مشروع قانون التأمين الصحى الجديد يسلب الشعب مستشفياته


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 5377 - 2016 / 12 / 20 - 14:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

مشروع قانون التأمين الصحى الجديد يسلب الشعب مستشفياته
مقدمة
قدمت الحكومة منذ مارس 2005 وحتى النسخة الأخيرة المؤرخة فى 27 أكتوبر 2016 حوالى خمسين نسخة من مشروع قانون التأمين الصحى، وتعتزم الحكومة تقديمها لمجلس الشعب. خلال تلك الرحلة التى استمرت حوالى اثنى عشر عاما حدثت تغيرات كثيرة على المشروع، ولكن بقيت فكرة جوهرية عند الحكومة فى مشروع الإصلاح الصحى لا تتغير: خصخصة مؤسسات تقديم الخدمة من مستشفيات وعيادات وغيرها!
قانون التأمين الصحى له مجلان أساسيان: الأول هو علاقة المواطن المنتفع بالتأمين الصحى بجهة تقديم الخدمة: ما هى حقوقه أو الأمراض التى يعالجها التأمين الصحى، وما هى واجباته أو التزاماته النقدية التى يدفعها مقابل تلك الخدمة. المجال الثانى المهم هو نوع جهة تقديم الخدمة من مستشفيات وعيادات: هل هى جهة تعتبر الطب خدمة وتقدمها بالتكلفة وبدون ربح كما هو موجود الآن (رغم كثرة عيوبه التى نهدف إلى إصلاحها)، أم هو جهة ربحية تجارية تعتبر الطب سلعة تتكسب منها وبالتالى تضيف ذلك الربح إلى الأعباء المالية التى تلقى على عاتق المنتفعين من التأمين الصحى.
لابد من الاعتراف بأمانة بأن كل نسخ مشروعات التأمين الصحى المتعددة طوال خمس سنوات من 2005 وحتى قبل الثورة عام 2011 لم تتحدث عن ملكية مؤسسات تقديم الخدمة، واقتصرت على تغيير العلاقة بين المنتفع من التأمين الصحى وجهة تقديم الخدمة.
إلا أن خصخصة المستشفيات جاءت من باب آخر: عندما أصدر رئيس الوزراء فى مارس عام 2007 قرارا رقم 637 لسنة 2007 بإنشاء الشركة المصرية القابضة للرعاية الصحية التى تنتقل لها ملكية كل مستشفيات وعيادات وأصول التأمين الصحى لكى تدار على أسس تجارية ربحية ولكى يحق للشركة القابضة بيع الشركات التابعة وهى المستشفيات بالطبع.
انتفض المجتمع المدنى بأكمله ضد هذا المشروع الخبيث الذى يسرق المستشفيات والأصول التى بناها الشعب بعرقه لكى يعرضها للبيع، ولكى تعود وتقدم الخدمة للشعب محملة بالربح وتثقل كاهل المنتفعين. رفعت ثلاث منظمات مجتمع مدنى أعضاء لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة قضية فى محكمة القضاء الإدارى ضد تلك الشركة القابضة، وحكمت المحكمة فى الشق المستعجل فى 4 سبتمبر عام 2008 بوقف إنشاء الشركة القابضة للرعاية الصحية.
وجاء فى حكم المحكمة التاريخى عبارات هامة ما زالت تنطبق على محاولات الحكومة الحالية لخصخصة المستشفيات ولكن هذه المرة من داخل قانون التأمين الصحى. جاء فى حكم المحكمة: "الرعاية الصحية ليست مجالا للاستثمار والمساومة والاحتكار" و "أن الاتجاه للاقتصاد الحر لا ينبغى أن يسلب حق المواطن الرعاية الصحية عن طريق الدولة، ومن القواعد ألا تتخلى الدولة عن دورها فى الخدمات الاجتماعية أو الصحية أو تعهد بها إلى وحدات اقتصادية (أى الشركة القابضة وشركاتها التابعة) حتى ولو كانت تابعة لها لأنها تهدف إلى الربح" وانتقدت المحكمة "وجود نظامين أحدهما للأغنياء عالى الجودة والآخر للفقراء منخفض الجودة محدود المزايا".
بعد الثورة وطوال السنوات الست الأخيرة أتت المشاريع المتتالية بمضمون قرار الشركة القابضة لتحويل مستشفيات وعيادات تقديم الخدمة فى الدولة والتأمين الصحى إلى هيئات ربحية تجارية تحمل المواطن بأرباحها.
القانون الجديد وملكية مستشفيات الشعب
كيف يعيد مشروع قانون التأمين الصحى الحالى مسودة 27 أكتوبر 2016 قصة الشركة القابضة وتحويل التأمين الصحى الاجتماعى إلى تأمين صحى تجارى ويسهل "للبزنس الطبى المصرى والعربى الاستيلاء على مستشفيات الشعب التى تملكها الحكومة الآن نيابة عن الشعب، ومستشفيات التأمين الصحى التى بناها المنتفعون بعرقهم واشتراكاتهم؟
ينص مشروع القانون على إنشاء ثلاث هيئات منفصلة: هيئة التأمين الصحى الاجتماعى الشامل، وتتولى إدارة وتمويل النظام، وهى هيئة غير ربحية بنص القانون (مادة 4)، ومع ذلك يحظر على الهيئة تقديم الخدمات بنفسها، حيث خصصت هيئة خاصة بذلك. بل إن القانون يحظر على وزارة الصحة نفسها تقديم الخدمات الصحية بنفسها ويقصر دورها على تنظيم ومراقبة النظام الصحى والمسئولية عن إصدار تراخيص المنشآت الصحية (المادة الثالثة فى صدر القانون) وذلك كله تطبيقا لمبدأ فصل تقديم الخدمة عن تمويلها إعمالا لنص المادة 2 من القانون "ويُدار هذا النظام عبر آلية فصل التمويل عن تقديم الخدمة، ولا يجوز للهيئة تقديم خدمات علاجية أو الاشتراك في تقديمها" (مادة 2).
ونتساءل أولا: إذا كانت هيئة التأمين الصحى الاجتماعى الشامل هى المنظم لعملية تقديم الخدمة، فلماذا يشترك فى إدارتها ممثلوا القطاع الخاص الطبى (مادة 5)؟ القطاع الخاص يهدف بالطبع للربح وهذا ليس عيبا بالطبع فهذا هو هدفه، ولكن لماذا يشترك فى إدارة نظام للتأمين الصحى الاجتماعى؟ وإذا كان القطاع الخاص العربى والمصرى يتلمظ على شراء المستشفيات الحكومية بالبخس كما تم فى كل سوابق البيع (حيث تم فى الشهر التالى لأنشاء الشركة القابضة لعام 2007 حضور وفود خليجية لمعاينة كل من مستشفى مدينة نصر للتأمين الصحى ومعهد ناصر) فلماذا يوضع القطاع الخاص فى إدارة الهيكل الحكومى العام؟ هل لكى يوافق على البيع بالبخس؟!
ومجلس إدارة الهيئة هذا يتشكل من عدد كبير من ممثلى وزارات كثيرة لا نفهم لماذا تضم حتى وزارة الداخلية، مع وجود ممثل شعبى فى مجلس الإدارة من نقابة الأطباء وغيرها (مادة 5 أيضا) فلا يحدد نسخة القانون التى فى يدنا نسبة المكون الشعبى فى تكوين لجنة الإدارة. ألا يثير هذا خشيتنا من أن يتولى مجلس إدارة من موظفين منتدبين من الحكومة تقرير الحفاظ على المستشفيات أو خصخصتها مصير تلك المستشفيات؟ نلاحظ أن المكون الشعبى فى المجلس الطبى العام فى انجلترا وفرنسا ينص على نصف المديرين من ممثلى الشعب، ولا يوجد بينهم ممثلين للقطاع الخاص. كان المعتاد سابقا أن تشتمل مجالس إدارة الهيئات على ممثل لكل من وزارة المالية ووزارة العدل دون أن يكون لهم صوت فى تقرير السياسات الفنية، فكيف بخمس وزارات والعديد من الهيئات التابعة لمختلف الجهات دون ذلك الضمان وتترك كل هذا للائحة تنفيذية سيصدرها رئيس مجلس الوزراء.
كل هذا فى ظل الإعلان الحكومى فى القانون 67 لسنة 2010 بخصوص مشاركة القطاع الخاص فى تقديم الخدمات المحددة بخدمات الطرق والمرافق من مياه وكهرباء، وكذلك التعليم والصحة. أن الحكومة لا تملك القدرة على تمويل الخدمات وتسعى إلى إشراك القطاع الخاص فى تقديم الخدمات، التى ستصبح بالضرورة على هذا النحو سلعا ربحية وليس خدمات تؤدى بالتكلفة. مَن يدير ماذا لمصلحة من فى النهاية؟
وتنص المادة 8 من مشروع القانون على "تنشأ بالهيئة لجنة دائمة تختص بتسعير قائمة الخدمات الطبية التي يتم التعاقد علي شرائها، من الخبراء المستقلين عن الهيئة والمتخصصين في تسعير الخدمات الطبية، ويصدر قرار بتشكيل تلك اللجنة من مجلس إدارة الهيئة، وتصدق قراراتها من وزير الصحة." نتوقف هنا عند لجنة تسعير الخدمات التى يشتمل تكويها على خبراء تسعير (تسعير السلع بالطبع) التى يتم التعاقد على شرائها.
وتنص المادة 5 بند 11 على "للمجلس اعتماد قوائم أسعار الحزم الطبية". ما هى الحزم الطبية؟ ألا تقدم هيئة التأمين الصحى حزمة واحدة شاملة لجميع المؤمن عليها؟ ألا يحيى هذا موضوع عدم وجود حزمة شاملة لكل الخدمات، بل هناك حزم متعددة للخدمات على حسب ما يدفعه المنتفع؟ هل تحمل الصيغ دائما بابا للردة عما تم الاتفاق عليه؟ والصيغة هنا تتحدث عن حزم الخدمات الطبية، لذا لا يمكن القول بأنه يعنى اختلاف الفندقة بين حق كل منتفع فى سرير للعلاج فى غرفة من ستة أسرة، ويستطيع من يريد أن يأخذ غرفة بسريرين أو سرير واحد أو جناح بشرط دفع الفرق، فهذا موجود الآن وهذه خدمات فندقية وليست علاجية!
وتنص المادة 11 على أن تلك الهيئة، هيئة الرعاية الصحية "تشترى الخدمة عن طريق التعاقد مع أي من مُقدمي خدمات الرعاية الصحية والأنظمة العلاجية التي تشملها هيئة الرعاية الصحية، أو أية جهات أخرى ترغب في التعاقد مع هيئة التأمين الصحي الاجتماعي الشامل، وفقاً لنظم التعاقد والأسعار التي تُقرها الهيئة، ووفقاً لمعايير الجودة". هنا أيضا المساواة بين القطاع الحكومى والخاص فى الأجور وفى شراء الخدمة كسلعة بسعر موحد محمل بالربح.
إن التسعير ينطبق على السلع فقط المحملة بالربح، وهذا ما يحدث حاليا فى القطاع الخاص. أما فى الهيئات غير الهادفة للربح مثل هيئة التأمين الصحى الحالية فليس هناك ما يسمى بالتسعير ولكن هناك ما يسمى بحسابات التكاليف. مثلا كم تكلف التأمين شراء جلسة الغسيل الكلوى من القطاع الخاص؟ بالطبع سعر الخدمة محملا بالربح، فهذه هى طبيعة القطاع الخاص التى لا خلاف عليها، أما غسيل الكلى الذى يتم فى مقر مستشفيات التأمين الصحى فالهيئة تحتسب عليه نصيبه من النفقات عامة (تتعلق بموظفى إدارة المستشفى واستهلاك المستشفى من الكهرباء والمياه ...الخ) ونفقات خاصة تشمل أجور أطباء القسم وممرضاته وعامليه وأجهزته وصيانتها وإهلاكها...الخ. المفروض طبعا أن حسابات التكاليف فى ظل أى هيئة غير ربحية أقل من من سعر شراء الهيئة نفس الخدمة فى القطاع الخاص لتقارب التكلفة، ولكن يزيد عليها الربح فى القطاع الخاص.
إن المعنى الوحيد لوجود هيئة تسعير تشترى الخدمة من جميع مقدمى الخدمة بدون فارق بين مستشفيات حكومية ومستشفيات خاصة هو أن سعر الشراء الموحد المحمل بالربح هو الأساس، وهذا يعنى تحويل مستشفيات الهيئة إلى مستشفيات ربحية! لماذا؟ هذا بالضبط هو المقصود من فصل التمويل عن تقديم الخدمة، نظرا لما يقوله البنك الدولى دائما عندما يتحدث عن أن المشكلة الأساسية للنظام الصحى هى افتقاد الجودة. ويتبعها فورا بأن الجودة لا تتحقق إلا بالمنافسة!
وتنص المادة 10 من مشروع القانون على " للهيئة الحق في مُتابعة المُشترك في أي من جهات تقديم الخدمة الصحية، ولها الحق كذلك في استبعاد مُقدم الخدمة من سجلات مُقدمي الخدمة المؤهلين لديها، في حالة ثبوت تقصيره أو إخلاله بمُستوى الرعاية الطبية المُتفق عليه". ماذا يعنى هذا؟ من المفهوم مثلا إلغاء التعاقد مع مستشفى خاص فى حالة إخلاله بمعايير جودة الخدمة. ولكنها تملك الحق أيضا فى استبعاد مقدمى الخدمة من القطاع الحكومى من سجلاتها وفقا لمعايير الجودة ونظم التعاقد والأسعار التى تقرها الهيئة (مادة 10). إذن ما مصيرها؟ المصير الوحيد المتخيل لمستشفى حكومى يفسخ التعاقد معه، أى لا يجد زبائن هو خصخصتها! إن سياسة الجودة هنا هى الغطاء الذى يمكن به خصخصة المستشفيات بدلا من إصلاحها كأصول مملوكة للشعب. من حق وواجب هيئة الإدارة أن تفعل كل ما تريد لإصلاح تلك المؤسسة الحكومية بحل مشاكلها سواء بتغيير إدارتها أو بمدها بالتمويل اللازم لتحديث أجهزتها أو بحل مشاكلها الإدارية أو بالدورات التدريبية للعاملين بها سواء الإداريين أو الأطباء أو التمريض، ولكن مع بقائها مملوكة للشعب وحل مشاكلها. أما سياسة إنسف حمامك القديم عندما لا تستوفى تلك الهيئة معايير الجودة فهى غطاء شفاف للخصخصة!
وتنص المادة 20 على "تؤول لهيئة الرعاية الصحية تدريجياً كل الأصول العلاجية لمنافذ تقديم الخدمة التابعة لها وفقاً للمادة 1 من هذا القانون، (ويستثنى من ذلك مكاتب الصحة ومنافذ تقديم ورقابة الخدمات الوقائية والأنشطة المرتبطة بها)، (وذلك مقابل تقييم تلك الأصول وقيام الخزانة العامة بسداد القيمة المالية لموازنة هيئة التأمين الصحي الاجتماعي الشامل توضع في حساب خاص لاستثمارها لتعظيم مواردها)، على أن يتم تأهيلها وفقاً لمعايير الجودة والاعتماد خلال مدة لا تجاوز ثلاثة أعوام من تاريخ صدور هذا القانون، وتحل محلها في كافة مراكزها القانونية فيما يتعلق بتلك الأصول". لماذا؟؟ من الطبيعى أن تتملك الهيئة الأصول شاملة المستشفيات، ولكن ما فائدة تقييمها ماديا وسداد الحكومة لقيمتها؟ وهل ستكون القيمة هى القيمة الدفترية المنخفضة أم القيمة السوقية المرتفعة؟ ألا يمكن أن تتخذ تلك القيمة أساسا فيما بعد لبيع الوحدات التى تريد الحكومة خصخصتها مبررة ذلك بافتقادها لشروط الجودة؟ ألا يؤدى هذا إلى تعميق تحويل الأصول الطبية التى بناها الشعب بعرقه إلى سلع قابلة للبيع والمتاجرة؟
كما تنص المادة 21 على أن من اختصاصات هيئة الرعاية الصحية إنشاء المستشفيات واستئجارها. لماذا الاستئجار؟ هل لاستئجار مستشفيات من القطاع الخاص؟ والاستئجار يعنى أننا بصدد علاقات استثمارية تكفى على الأقل لسداد الإيجار. نحن بصدد منظومة كاملة لهيئة تقديم الخدمة تستند إلى قيم وقواعد السوق التجارية.
هذه هى شروط ومطالب البنك الدولى لخصخصة جهة تقديم الخدمات الحكومية منذ مشروع الإصلاح الصحى عام 1998، والتى يسعى الإصلاح الصحى حثيثا إلى تطبيقها منذ ذلك التاريخ لولا مقاومة الشعب لها كما رأينا فى مشروع الشركة القابضة التى يتم إحياء مضمونها دون الأسم. بل إنه لا مانع قانونى من قيام تلك الهيئة ببيع المستشفيات فى المواد الخاصة بعمل هيئة التأمين الصحى الاجتماعى الشامل، لكى يأتى هذا بصيغة أكثر صراحة كما سنرى فيما سيلى من مواد. لاحظوا الزيادة الهائلة المطلوبة لتمويل التأمين الصحى إذا كان سيشترى كل الخدمات محملة بالربح بعد أن أصبحت سلعا لها سعر شراء موحد من مقدمى الخدمة فى القطاع الحكومى والخاص والأهلى، بينما الحكومة تدعى الآن وسابقا عدم وجود تمويل كاف لتطبيق التأمين الصحى. هل المطلوب فى هذه الحالة الحفاظ على الهيكل الحكومى هيكلا غير ربحى يقدم الخدمة بالتكلفة ويوفر عشرات ومئات الملايين أم تحويلها كلها إلى هيكل ربحى والبحث عن تمويل ضخم لتمويلها ونحن لا نجد الآن أقل تمويل؟!
نأتى للهيئة الثانية التى يشكلها القانون: هيئة الرعاية الصحية. تلك هى أهم الهيئات الثلاث، فهى التى تمتلك الهيكل الصحى فى مصر كله: مستشفيات التأمين الصحى، ومستشفيات وزارة الصحة وهيئاتها المختلفة من هيئة المستشفيات والمعاهد التعليمية والمؤسسة العلاجية والمراكز الطبية المتخصصة، بل والمستشفيات الجامعية! ولكنها لا تتملك أى منها إلا بعد تأهيلها وفق معايير الجودة، وكما سبق، يحق للهيئة الأولى، هيئة التأمين الصحى الاجتماعى الشامل الحكم بالإعدام على أى مستشفى حكومى لا يمتلك معايير الجودة، والمستشفيات التى لن تخصخص لاستخدامها كمستشفيات خاصة يكفيها أن تخصص للاستثمار العقارى خصوصا والمستشفيات الحكومية عموما تحتل أماكن هامة فى وسط بلدانها وعلى شاطئ النيل وغيرها.
هذه الهيئة التى تستحوذ على جميع مستشفيات الجمهورية هى بالذات الهيئة التى لا ينص القانون على إنها هيئة غير ربحية. وتدل آليات عملها كما رأينا فى الآليات التى تحددها هيئة التأمين الصحى الاجتماعى الشامل على إنها ربحية تعمل بنفس الأسعار الموحدة التى تشترى بها الهيئة الأولى من القطاعين الحكومى والخاص! بل إن تلك الهيئة لها أن تضم مستشفيات قطاع خاص! كما أن من حقها أن تؤجر وحدات قطاع خاص!
كما أن شمول تلك الهيئة التى تعمل كل مؤسساتها على أساس ربحى، وتقديمها للرعاية الصحية الأولية من خلال وحدة صحة الأسرة ومركز صحة الأسرة، يخصخص حتى الرعاية الصحية الأولية! ففى مجال الرعاية الصحية الأولية كما فى كل المجالات تتعاقد الهيئة مع كل من الوحدات الحكومية والوحدات الخاصة بنفس الأسعار الربحية على أساس معايير الجودة المدعاه، وهو كارثة جديدة فى الرعاية الصحية الأولية بشكل خاص.
منذ إنشاء الرعاية الصحية الأولية فى مصر من خلال تعميم الوحدات الريفية والوحدات المجمعة بالقرى، ويستوى هذا مع معظم بلاد العالم، والخدمة بها مجانية أو شبه مجانية مع مساهمات رمزية، لأن يكون خط الدفاع الأول هذا، الرعاية الصحية الأولية، متاحا للجميع دون عائق مادى. أما خصخصة الرعاية الصحية الأولية (ما عدا القسم الخاص بالوقاية مثل التطعيمات مثلا كما تقول الحكومة) فإنه يجعله متاحا أمام من يملك الكشف المرتفع، والنسبة المقررة فى الدواء والفحوص، إلا إذا حاز شهادة فقر! وهى ردة ضخمة إلى الوراء بالنسبة للوضع الحالى وفى رأينا بالنسبة للوضع فى أماكن كثيرة فى العالم!
أما الهيئة الثالثة التى ينشئها القانون فإنها "الهيئة المصرية للجودة واعتماد المنشآت الصحية". تلك الهيئة أيضا لا ينص القانون على إنها هيئة غير ربحية. بل إنه ينص (فى المادة 36) على أن من مواردها رسوم الخدمات والاستشارات التى تؤديها. ولها الحق فى فرض رسوم تطوير على الجهات الخاضعة لرقابتها (مادة 40). إذن فإن الفارق بين إدارة الجودة الموجودة حاليا، أو المفترض أن تكون موجودة فى وضعها الأمثل، وبين الهيئة الجديدة هو أن إدارة الجودة هى جزء من هيكل تقديم الخدمات الصحية الذى يتولى الإشراف على ورفع مستوى الجودة فى المنشآت العامة المقدمة للخدمة فى مقابل مصروفات لا تتمثل إلا فى مرتبات موظفيه. أما فصلها فى هيئة مستقلة لا ينص على إنها غير ربحية، بل إن كل تفاصيل عملها تدل على إنها هيئة ربحية ذات شخصية معنوية مستقلة وتتولى تقديم الخدمات للقطاعين الحكومى والخاص فى مقابل رسوم تحددها، وتتلقى مقابل الخدمات بما فيها مقابل تأهيل كل المستشفيات العامة والخاصة لشروط الجودة (وهذا معقول فى حالة المستشفيات القطاع الخاص فقط، ولكن لم تتلق مقابل رفع مستوى جودة خدمات الجهات الحكومية لتحقق أرباحا؟!).
ومن المعروف أن الجودة، والاعتماد، والمعايير القياسية (المعتمدة بنود 10 و11 و12 من المادة 1 الخاصة بالتعريفات)، ومعايير الجودة العالمية لا تطبق إلا بعد توفير المقومات الأساسية للعمل من تمويل وأفراد وكفاءات ...الخ. وبما أن مشكلة هيكلنا الصحى هى افتقاد المقومات الأساسية من ناحية عدد الأسرة (وبها نقص 50% على الأقل) والأطباء (ونسبة النقص فيهم 35%) والممرضات (ونسبة النقص بهم 60%) والميزانية كحد أدنى من نسبة الدخل القومى (النقص بها عن الحد الأدنى الذى قرره الدستور 37%)، إذن فإن مشكلتنا الأولى سابقة للحديث عن معايير الجودة، فهى تتمثل فى توفير مقدمات الجودة أولا. وإن تطبيق معايير الجودة فى ظل نقص المقومات الأساسية يصم الخدمة بانعدام الجودة مما يصلح لكى يكون ستارا للتخلص من القطاع الحكومى ببيعه وخصخصته مثل جميع المجالات السابقة للخصخصة (تسويء السمعة من أجل التخلص بالبيع بالبخس سواء لاستغلاله كجهاز تقديم الخدمات الطبية أو لهدمه واستغلاله كأصول عقارية).
العلاقة بين منتفع التأمين الصحى والهيئة الجديدة
طوال السنوات الإثنتى عشرة الماضية دار الحوار بين الحكومة التى تقدم النسخة تلو النسخة من مسودات قانون التأمين الصحى والمعارضة التى تعارض تلك النسخ من منطلق حق الشعب المصرى فى خدمة طبية لائقة، وتتحملها موارده، وتقوم على تقديمها جهات غير ربحية. كانت النسخة الأولى تطالب المنتفع بدفع الاشتراك (1% من الأجر بالإضافة إلى 3% يدفعه صاحب العمل ضمن التأمينات الاجتماعية) وتضيف إليه مساهمات ضخمة بلغت ثلث سعر الدواء والتحاليل والأشعات فى العيادات الخارجية، وثلث سعر العمليات والإقامة والفحوص فى القسم الداخلى!
ساهم ذلك الحوار التاريخى الطويل بالطبع فى رفع وعى الشعب بحقوقه فى تأمين صحى اجتماعى عادل، وفى الضغط على الحكومة لعدم تمرير قانون جائر يحول التأمين الصحى الاجتماعى إلى تأمين صحى تجارى يحول الصحة إلى سلعة للتربح والمتاجرة. جرى تحسن كبير على المشروعات المتتالية لمسوادات قوانين التأمين الصحى، حيث نص القانون الجديد بوضوح على شموله لكل المصريين المقيمين بالداخل. ولكن جرى التحسن أساسا فى مجال تخفيف أعباء المريض، فتم إلغاء دفع أى مساهمات أو نسبة نقدية من تكلفة العلاج فى القسم الداخلى، وبقيت المساهمات فقط فى العيادة الخارجية كنسبة من ثمن الأدوية والتحاليل والأشعات. تأتى المسودة الأخيرة المؤرخة فى 27 أكتوبر 2016 بشروط أحسن كثيرا من سابقاتها: إذ تحمل المواطن 20% من سعر الأدوية بحد أقصى 50 جنيها، و10% من الأشعات بحد أقصى مائة جنيه، و5% من التحاليل بحد أقصى خمسين جنيها (المادة 48 الخاصة بالتمويل).
ورغم أن القانون يستثنى من تلك الفحوص الفحوص التى تجرى فى العيادة الخارجية تحضيرا للعمليات فى القسم الداخلى، ويستثنى فحوص الأمراض المزمنة وأصحاب المعاشات والمستحقين لها، كما يستثنى غير القادرين (بدون تعريف محدد قاطع لتلك الفئة)، إلا أن الحد الأقصى الذى يمكن أن يدفعه المواطن فى تلك الفحوص قد يبلغ مائتى جنيه، وهو مبلغ ليس بالقليل من ناحية عبئه على المواطن، خصوصا أن هذا المبلغ لم يحدد على أنه الحد الأقصى الذى يدفع شهريا بما يفتح المجال لتكرار مرات دفعه فى كل عيادة. أى أن المريض الذى يدخل عيادة قلب وعيادة عظام وعيادة رمد فى نفس الشهر قد يصل إجمالى ما يجب عليه دفعه من مساهمات فى حده الأقصى إلى ستمائة جنيه!
ومن المعروف فى أدبيات التأمين الصحى أن تلك المبالغ عادة ما يتكلف تحصيلها (من موظفين وإيصالات ودورة مستندية ...الخ) أكثر من عائدها، كما أنها ترهق المواطنين كما أوضحنا، فلا أفهم إصرار الحكومة عليها رغم أنه من الأجدى اقتصاديا واجتماعيا إلغاء المساهمات والإبقاء فقط على الاشتراكات التى تمثل الالتزام الوحيد على المرضى!
ويستثنى القانون من خدمات التأمين الصحى مجموعة من الخدمات تتعلق بالخدمات الوقائية ويقول أن الدولة سوف تتحمل الخدمات الوقائية، ولكن سيقدمها التأمين الصحى لأنه المؤسسة الرئسية لتقديم الخدمة، وهو ازدواج لا معنى له لأن الدولة ستدعم التأمين الصحى وحسنا تفعل بالطبع، ولكن من الغريب أن يستثنى من خدمات التأمين الصحى خدمات تنظيم الأسرة وعلاج العقم؟! سوف تدفع الحكومة ثمن خدمات تنظيم الأسرة، ولكن بهذا الشكل يمتنع التأمين الصحى عن علاج العقم! وإذا كانت نسبة انتشار العقم 10% من النساء فى مصر، وإذا كان حق الإنجاب من الحقوق الأساسية للإنسان، فيجب شمول التأمين الصحى لخدمات علاج العقم!
يثور سؤال بالطبع حول إحدى وسائل علاج العقم وهى التلقيح الصناعى (أطفال الأنابيب) مرتفعة التكلفة. فى هذه الحالة كان يجب الاستقامة فى النص على شمول التأمين الصحى لخدمات علاج العقم ما عدا تلك الوسيلة إن كانت الحسبة الاكتوارية للتأمين الحالية لا تستطيع تحمل تكلفتها، على أن توضع فى خطة توسيع التأمين الصحى بحيث تشتمل عليها فى مستقبل يشهد نمو موارد التأمين لتكفى نشر تلك الوسيلة المكلفة للعلاج على كل المصريين.
وتأتى المادة 2 لكى تقرر "وتُطبق أحكامه تدريجياً علي المُحافظات التي يصدر بتحديدها قرارات من رئيس مجلس الوزراء بناءً علي عرض الوزير المُختص بالصحة والوزير المُختص بالمالية، وبما يضمن استدامة الملاءة المالية للنظام وبمراعاة توازنه الإكتواري". رغم نص المادة على أن التدرج تدرج جغرافى، إلا أن أحد تصريحات مسئولى وزارة الصحة خلال الفترة الأخيرة نص على أن قدراتنا هى تعميم قانون التأمين الصحى على جميع أفراد الشعب يقتصر على الرعاية الصحية الأساسية فى هذه المرحلة. هل التدرج فى التطبيق ليس جغرافيا فقط ولكنه تدرج فى شمولية التطبيق؟ رغم أن هذا لم ينص عليه فى صدر القانون بوضوح إلا أنه فى حالة تطبيقه يكون كارثة بكل المقاييس، فالوضع الراهن يمكن غير القادرين حين الاحتياج لخدمات رعاية متقدمة (مثل قسطرة وجراحات القلب أو الغسيل الكلوى) يستطيع الحصول عليها بالمجان من خلال العلاج على نفقة الدولة، فى حين أن العلاج على نفقة الدولة سوف يتم إلغاؤه فى حالة تطبيق قانون التأمين الصحى الشامل. تلك ملاحظة تحتاج للتوضيح بشكل قاطع من الحكومة.
نأتى للتأمين الصحى على طلبة المدارس. تعتبر أنظمة التأمين الصحى الاجتماعى عادة الأطفال منذ الولادة وحتى سن الثامنة عشرة ثروة قومية للبلاد، فهم يجهزون لكى يصبحوا القوة المنتجة فى المجتمع، ويكونون المادة البشرية التى تدافع عن البلاد فى صورة جيوشها الوطنية. وكان التأمين الصحى الحالى يعتبر مساهمة ولى أمر الطالب مبلغا رمزيا كل سنة يبلغ أربعة جنيهات، وتعين الدولة كل طالب بإثنى عشر جنيها، وتتكفل بالباقى الضرائب غير المباشرة على السجائر.
أما القانون الحالى فيجعل ولى الأمر يدفع اشتراكا من مرتبه مقداره نصف فى المائة عن كل طفل، وحتى العمالة غير المنتظمة يجبر العامل على أن يدفع تأمينا لنفسه 4% من دخله عن نفسه، و2% عن الزوجة غير العاملة، ونص فى المائة عن كل طفل، ويدفعها على أربع أقساط سنوية، ويعتبر أن إيصالات السداد ضرورية لكل تعامل مع الجهة الحكومية حتى إن الطالب يوقف قيده فى المدرسة إذا لم يسدد تلك المبالغ! بالطبع تقول الدولة أنها ستتحمل غير القادرين، ولكن عرِّف من هم غير القادرين، واثبت هذا! وإذا كان غير المستحقين حتى الآن هم المستحقين للمعاشات الاستثائية لغير ذوى الموارد مثل معاش وكرامة فإن الدولة نفسها تعترف بأنها ستحاول خلال ثلاث سنوات شمول نصف الأسر المصرية غير القادرة (ثلاثة ملايين أسرة)، فإننا نجعل التأمين غير شامل على الإطلاق. وإذا كنا نشكو حتى الآن من عدم استيعاب المدارس الابتدائية لكل الأطفال فى سن الالتحاق، والتسرب من التعليم، ونشجع تقديم وجبة غذائية مجانية بالمدرسة، يستحسن أن تكون ساخنة، لتشجيع الفقراء على تعليم أولادهم وعدم تسربهم، فكيف نأتى بقيد جديد يعمق التسرب ويلغى التأمين الصحى والدراسة معا لمن لا يسددون بهذه الطريقة تلك النسبة؟ نطالب طبعا بأن يكون التأمين الصحى شاملا جميع الأطفال من سن الولادة حتى الثامنة عشرة مجانا على حساب الدولة دون خصم نسبة من راتب الأب.
والدولة أبقت على دعمها لكل طالب، 12 جنيها فى السنة، رغم إنها تم إقرارها عام 1992 وهى الآن لا تساوى سدس هذا المبلغ (إذا قارنَّاها بسعر الدولار مثلا) فإنها ألغت مثل هذا الدعم عن الأطفال فى سن ما قبل الدراسة!
جوهر مشروع القانون الصحى هو إدارة الهيكل الحكومى لتقديم الخدمة من مستشفيات وعيادات على أساس ربحى كالقطاع الخاص وتحميل الشعب بهذا الربح، وتسهيل خصخصه وبيعه، تحويل التأمين الصحى الاجتماعى الراهن رغم كل عيوبه إلى تأمين صحى تجارى بغرض الربح.
وهذا مخالف للمادة 34 من الدستور التى تنص على أن "للملكية العامة حرمة، لا يجوز المساس بها، وحمايتها واجب وفقا للقانون". كما أنها تخالف المادة 18 من الدستور التى تنص على "...تكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التى تقدم خدماتها للشعب ودعما والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل".
مطالبنا
1- نرحب بتوحيد الهيكل الطبى المصرى كله فى هيكل موحد كما طالبنا ولكننا نصر على أن يظل هذا الهيكل بوضوح هيكلا غير ربحى يقدم الخدمة بالتكلفة، ولا يبيع الخدمة بنفس شروط القطاع الخاص محملة بالربح، ولا يفتح الباب لخصخصة الأصول الخدمية الصحية
2- نطالب أولا بتوفير المقومات الأساسية للخدمة الطبية من ناحية الميزانية وعدد الأسرة وعدد الأطباء والتمريض لكى يمكن بعد ذلك الانتقال إلى تطبيق شروط الجودة. ونطالب بأن تكون الهيئة المسئولة عن تطبيق الجودة بوضوح هيئة غير ربحية وظيفتها هى المسئولية عن رفع مستوى الخدمات الصحية فى الهيكل الحكومى إلى معايير الجودة دون التهديد بالتخلص منها فى حالة غياب الجودة فهذا ستار غير مقنع للخصخصة.
3- نرفض أن يكون فصل التمويل عن تقديم الخدمة بالطريقة التى تقوم بها الحكومة مقدمة للمنافسة مع القطاع الخاص على أساس أنهم كلهم قطاعات ربحية. الفصل الإدارى ممكن ولكن الفصل بطريقة البنك الدولى التى يحتويها القانون هى باب الخصخصة.
4- يجب أن يستند التأمين الصحى على الاشتراكات فقط مع إلغاء المساهمات التى، رغم تقليلها وتقليص مداها، لازالت يمكن أن تشكل عبئا على أغلبية الشعب غير القادرة.
5- يجب أن يظل التأمين الصحى على الأطفال قبل سن الدراسة وتلاميذ المدارس حتى سن 18 سنة مسئولية الدولة وحدها دون تحميل الأب عبئه المالى، ودون ربط الدراسة بسداد أقساط التأمين وفصل الطلاب الذين يعجزون عن الدفع.
6- الالتزام بالدستور بالذات فى المواد 18 و34 التى تنص على ألا يقل الإنفاق على الصحة عن 3% من الناتج المحلى الإجمالى، ويزداد تدريجيا إلى النسبة العالمية (6%) وفى الحفاظ على هيكل تقديم الخدمات الصحية الحكومى من التبديد والخصخصة ورعايته وتطويره.
دكتور محمد حسن خليل
منسق لجنة الدفاع عن الحق فى الصحة
20 ديسمبر 2016