مهرجان طنطا الدولي للشعر دعوة للتنوع والمثاقفة


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5291 - 2016 / 9 / 21 - 16:44
المحور: الادب والفن     

"لكنها تدور..."
مهرجان طنطا الدولي للشعر دعوة للتنوع والمثاقفة

لئن كانت المركزية السياسية قد حافظت على مصر منذ عهد الملك مينا، موحد القطر، من أفة التمزق طوال عصورها، فإنها كانت أفة حرمت البلاد من الكثير من مظاهر التنوع في الثقافة والعادات والتقاليد. كان للعاصمة نصيب الأسد في كل شىء منذ أن أُلبست هذه الصفة الإدارية والسياسية، وقلما تذكر قاطنوها أن للأقاليم حقًا في التقاسم، بينما ندرت مبادرات المدن الأخرى لطرح وجودها وهويتها، وإذا كانت هناك مبادرات في هذا الاتجاه فغالبًا ما تنطلق من مركزية الدولة.
المركزية تصيب الدول بالجمود والشيخوخة وتسلط المسؤولين، تسلبها مشاركة الأطراف في ترميم الحاضر وصناعة المستقبل. لهذا فإن المتأمل للدول التي تشكلت من ممالك ودوقيات في أوروبا يرى كم هي ثرية عاداتها وتقاليدها وفنونها الشعبية وأزيائها ومطبخها، فكل منطقة أو قرية لها تنوعها وتفردها مقارنة بالأخرى المحيطة بها. وهذا ما لمسته في بلد مثل إسبانيا إذ تجد أن لكل منطقة تقاليدها وعاداتها وزيها الوطني وأكلاتها الخاصة بها، وكذلك الأمر في البرتغال وإيطاليا وفرنسا.
بيد أن مدينة مغمورة، تقع وسط الدلتا، هي طنطا التي ارتبطت في الذاكرة الجمعية للمصريين بالصوفي أحمد البدوي، ذي الأصول الفاسية، أخذت زمام المبادرة الشخصية للتلاقح بين شعراء يمثلون قارات اليابسة مع حضور مميز لعشاق الشعر. وتتمثل هذه المبادرة في مهرجان طنطا الدولي للشعر، في محاولة ليكون لها صوت في دنيا الثقافة العالمية، بعيدًا عن الموروث الديني، الشعبي، المتمثل في مولد شيخها، الاحتفال الشعبي السنوي. واليوم تستعد لاستقبال الدورة الثانية لمهرجانها الشعري خلال الأيام الأربعة الِأخيرة من شهر أكتوبر المبل.
لاشك أنها محاولة للتلاقح الشعري مع الآخر وسط دلتا النيل في تظاهرة يشارك فيها أربعون شاعرًا يمثلون ثماني عشرة دولة، بينها خمس دول ناطقة بالإسبانية، ما يمثل توجهًا جديدًا بعيدًا عن مركزية أخرى متمثلة في قصر اهتمامنا على الدول الناطقة بالفرنسية والإنجليزية. ويعود هذا التوجه الجديد إلى رئيس المهرجان الشاعر محمود شرف الذي اقترب من شعراء أميركا اللاتينية وإسبانيا منذ سنوات، فتعرف عن كثب على أهمية آداب الإسبانية، وأخذ يتعلم الإسبانية! وهنا يذكرني بالدكتور فوزي فهمي، بذكائه وثقافته الواسعة، خلال سنوات رئاسته لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي إذ كان يولي أميركا اللاتينية اهتمامًا ملحوظًا.
يضطلع بتنظيم المهرجان جمعية شعر للأدباء والفنانين في الغربية بالتعاون مع وزارة الثقافة وجامعة طنطا. وتهدف الجمعية إلى افساح المجال أمام تفاعل مباشر بين الشعراء والجمهور، تنمية الذائقة الشعرية لدى جمهور لم يخرج بعد أسر الشعر التقليدي الذي تربى عليه في المدارس والجامعات دون الخوض في التيارات الشعرية الحديثة.
السنة الماضية سنحت لي فرصة حضور جانب من أمسيات الدورة الأولى للمهرجان، وكانت هناك مفاجآت سارة في الافتتاح والأمسيات التي عُقدت في مقاهٍ وساحات، ما جعل الجمهور يتفاعل مع الشعراء الذين باغتوه بالحضور والقاء قصائدهم بأكثر من لغة برفقة الترجمة. التظاهرة استوقفتني وظللت أتأملها طوال طريق العودة إلى العاصمة المركزية، جعلتني أجدد ثقتي في هذا الجمهور الذي يفاجئنا حتى في لحظات يعلوه الوهن فيها وفقدان البوصلة. وفي الطريق تذكرت مبادرات أدباء ومثقفي الستينات في نقل فعاليات مسرحية وشعرية إلى الريف ومدن الأقاليم ما أثرى الساحة الثقافية وأيقظ نفوسًا ملأت سماء مصر الثقافية منذ الثمانينات إالى اليوم وإن كانت قد هرم أعضاؤها ورحل بعضهم عن دنيانا، ولعل أبرزهم في هذا السياق تلك الثلة التي ولدت في قصر ثقافة المحلة الذي يتعرض للتدمير الآن، أعني هنا ما أطلق عليهم البعض مزاحًا "عصابة المحلة الثقافية"، التي حلقت في فلك الدكتور جابر عصفور والدكتور نصر أبو زيد.
هل ننتظر ولادة مجموعة شعرية جديدة في الدلتا تتمحور حول محمود شرف وطنطا؟! التجارب الثقافية المماثلة أتت أكلها، وهنا تحضرني تجربة الشاعر والمسرحي غارثيا لوركا من خلال فرقته المسرحية "لابارّاكا" التي قدمت عروضها في قرى إسبانيا. إنني على يقين، بعد ما شهدت أمسيات اليوم الأول في دورة العام الماضي، من هذه المبادرة ستؤدي إلى تفاعل محلي وإقليمي وعالمي يخدم الثقافة والشعر في مصر والوطن العربي.
حري بالإنسان أن يحلم بمستقبل أفضل، لكن هناك ضرورة ملحة تتمثل في العوز المادي الذي يعاني منه المهرجان، فدون دعم مادي من المؤسسات الخاصة والعامة يصعب على أي مشروع الاستمرار، وإذا كان المشروع ثقافيًا فالأمر أصعب، وينتوي القائمون عليه الخروج به من إطار المدينة نحو قرى المحافظة لاقامة بعض فعالياته في مراكز الشباب. هذا بالإضافة إلى إتاحة الفرصة أمام مواهب من تلك الأمكنة، مراكز الشباب وكليات جامعة طنطا، لتقديم ما في جعبتهم من محاولات شعرية ضمن فعاليات المهرجان.