المجد لكرة القدم وفلسطين


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5420 - 2017 / 2 / 2 - 13:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

|"لكنها تدور"

المجد لكرة القدم وفلسطين

د.خالد سالم
استيقظت فجر اليوم على رسالة هاتفية من صديق يحدثني فيها عن حارس مرمى منتخب مصر لكرة القدم، فظننت أنه يمازحنى كي أمارس الرياضة وقايةً لي من أمراض العمر. إلا أن آخر أرسل لي رسالة فيها تهنئة قومية وخبرًا، متضمنًا فيديو يظهر فرحة الأشقاء في غزة احتفالاً بتأهل مصر للدور النهائي في كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم. الصديقان لا يعيشان في أرض الكنانة، لكن أحدهما يسكنه هوس الحنين والآخر يسكنه هوس العروبة في الغربة.
بات لي وضحًا أن حدثًا مهما وقع وعلي الولوج في الشبكة العنكبوتية لأستجلي الأمر. لجأت إلى وسائل التواصل الاجتماعي فهالني حجم الفرحة بين الأصدقاء، عربًا ومصريين، بفوز مصر على بوركينا فاسو. تأثرت كثيرًا عند مشاهدة فيديو أهل غزة، بقدر ما دُهشت سعدت لفرح جمهور كرة القدم الذي حول المناسبة إلى فتح مؤزر في زمن كثرت فيه فتوحات الغزاة ضدنا وانكسار أمة منذ نكسة يونيو/حزيران1967.
لم أكن أتوقع ردة الفعل العفوية من أهل غزة بعد معاناتهم من الشد والجذب السياسي بين غزة والقاهرة في السنوات الأخيرة ورغم مكائد أبناء صهيون للوقيعة بين الشعبين الشقيقين ، لكن الردود غير المحسوبة تنم بما في بواطن وأنفس البشر. ردود فعل عفوية كهذه تؤكد أن الأمل لن ينطفئ مهما عاث الصهاينة من فساد بين الأشقاء، وستظل فلسطين في رأس المصريين والعرب حتى يصبح للشعب الفلطسيني وطن حر في الأرض التي توالد وتعايش عليها منذ فجر التاريخ.
رغم أنني لست من هواة كرة القدم، لكن المناسبة الوطنية تجر الإنسان إلى حيث الاغلبية ليدرك تعطش شعوب المنطقة إلى أي نصر وسط مسلسل الهزائم والانكسارات. لو لم أكن أعرف سبب تهنئة الأشقاء العرب للمصريين لظننت أن مصر حققت تقدمًا علميًا وتنمويًا غير مسبوق للعرب أجمعين. الأمر يعكس حالة التعطش لأي قفزة خارج بؤس المنطقة بأسرها. لكن هذه الفرحة على المستوين الوطني والقومي تحمل المنتخب المصري عبء الفوز بالبطولة، فهذه الجماهير لن تقبل لنصر بديلاً. وعلى فريق منتخب مصر أن يأخذ في عين الاعتبار هذه البهجة الواسعة المخطوفة من زمن يئن أهله من سنوات حزن يبدو سرمديًا في مشهد عربي عبثي تروي الدماء العربية رمال فيافيه منذ عقود.
بيد أن فرحتي ساعة الفجر لم تدم كثيرًا إذ ظهر على الشاشة أمام شريطا أغنيتن اتفقتا على وئد ابتسامتي وشدني إلى حيز الحزن الغائر في جبهة جيلي، الجيل الذي وعي على الدنيا بالنكسة وما تلاها من نكسات ونكبات لم نفق من تداعياتها في العراق وسورية واليمن وليبيا وتقزيم مصر. أعني هنا أغنية "مالي خلق" لعاظم الساهر والأطفال، والثانية للعملاق لطفي بوشناق "تحت السيطرة". كلتاهما خطفت فرحتي الوجيزة، وحملتني إلى الواقع العربي المر. كلتا الأغنيتين سجلت رصيدًا كبيرًا من المشاهدة، وصلت إلى أكثر من عشرين مليون في إحداهما! كلمات ما نطلق عليهما أغنية توشي بحزن وتمزق في الأنفس فصرنا "مسخرة" للغرب، توصيف للداء والإشارة بأصبع الإدانة إلى الحكام وشيوخ الإفك، ففي أحد مقاطع "تحت السيطرة" يقول الشاعر الشاب مازن الشريف:
في القُدْسِ مَا في القُدْسِ أو في غزّةٍ قَد عـَاثَ صُهْيُـونٌ وأَرْسَلَ عَسْكَرَهْ/ بـَغْدَادُ أو في الـشّامِ جُـرحٌ واحدٌ مَـنْ فَخّخَ الوَطَنَ الْجَميلَ وفجّرهْ/ والشعبُ بين الرُّعْـبِ أضحى دَمْعَةً مُذْ أَظْـهَـر الإرْهابُ فينَا مَظْهرهْ/والدِّينُ دِينُ اللهِ إلا أنَّهُ لَـمْ يَرْضَ شـيخُ الإِفْكِ حتى زوّرهْ. هذا بينما يردد الأطفال مع كاظم الساهر "احنا في وطن كله محن، كله وجع، كله فتن، واللي بيحكموا في هذا الزمن اتفقوا ألا نتفق.... متغربين في العالمين، شمال ويمين، دمع الحنين في كل عين".
رغم ما آلت إليه الأمور من سوء وتردٍ على الساحة القومية، فلا يزال الأمل قائم في شعوب المنطقة التي ترنو إلى الوحدة والحرية والديمقراطية، فرحة المساء الفائت بالمنتخب المصري تمثل ظاهرة لا تتكرر بين سكان أي وحدة جغرافية تجمعها عناصر كالتي تجمع سكان العالم العربي، وأعني هنا أميركا اللاتينية أو أوروبا، قمة التقدم والوحدة في عصرنا.
الوحدة العربية، سواء أكانت على أساس جغرافي أو عرقي أو ثقافي أو اقتصادي، لا تعني طمر الأقليات التي تتقاسم الوطن مع الأشقاء العرب، فالجميع مواطنون لهم الحقوق نفسها، طالما أن الحرية والديمقراطية تلف الجميع. إنها كقضية المرأة والقضاء على ذكورية مجتمعاتنا: لا شفاء منها سوى بالمساواة تحت سقف الديمقراطية. ووئد الحروب والصراعات المستعرة يتم انطلاقًا من توفير الأمان للجميع على أساس الحرية والديمقراطية، وبعيدًا عن تفرقة من أي نوع، والبعد عن شيوخ الإفك ودعواتهم الميتافيزيقية الرامية إلى استغلال الدهماء لتحقيق مآبهم المادية الرخيصة ومآرب الساسة.