخ حين تروي حكاية حرب البهار وطريقها الشبيهة بطريق الحرير، التي شقتها البرتغال بين البحر والبر من المتوسط حتى أندونيسيا وجزيرة جاوا، أو حكاية الغزو الأوروبي لأميركا واستئصال سكانها الأصليين من الهنود الحمر في الشمال وتدجينهم في الجنوب ، أو كل الحكايات التي تبرز حقيقة واحدة هي أن الاستعمار كان حاجة ملحة لقيام النظام الرأسمالي العالمي، وسيبقى حاجة لتوسعه الأفقي، على ما وصف ماركس".
"الاستعمار هو لتوفير المواد الأولية لمصانعه والأسواق لبيع بضائعه. والاستعمار، بلغة السياسة والاقتصاد والنضال الوطني، هو لنهب خيرات الشعوب. لكن ذلك حصل في زمن مضى، ثم تغيرت آليات النهب وآليات التجارة، وانتهت تلك المرحلة مع الحرب العالمية الثانية بتفكك الاستعمار القديم الذي لم يبق منه اليوم إلا الاغتصاب الصهيوني لأرض فلسطين".
ربما يكون باسل قد قرأ ما في الكتاب، ولم تستوقفه الأسئلة التي طرحها، ولا استجاب لدعوتنا أياه إلى قراءة نقدية لمرحلة "التحرر الوطني". لكن من المؤكد أنه قرأ المقالة بعين " التحرر الوطني" ووجد أن فيها "إشادة" بالاستعمار، وقال: "لا يقف التفخيم بالاستعمار عند هذا الحد، بل يرى مقلد" "أن بلاد الاستعمار محجة للعلم والاستشفاء وتهريب الأموال، منها نستورد التقدم ، وهي ملاذ الحكام الفاسدين، وملاذ المستثمرين والهاربين من جور الحكام ومن فسادهم والباحثين عن الأمن والأمان"(ص59). إنه رأى في المقالة تفخيماً بالاستعمار، من غير أن يشير إلى وجود كلمة تفخيم واحدة، بل أكثر من ذلك، وحين لاحظ أن الكلام تجاوز حد التفخيم، لم يجد ما يقتبسه إلا من المقالة سوى عبارات عن "طبائع الاستبداد" في أنظمتنا.
قلنا في المقالة الثانية، حاجتنا إلى الاستعمار، أن "الاستعمار فتح المدارس ونحن أغلقناها . الاستعمار مد سكة الحديد ونحن فككناها . شقت المرأة درب التحرر من مصر ولبنان وتونس ، فأعادتها الأصوليات الدينية إلى الحجاب والبرقع . استلمنا من الاستعمار أوطانا بدساتير وقوانين ، فجعلناها دويلات وإمارات وعلقنا الدساتير وانتهكنا القوانين، وأعلنا الأحكام العرفية وأنظمة الشريعة ، ولا شريعة ولا مشرعين".
الفكرة الأساسية في هذا النص واضحة على ما نظن، فهي تتمحور حول الدور السلبي لأنظمة الاستبداد. والفكرة ليست أكثر من انطباع تكوّن خلال الرحلة السياحية واستدعى مقارنة بين ما كنا عليه عند بداية الاستقلال وما آلت إليه أوضاعنا في ظل حكم الأنظمة " التقدمية" المجاهرة بعدائها "للصهيونية والامبريالية والاستعمار". كيف قرأ باسل هذا المقطع من المقالة وكيف رد عليه؟
استنتج باسل أن مقلد"... يوغل في تفخيم الاستعمار، وفي تسطيح القضايا" (ص57)، ثم " لا يتوانى عن التفخيم"(ص59)، ثم يضيف، " إذ من الواجب التذكير أن الدول الرأسمالية استعمرت البلاد بناء على نزوع رأسمالي داخلي كان يهدد المنظومة الرأسمالية بالذات، مع ما يعكسه من أزمة كانت تعصف بتلك الدول الرأسمالية نفسها"(ص57) ويحيل القارئ في الهامش إلى مهدي عامل، "انظر: عامل، مهدي، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، ص261-263
توجهنا إلى كتاب مهدي عامل، فوجدنا أن جزئين من هذا الكتاب(قسمين) يحملان العنوان ذاته، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، مع عنوان فرعي في القسم الأول: في التناقض، وعنوان فرعي في القسم الثاني: في نمط الانتاج الكولونيالي. تفحصنا الصفحات الثلاث، 261، 262، 263 من القسم الأول ولم نجد أثراً لأي كلام عن أزمة الرأسمالية، وما تتناوله هذه الصفحات هو تحليل نظري للتميز والكونية في الماركسية اللينينية، ولمسألة الممارسة السياسية والممارسة النظرية. قصدنا الصفحات ذاتها من القسم الثاني، ولم نجد أثراً أيضاً لأي كلام عن أزمة الرأسمالية، والكلام فيها محصور بتوصيف نمط الانتاج الرأسمالي في البلدان المتخلفة، وهو النمط الذي أطلق عليه مهدي عامل مصطلح، نمط الانتاج الكولونيالي.
يستبعد باسل أي فضيلة عن "الاستعمار". حتى الارساليات في لبنان، فإن الاشارة إلى دورها الإيجابي "غير دقيق..... لأن وظيفتها الأساسيةهو محاولة تكريس تشتيت الجماعات، وإعادة إنتاج قيم الاستعمار بعد نسجه لتحالفات موضعية مع التجار وملاكي الأراضي وأعيان الطوائف، لا بل المذاهب وشيوخها، والتي حولها إلى برجوازية تابعة بعد أن كان بعضها يحاول إن يكون برجوازية أصيلة "(ص57) وهو يحيل القارئ هنا إلى مهدي عامل على الشكل التالي: انظر:عامل، مهدي، الاستعمار والتخلف، القسم الثاني، ص445-446. الإحالة بكلمة أنظر، تعني انه استند إلى نص مهدي من غير أن يقتبس منه. غير أن الإحالة لم تكن دقيقة، لأن القسم الثاني من كتاب مهدي عامل لا يتجاوز 342صفحة، إلا إذا كانت طبعة أخرى قد جمعت القسمين في مجلد واحد، غير أن باحثنا لم يشر إلى ذلك. من ناحية أخرى، القسم الثاني من الكتاب يحمل عنواناً فرعياً، في نمط الانتاج الكولونيالي، أما "الاستعمار والتخلف" فهو عنوان الملحق رقم 2 ، من أصل ثلاثة ملاحق أضيفت إلى متن الكتاب.
بعد هذه الملاحظة حول تقنيات المنهج وخصائص الاقتباس، نعود إلى المضمون. جرياً على عادته، استوقفته المفردات، ولم يقرأ النص بكامله. فاجأه ما جاء في المقالة "الاستعمار فتح المدارس ونحن أغلقناها... مد سكة الحديد ونحن فككناها. شقت المرأة درب التحرر... الخ" فحكم على هذا القول انه غير "علمي... وكأن السبب الحقيقي للخلل الكامن هو الداخل"(ص55). فالقول يكون علمياً حين يحمّل الاستعمار مسؤولية التخلف، ويكون علمياً حين يبرئ "أنظمتنا وسياسيينا". مرة جديدة، يقفز باسل فوق الشرح المسهب لأولية العوامل الداخلية في النهوض وفي التخلف، الوارد في الكتاب، ثم يزعم أن الكتاب ذاته هو بالضبط موضوع دراسته المستفيضة. نكتفي هنا بتذكير باحثنا الكريم بأن عصر الانحطاط العربي لم يبدأ مع الرأسمالية والاستعمار في نهاية القرن الثامن عشر ، بل في نهاية الألفية الأولى، مع سقوط الخلافة في بغداد ونشوء الدويلات، ثم مع الغزو الصليبي وتيمورلنك... أما حضور الغرب الرأسمالي إلى بلادنا، مع نابليون بونابارت، فهو الذي أرّخ لبداية النهضة العربية الحديثة.
لا بد من القول في نهاية هذه الفقرة، أن العودة إلى مهدي عامل قد تكون مفيدة في نواحٍ كثيرة، ونحن من أوائل من تعلموا منه واستفادوا من قوة حجته وتماسك منطقه ووضوح رؤيته وصلابة موقفه وبراعته في المساجلة وقدرته على الدفاع عن أفكاره، إلا أن منهج مهدي في النظر إلى أزماتنا هو ذاته منهج نظر اليسار الذي نحن بصدد قراءته قراءة نقدية، وهو ذاته المبني على الفرضية القائلة إن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية. لقد سبق أن أدرجنا فكرة مهدي عن "نمط الانتاج الكولونيالي" مع فكرة سمير أمين عن "الاقتصاد المتمحور على الذات"، كتعبيرين نظريين عن الخط السياسي الشيوعي القائل بفك التبعية عن الاستعمار، ورأينا أنه بات من الضروري، بعد انهيار التجربة الاشتراكية، التي استشرف سقوطها سمير أمين واستبعده مهدي عامل، أن يبحث الفكر الماركسي عن صيغة جديدة لتخليص البشرية من شرور الرأسمالية. إني لأتخيل، من موقع معرفتي الوثيقة بمهدي وفكره النقدي، أنه لو عاد حياً لما تردد لحظة في قراءة تجربته النظرية قراءة نقدية، ولاسيما أن واقع الحال يثبت أن الديمقراطية ليست أقل كلفة من الاشتراكية، فليس أمام العالم العربي إلا ممر إلزامي واحد رسمته أنظمة الاستبداد بدماء شعوبها، هذا الممر هو الحروب الأهلية.
مفردات كثيرة استوقفت باسل، وثغرات في المنهج لا تحصى ولا تعد، وأخرى في أشكال التعبير التي لم تحترم قواعد البلاغة والفصاحة، غير أننا سنتوقف عند مصطلح الدولة، الذي تعامل باسل معه بصفته مفردة لغوية لا تحمل غير معناها القاموسي.
حتى لا يعتبر باسل هذا الحكم افتئاتاً على بحثه، لا بد من تذكيره بأن موضوع الدولة، مشروع الدولة، مصطلح الدولة، فكرة الدولة، ليس مجرد كلمة عابرة، بل هو ما حفزتنا على رفع شعاره حادثة استشهاد مهدي عامل، الحادثة التي ألحّت علينا، استجابة للمبادئ التي آمن بها مهدي، بأن نقرأ التجربة قراءة نقدية بعد انهيار مشروعنا اليساري اللبناني وانهيار مشروع اليسار العالمي. نعم، هذه الحادثة بالذات وليس سواها. الرصاصات التي أصابت مهدي أطلقها أخوة ورفاق من الخندق الواحد. لم يكن الأمر بالبساطة التي عبرت عنها كلمات الرثاء الرسمي التي دعتنا إلى العض على الجرح حتى لا نضيّع البوصلة، فنصوّب على غير العدو الرئيسي، الامبريالية والصهيونية والاستعمار. أسئلة وتساؤلات سياسية وفكرية ووجدانية سقطت علينا كالصاعقة. هل هذا العدو هو حقاً عدو مشترك لأهل الخندق الواحد؟ كيف يتشكل الخندق الواحد؟ وكيف يتفق أهل الخندق الواحد على عدو واحد؟
لم يقتل مهدي عامل برصاص طائش. ولا برصاص الامبريالية والصهيونية والاستعمار. ولا عن طريق الخطأ. قتله من كان معه في الخندق. إذن لا بد من وجود خطأ ما في تصميم الخندق وفي اختيار المتمترسين فيه. الأصوليات القومية والدينية واليسارية تخيلته خندقاً واحداً، لا لأنه واحد من أجل البناء، من أجل المستقبل، بل لأنه واحد في العداء، واحد في رفض الآخر. هذا هو المعنى الذي أزعج باسل وأغضبه وأخرج منهجه في البحث عن طوره ، معنى أن الحركات الأصولية، الدينية والقومية واليسارية، المتحالفة داخل الخندق الواحد " لم تنشأ باعتبارها حاجة تمليها ضرورات التطور التاريخي لبلدان العالم العربي، بل كحاجة لمواجهة الآخر المتمثل بالاستعمار الأجنبي، ولم تقصر الدول الرأسمالية في تأمين الذرائع لتحويل الحركات القومية إلى حركات شوفينية مبنية على التعصب والعداء للآخر"، نعم لم يعجبه قولي هذا. هذه الأصوليات التي تعادي الأبعدين ثم لا يلبث أن يصير العدو الآخر صاحب كل رأي مختلف، حتى لو كان من الأقربين . معنى أن حسن حمدان، مهدي عامل، لم يكن الضحية الوحيدة للاستبداد الأصولي، فما أكثر شهداء الفكر وشهداء الرأي الآخر في عالمنا العربي المحكوم بالاستبداد.
هذا الوصلة الوجدانية ليست خروجاً عن الموضوع، بل بالعكس، كان لا بد منها، لأن استشهاد استاذي وصديقي ورفيقي مهدي عامل هو الذي فتح لي باب القراءة النقدية لتجربتنا في الفكر والسياسة والحرب الأهلية، على مصراعيه، فتدفقت الأسئلة، عن الحرب الأهلية والأنظمة التقدمية والأممية الاشتراكية والسلام العالمي والسعادة والحرية والشقاء البشري، وعن الحب والكره والصداقة والتعاون والمكائد، وعن الأنظمة والأجهزة، عن الدين والنظام والقانون والديمقراطية، كما عن التضحية والفداء والموت والقهر والاستعباد والاستبداد. كل الأجوبة السابقة التي تعلمناها سقطت يوم مات حسن حمدان، وقد بات على ورثته ومحبيه أن يقوموا بالقراءة النقدية التي كان يمكن أن ينجزها بنفسه لو شهد انهيار الاشتراكية بأم عينه.
جوابي الأول على تلك الاسئلة الوجدانية الوجودية: مهدي كان يستحق أن يعيش، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. وجوابي الثاني، أنه لم يمت برصاص غريب، ربما كنا جميعاً، هو وأنا وأنت، فضلاً عن الامبريالية والصهيونية والاستعمار، مشاركين في قتله. إنها الحرب التي انخرطنا فيها. لو لم تكن الحرب الأهلية لما مات. إنها رفض الآخر وعدم الاعتراف به وإلغاؤه. الرصاصة القاتلة لا يطلقها إلا من يكره الآخر. إنها المشروع السياسي المبني على العداء للآخر، والآخر هذا هو الأقرب في المكان وفي الزمان، حيث لا يحتاج المسلّح بالبندقية إلى قراءة التاريخ ولا إلى استشراف المستقبل، لا يحتاج إلى علم وثقافة لكي يصير مقاتلاً ومن ثم قاتلاً. فهناك من يفكر عنه ويشحنه بما يكفي من التحريض على القتل. صحيح أن التاريخ لم يشهد مقتلة بين المثقفين، لكن حروباً كثيرة في التاريخ نشبت بسبب كلمة أو فكرة أو شعار.
رحت أبحث عن تلك الكلمات والأفكار والشعارات القاتلة التي أودت بحياة مهدي، والتي كان يمكن أن تصيبني ونجوت منها بأعجوبة، مثل كثيرين سواي من الأحياء بالصدفة في هذه الحرب الأهلية. رأيت، في ما رأيت، أن وراء كل عملية قتل أو اغتيال مشروعاً سياسياً، ورأيت أن الحوار بين مختلف المشاريع، المتخاصمة أو المتقاربة أو المتحالفة، يمكن أن يستخدم، بدل لغة السلاح، لغة الحوار والتفاعل والاحتكام إلى الرأي العام، فيما لو كان النظام السياسي قادراً على احتواء التوترات وتنظيمها بدل تفجيرها. الاشتراكية هي الحل، الاسلام هو الحل، الوحدة العربية هي الحل، أو بالحد الأدنى وحدة الهلال الخصيب، التقسيم هو الحل، الوطني القومي المسيحي هو الحل، تحرير فلسطين هو الحل. تلك كانت المشاريع التي تقاتلت بما فيه الكفاية وانتهت بهزيمتها جميعاً وبتدمير الوطن. وتلك هي مصائر كل الحروب الأهلية التي لا ينتصر فيها سوى طرف خارجي، هو النظام السوري في حالة لبنان، وهو الآن روسيا في حالة الحرب في سوريا.
رأيت في ما رأيت أنه لا بد من الاعتراف والاقرار بأن الانخراط في الحرب اللبنانية خطيئة بحق الوطن وبحق القضايا السامية التي تستحق أن نعيش من أجلها ونناضل في سبيلها، لا أن نموت. مثل هذا الاعتراف يملي علينا أن نستكمل ما كان مهدي قد دعا إليه، أن تكون قراءتنا قراءة نقدية أو لا تكون، ويملي علينا، من باب أولى، ألا يستخدم أحدٌ فكر مهدي لتبرير المقتلة أو للدفاع عن القتلة.
ورأيت، في ما رأيت، أن أصحاب هذه المشاريع من فرقاء الصراع الداخلي هم الذين استدرجوا الأعداء والاصدقاء والأخوة والأشقاء واستقووا بهم على أبناء الوطن. ورأيت أنه آن الأوان لقرار جريء يتخذه المتحاربون ، يقضي بوقف الحرب والبحث عن حل يحصّن وحدة الوطن وينظّم الاختلافات والتناقضات، لا أن يلغيها. الحل هو الدولة. ولكن، ليست أية دولة، ليست الدولة التي كان يسعى صاحب كل مشروع لبنائها. لا الدولة الاسلامية ولا دولة الوحدة العربية ولا دولة الوطن القومي المسيحي ولا الدولة الاشتراكية، ومن باب أولى، ليست دولة المحاصصة التي لم تتمكن من احتضان أبنائها ولم تعرف كيف تدير شؤونهم. بل هي دولة القانون والمؤسسات، دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص والعدالة، الدولة التي تحمي الحريات وتصون التنوع والتعدد في ظل الديمقراطية. هذه الدولة ليست سوى الدولة التي هي من منجزات الحضارة الرأسمالية.
فكرة الدولة ليست اختراعاً حديث العهد، لكن الدفاع عن مشروع الدولة في بداية التسعينات من القرن الماضي تكشف لي عن حقيقتين. الأولى أن رفع شعار الدولة في وجه الأحزاب والميليشيات ونظام الوصاية كان بمثابة مغامرة، لأنه شكل، في حينه، اعتداء على مشروع كل منهم. الثانية هي أن الوعي السياسي، على كل مستوى، كان، في معظمه، وما زال حتى الآن، يخلط بين الدولة والسلطة، غير أن الكتابة عن مشروع الدولة لم يذهب هباء. بعد ثلاثة عقود صار على كل شفة ولسان، على تفاوت في فصاحة النطق به فيناور البعض ويراوغ آخرون ويغمغم فريق ثالث بما يشبه التأتأة.
استوقفتنا في بحث باسل الخفة في تناول موضوع الدولة، والأخطاء المنهجية الفادحة. تؤكد لي ملاحظاته أنه لم يقرأ الكتاب موضوع بحثه، فهو يناقش أفكاراً غير موجودة في الكتاب، ويستند إلى شرح مغلوط لأفكار أخرى، ويحيل القارئ إلى مراجع غير موجودة. من بين الأدلة الكثيرة على هذه الخفة، الطريقة التي كان باسل يقرأ فيها فقرة عن الدولة في كتاب، هل الربيع العربي ثورة. ورد في الكتاب: " على أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه ماركس والماركسيون هو التفسير المغلوط والمشوه لفكرة الدولة وللموقف منها. لقد اقتصرت نصوص ماركس عن الدولة على مجموتة من التعليقات والتحليلات السياسية والفكرية، وعلى نقد مفهوم هيغل للدولة. رداً على هيغل الذي رأي أن الحرية هي غاية التاريخ وأن الدولة هي تجسيد الحرية، قال ماركس إن البشر لن يعرفوا حرية طالما الدولة موجودة. ذلك أنها، في نظره، أداة للهيمنة الطبقية والقمع الطبقي، وأداة لضمان ملكية الرأسمال ومصالحه ضد العمل" هل الربيع العربي ثورة، ص27. إلا أن باسل قرأه على الشكل التالي:
" ... يرى مقلد أن الماركسيين العرب لم ينظروا إلى الجانب المشرق من الرأسمالية المتمثل بالتصنيع وبتشكيل الدول، وبالقيم الديمقراطية، بل نظروا إلى الدولة قبل غيرهم بوصفها منتجاً استعمارياً لا بد من القضاء عليه. ليس لأنها نتيجة الاستعمار فحسب، بل لأن كارل ماركس نفسه دعا إلى تقويضها أيضاً... فبالنسبة إلى ماركس البشر لن يعرفوا حرية طالما الدولة موجودة، أما بالنسبة إلى مقلد فقد كان ماركس في هذه الكتابات يستشرف زوال الدولة...... "
"الموقف هنا غير دقيق أيضاً، ذلك لأن ماركس لاحظ أن هناك ضرورة لتقويض الدولة كدولة، بوصفها أداة هيمنة طبقية"(ص62-63)
كرر باسل القول الجازم مرتين، الأولى اقتباساً من الكتاب، "أن ماركس نفسه دعا إلى تقويض الدولة... لأن ماركس لاحظ أن هناك ضرورة لتقويض الدولة كدولة". ما ورد في الكتاب عن الدولة لا يأتي، من قريب ولا من بعيد، على مثل هذا الكلام. بل هو اقتصر على أن موضوع الدولة لم يشكل الهم الأساسي في أبحاث ماركس. تأكيداً على ذلك، أوردنا، نقلاً عن سمير أمين، عبارة تقول إن على الماركسيين أن يستكملوا، في السياسة، ما بدأه ماركس في الاقتصاد، و نظير عبارته الاقتصادية الشهيرة، السلعة صنم، عليهم أن يتوجوا تحليلهم السياسي بعبارة السلطة صنم(ص60 من الكتاب). لا يهمنا من العبارة صحتها من عدمه، بل الإشارة الواضحة إلى أن عبقرية ماركس تجلت في حقل الاقتصاد وتوقفت عند حدوده. ثم استعرضنا ما قاله فالح عبد الجبار في كتابه ما بعد ماركس، ونقلنا عنه ملاحظته التي تفيد بأن نصوص ماركس عن الدولة اقتصرت على مجموعة من التعليقات والتحليلات السياسية والفكرية، وعلى نقد مفهوم هيغل للدولة (من كتابه، ما بعد ماركس، منشورات دار الفارابي). وزيادة في التوضيح، قلنا إن ماركس تحدث عن اضمحلال الدولة، أما نحن " فقد أتاحت لنا القراءة النقدية لتجارب النضال ضد الصهيونية والرجعية والاستعمار وضد الرأسمالية المتوحشة أن نكتشف هذه الأعطال في منظومتنا الفكرية، حين لم نكن نكن نميز بين زوال الدولة وإزالتها، أو بين اضمحلالها والقضاء عليها، بين انتفاء الحاجة إليها أو تدميرها"(ص28 من كتاب هل الربيع العربي ثورة؟). فمن أين أتى باسل بهذا الكلام الضائع النسب؟
والثانية استنتاج شخصي توصل إليه، من غير مقدمات ولا مبررات. فبعد أن يقول باسل عن لسان ماركس " أن هناك ضرورة لتقويض الدولة كدولة"، يضيف: " ... فماركس لم يكن يستشرف زوال الدولة بل كان يدعو إلى إزالتها" ثم يضيف " لذا إن الدعوة إلى تقويض الدولة هي واحدة من أساسات الفلسفة الماركسية"(ص63)، وقد أحالنا إلى مرجعين باللغة الانكليزية، ، أحدهما مترجم إلى العربية وهو من كلاسيكيات الماركسية، عنوانه الفلسفة الألمانية، ولا نذكر أن أحداً من قرائه أو شراحه نسب مثل هذه الأقوال لماركس أو لشريكه في تأليف الكتاب، فريدريك إنغلز. المرجع الثاني: Marx,Karl,selected writings in sociology and political philosophy “Selections”,edited by Bottomore and Rubel,Penguin books,Great Britain,1976,p.222. من الآن إلى أن يتيسر لأحدهم التدقيق في صحة هذه الأحكام، نميل إلى الاعتقاد أنه قرأ في المرجعين على هواه، لأن هذه الأقوال لا تأتلف مع منهجية ماركس المادية في قراءة التاريخ، وإن ثبت أن نسبتها إليه صحيحة فليس أمامنا غير أن نجزم بأن ماركس هذا، صاحب هذه الأقوال والأحكام، لم يكن ماركسياً أبداً.
لم نناقش أفكار باسل واكتفينا بنقاش منهج تفكيره، لأن المنهج أشد ضرراً من الأفكار الخاطئة، ولأن أفكاره لم تكن تحتاج إلى نقاش، فهي ليست غير تلك التي كانت موضوع قراءة نقدية في كتابنا موضوع البحث، هل الربيع العربي ثورة؟ قراءة يسارية، أفكار ينطبق عليها قول لبرتراند راسل، نقلته عن صفحة محمد الحجيري: "قد تقضي عمرَك وأنت تعتقد بأنك تدافع عن أفكارك، ثم تكتشف أنك في الحقيقة تدافع عن أفكارهِم التي زرعوها في عقلك"، وربما كانت هي العبارة ذاتها بصيغة جديدة أوردتها على الصفحة ذاتها نورهان الخالدي: "الحُريه هِيٓ : أول خمس ثوان ولدتَ فِيهٓا تبكِي عارياً ، بلا أسم ، بلا خطيئه ، بلا حقد البشر ..! بعدها سيقررون : ... اسمك .. جنسيتك .. دينك ... طائفتك ... و ستقضي طوال حياتك تدافع وتقاتل بغباء عن اشياء لم تخترها!"