الأربعون ونوادر الزمالة


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5254 - 2016 / 8 / 14 - 16:25
المحور: الادب والفن     

الأربعون ونوادر الزمالة


ظاهريًا يبدو للعيان أن المصريين تخصلوا تمامًا من عادات وتقاليد أجدادهم الفراعنة. بيد أننا إذا أمعنا النظر بعد الاطلاع على شعوب عربية أخرى سندرك أننا لا نزال نحتفظ ببعضها في حياتنا اليومية. وتبرز بينها تلك المرتبطة بالموت، بناء القبور مرتفعة عن الأرض، والأضرحة وموالد أولياء الله، والمولد النبوي.
بيد آن أبرز هذه العادات الفاعلة هي الأربعين، أي الاحتفال بأربعين الميت، فلا يزال ورثة الفراعنة يحتفلون باليوم الأربعين لوفاة عزيز حيث يزورون المقابر، يترحمون عليه ثم يبدؤون خلع الملابس السوداء التي ارتدوهوا حدادًا عليه.
ولئن كانت هذه العادة مذمومة من منظور ديني، إلا أن هذا الأربعين، يُعد رقمًا مقدسًا إذ توارد ذكره في القرآن والحديث، وربما يحتل المرتبة الثانية بعد رقم سبعة الملغز. وليس غريبًا أن يشغل هذا الحيز ذا الدلالة الدينية بينما هو نفسه يمثل في عمر الإنسان رقمًا سحريًا آخر، فهو سن النضج والحكمة لديه، واكتمال نمو شجرة مباركة، هي شجرة الزيتون، التي أقسم بها الخالق في القرآن.
وهذه الأيام يحل أربعين زميل عزيز، محمد أبو العطا، الأستاذ في كلية الآلسن، جامعة عين شمس، وتمتد زمالتنا إلى النصف الثاني من السبعينيات، حيث درسنا في صرح عظيم في فكرته، رغم بساطته وفقره معماريًا، ثم إلى جامعة مدريد أوتونوما في مطلع الثمانينات. في السنوات الأخيرة ترجل إلى السماء خمسة زملاء، صغار نسبيًا، إلا أنني لم أشهد حزنًا ودموعًا كتلك ألتي ذُرفت على محمد أبو العطا من زميلات ومُريدات، ما أثار لدى نفر من الزملاء استهجانًا، ممن لا يرحمون لا في الحياة ولا حتى في الموت، وهو ما يُعزى إلى ما أسماه الجاحظ حقد الصنف، أو حسد أهل المهنة.
في الأيام الأخيرة، وأنا مسترخٍ بعيدًا عن صخب القاهرة المزعج لحواس البصر والسمع والشم، اجتررت شريط الذكريات مع هذا الزميل الجميل، ولا آدري سببًا لهذا التواتر على شكل شريط سينمائي ملىء بنوادر الشباب. ربما العودة إلى أجواء تقاسمناها في سني الدراسة، في القاهرة ومدريد، ونكاتها ومغامراتها. لهذا لن أخوض في فتوحاته في عالم الترجمة، فكتبه تعمر أرفف المركز القومي للترجمة.
إنني أتأمل الساحة الآن في أربعينه ولا آجد أثرًا للنحيب والصراخ الذي ملأ وسائل التواصل الإجتماعي ولا أجد أثرًا لذكراه، رغم أن دمه لم يجف بعد. كثيرات ذرفن الدموع عليه وتحولت إحدى شبكات التواصل الإجتماعي إلى صفحة وفيات. هالني منظر التباكي بحثًا عن بطولة زائفة. تأثرت لتلك الدموع، إذ أعرفه منذ حوالي أربعين سنة، وأعرف أنه دائمًا كان يترك أثرًا طيبًا في نفس المتلقي، إذ كان دمث الخلق، مطلع على الدنيا منذ صغرنًا، ومنضبطًا انضباط العسكر، ربما لنشأته في هذا السياق.
إلتقينا في كلية الألسن، وكان يكبرني بدفعة ضمت مجموعة رائعة من الزملاء، كانت خفة الظل سمتهم الأولى قبل التفوق في الدراسة. تعرفت فور وصولي المتأخر إلى قسم اللغة الإسبانية بالأول على الدفعة في السنة الأولى، -هاشم أبو عطية الذي اختفى تمامًا من مجالنا والمجالات القريبة منه- وكان شيوعيًا، وأظن أن توجهه كان السبب في سحب الأضواء عنه، في زمن كان الحرب على أشدها بين السادات والشيوعيين. وحل محله في السنة الثانية محمد أبو العطا.
ولم أتعرف إليه في الحال، بل تأخرنا قليلاً إلى أن جمع بيننا التسلل تحت جنح الظلام إلى المركز الثقافي الإسباني، في شارع عدلي، وهناك جمعتنا الجدية والرغبة في تعلم اللغة التي كانت نشاذًا بين اللغات المنتشرة في مصر آنذاك. وتُوج هذا الجهد في حفل أقامه المركز للأوائل ونال كلانا وآخرون مجموعة من الكتب بالإسبانية سلمنا إياها سفير إسبانيا سنتئذ دياث أليغريا، صديق الجنرال فرانكو ومبعوثه في مهام دولية لاحقًا.
إلا أن جرأتنا في التسلل إلى المركز الثقافي أدى إلى محاكمة تفتيش صغيرة في القرن العشرين نصبتها رئيسة القسم للمشتبه فيهم! وفي تلك الجلسة من المحاكمة العجائبية كالت لمحمد أبو العطا ولآخرين ما استطاعت من تهديد ووعيد عبر آلفاظ لامست خدش الحياء، ظل زميل آخر يذكره بها كلما التقينا في مدريد بينما أبو العطا يحاول أن يثنيه عن ذكر تلك الواقعة الثقيلة. كانت رئيسة القسم تدعي أنها تخاف علينا من الإسبان، أن يفسدوا أخلاقنا الشرقية الحميدة، من عفة وتحريم تعاطي الكحول! لكن السبب كان مختلفًا، عرفناه عندما كبرنا من أساتذة آخرين درسوا معها في شبابها.
وفي مدريد جمعتنا قاعة الدرس في جامعة أوتونوما حيث بدأ دراسة مواد المعادلة قبلي بشهور، لكنه تركها إذ ارتأي أن دراسة 25 مادة سيعني تأخيرًا في العودة إلى مصر رغم اقراره معي بأن ما درسناه في الألسن لا يؤهلنا لدراسة الدكتوراه معي. سنتئذ صدر مرسوم ملكي يسمح للأجانب ببدء دراسة الدكتوراه بلا معادلة ولا ماجستير، لكن بشرط جلي: عدم السماح للأجانب العمل في الجامعات الإسبانية.
رحل أبو العطا مع آخرين إلى جامعة كومبلوتنسي الأولى في بدء العمل بذلك المرسوم الملكي. إلا أنني آثرت إتمام الليسانس في جامعة أوتونوما التي رفضت سنتئذ بدء العمل بذلك المرسوم الملكي نزولاً على رفض رئيس القسم ماركوس مارين. شعرت بوحدة غريبة بعد تحوله، وكان ممن أيدوا مقصدي زميلة إسبانية، كانت صديقة له، جمعتهما خطة مستقبلية لكنها لم تُكتمل. ظلت تأسف لرحيله، وبعد سنوات طويلة من إنهاء مرحلة الليسانس فوجئت بها في قاعة تعلم العربية في المعهد المصري بينما كان أبو العطا قد أنهى الدكتوراه وعاد إلى أرض الكنانة. لم أسألها عن هذا التغير النوعي في مسارها، لكنني فهمت أن مشروعهما ربما كان قائمًا ولم يكتمل. كانت متفوقة في الليسانس وفي تلقي دروس العربية. لم أخوض في علاقتها ولا سبب عودتها إلى عالمنا، لأنني أعلم أن محمد كان كتومًا، محافظًا مسافة واسعة بينه وبين الآخرين في حياته الإجتماعية الجادة.
وفي المعهد المصري جمعتنا القاعة مرة أخرى لتعليم اللغة العربية للإسبان، وكانت نوادر الطلبة في أول العام الدراسي، المتعلقة بدواعي تعلمهم العربية مثار تعليقاتنا طوال السنة. ذات مرة سأل طالبة –كانت ممثلة مسرح- عن أسبابها، فكانت صريحة إذ قالت له: كي أرى كيف تنطقون وتكتبون هذا اللغة الغريبة! أنا خففت وطأة الجملة، فهي بالإسبانية طريفة. النوادر كثيرة في هذا السياق، خاصة في المصريين والأشقاء العرب الذين كانوا يترددون على المعهد المصري، خاصة أولئك الذين حاولوا البحث عن الأصول العربية لكل شىء في إسبانيا، من مفردات لغوية وعادات وتقاليدم دون دراسة أو دراية بعلوم اللغة، وكلمة أستاذ كانت إحدى تلك النوادر المضحكة، إذ ظن البعض وشهر سيفه ليؤكد أنه أعطت لفظة حضرتك Ustedفي الإسبانية. هذا ناهيك عن ألقاب الأسر الإسبانية!
حاول أن أصحبه في مساره الدراسي الجديد في جامعة مدريد كومبلوتنسي، مع مصريين آخرين، لكنني رفضت من منطلق أن ما درسناه في كلية الألسن لم يكن ليؤهلنا لدراسة الدكتوراه دون دراسة الليسانس من جديد في جامعة مدريد، وهذا ما كان لي رغم عرقي وألمي طوال سنوات الليسانس الجديد بين أبناء اللغة. وردًا على تشبثي قال لي ذات يوم: سأعود إلى مصر مبكرًا وأصبح أصغر أستاذ في جامعاتها.
أنهى أطروحته وكان يكلمني عنها بفخر كبير، إذ درس فيها نتاج القاص الإسباني الجمهوري رامون خوتا سندر، الذي نفي مع مثقفي اليسار الإسباني بعد خسارتهم للحرب الأهلية التي أشعلها الجنرال فرانكو. كان الجو مكهربًا في مناقشة الأطروحة، ولم يلطف وطيس المعركة، التي كان فيها تحامل عليه من أحد أعضاء اللجنة، فرانثيسكو إندوراين، سوى أن تدخل آخر بقراءة الفاتحة بعربية ركيكة، حفظها منذ أن كان طالبًا.
أنهى مرحلة الدراسة بنجاح، وكنت قد آنهيت الليسانس وبدأت الدراسات العليا، مؤكدًا أنه سيكون من أفضل مترجمي الإٍسبانية في مصر. وهو ما كان له. لقد حقق نجاحًا ملحوظًا في دنيا الترجمة، وكان يتمتع بدقة انتقاء الألفاظ ودلالاتها، وربما كان يعود هذا إلى أنه كانت له في صباه محاولات أدبية لم تكتمل. وفي الوقت ذاته كان كتومًا، شديد الغيرة على ذاته، يتمتع بكرم حاتمي، لم ألمسه في كثيرين من فصيلنا.
عند عودتي إلى أرض الكنانة شهدت حرب داحس وغبراء في مطلع القرن الحادي والعشرين، نًصبت له ولزميل آخر، -أظنهما لم ينصباها- وشارك فيها نفر غفير من المشتغلين بالدراسات الإسبانية في مصر. كلاهما تربطني به علاقة طيبة، إلا أن البعض أراد أن أنضم إلى أحد الفريقين، وعندما حاولت الوقوف في المنتصف لم يرُق موقفي للكثيرين، فوُصمت بالتموضع مع الفريق الآخر. كان بذرة تلك الحرب تعود إلى ما وصفة الجاحظ، حسد الصنف.
تميز أبو العطا باعتزاز عالٍ بالذات، ما كان يثير حفيظة البعض، لكن مع خلط ما نبه إليه الجاحظ. وذات يوم أخبرني وكله غضب مختلط بالسخرية من آحدهم، معيد صغير فيه غرور عجيب، كان قد جاء إلى مدريد للدراسة، ولحظه العثر أخبر محمد أبو العطا، الذي كان في زيارة لمدريد، بأنه قرأ أطروحته في مكتبة المعهد المصري، ولا بأس بها. شاط أبو العطا وكال له ما يستحق من ألفاظ تنم عن جهل المعيد الغرّ. صدقته، فذلك الشاب نفسه كان قد ارتكب حماقة أخرى تجاهي، تنم عن جهل وحسد، إذ قرأ مقالاً لي في جريدة إلبائيس وهو في الطائرة التي أقلته لأول مرة إلى العاصمة الإسبانية. وفي اليوم الثاني ذهب إلى السفارة وسأل الرجل الثاني عني، ولماذا أنا بالذات أكتب في هذه الجريدة! ما كان من الدبلوماسي إلا أن أعطاه عنوان الجريدة وقال له اكتب واذهب إليها لينشروا لك مثله إن كانت لديك القدرة على الكتابة! تندر أبو العطا بالواقعتين وظل يمازحني بهما في لقائتنا المتباعدة.
عندما توفي هاتفني صدفةً صديقة من جامعة مدريد، كان الحزن واضحًا في نبرة صوتي. سألتني عن السبب، فحكيت لها ما حدث لزميل عزيز في مطلع الستين من عمره. وكانت كلماتها حاسمة: لماذا تموتون صغارًا في مصر؟! الإجابة تعرفها هي جيدًا فهي تعرف الكثير عنا من المحيط إلى الخليج لطبيعة اختصاصها. كانت تعلم أن خمسة من الزملاء المشتغلين في هذا الحقل قد رحلوا عن دنيانًا في السنوات الأخيرة وهم في نهاية الخمسينات ومطلع الستينات.
لا شك أن مرض محمد أبو العطا الطويل ثم رحيله عن دنيانا سيترك فراغًا في عالم الدراسات الإسبانية والترجمة عن لغة ثيربانتيس. رحمه الله وأسكنه جنة كان يحلم بها على الأرض، في أرض الكنانة.