نقاط إلتقاء وافتراق بين إنقلابي تركيا وإسبانيا


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 5225 - 2016 / 7 / 16 - 19:28
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور"
نقاط إلتقاء وافتراق بين إنقلابي تركيا وإسبانيا
د.خالد سالم
بعيدًا عن أي هوى فكري أو إسلاموي تلبس الخوف كل مؤمن بالحرية والديمقراطية ليلة أمس. وبعيدًا عن عبادة الأصنام أو الهوى، مدفوعًا تجاه أردوغان أو الإخوان، فالواقع أن حدوث انقلاب في بلد مثل تركيا، تعمل مؤسساته بفاعلية تتجلى في الأرقام وشهادة الجميع، يمثل خطأً جسيمًا في هذا البلد الجسر بين الشرق والغرب. الوضع ضبابي، ملتبس، يتطلب جلاء وإستجلاءً في عواصم المنطقة.
السؤال الذي طرح نفسه فور نشر أول خبر عن محاولة الإنقلاب هو: كيف يحدث هذا في بلد قطع شوطًا لا بأس به على طريق الديمقراطية؟ هذا رد فعل طبيعي في لحظات الإنتقال السياسي من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وهو ما شهدت إسبانيا في عام 1981، في التحول من نظام الجنرال فرانكو المتسلط إلى النظام الديمقراطي، نحو انضمامها إلى سياقها الأوروبي، سياق الحرية والديمقراطية والانضمام إلى السوق المشتركة. لا وضع تركيا ولا تطلعاتها للانضمام إلى نادي بروكسل يسمح بنجاح محاولة ليلة أمس. لكن حدوثها، رغم فشلها، يطرح سؤال: هل خرجت تركيا بالفعل من طوق العالم الثالث؟
من يعرف تركيا واطلع على أرقامها كان يظن أن الأتراك طمروا تهديد الإنقلابات العسكرية وأعادوا العسكر إلى ثكناتهم بلا رجعة لكن الصور الأولى لمحاولة الإنقلاب أثارت التساؤلات والمخاوف تجاه بلد يتطلع للإنضمام إلى المنظومة الأوروبية ويتمتع بعضوية حلف شمال الأطلسي.
كان المراقب يعتقد أن أردوغان تمكن من إبعاد طمع الجيش في السلطة، وأنه أبعده عن السياسة بعد عمليات تطهير واسعة لعل أبرزها ما حدث عام 2010، وبات واضحًا أن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يمثل هوسًا للنظام الإسلامي، على عكس توقعات العلمانيين وتوقعاتهم، لكن هذا لم يمنعه من اغتيال حقوق الأقليات والمنشقين وسحق المعارضين لأردوغان. معدلات النمو والتنمية في تركيا غطت على عيوب النظام، وقطعت الديمقراطية خطوات لا بأس بها رغم المثالب كلها.
أحدثت المحاولة الفاشلة هزة عنيفة في العالم، شوهدت في وسائل الإعلام وخاصة في شبكات التواصل الإجتماعي. بيد أن هذه الأخيرة شهدت سجالاً عقيمًا بين الإسلاميين، المساندين للإخوان، وبين المؤيدين للتجربة المصرية المتمثلة في إزاحة الإخوان عن سدة السلطة منذ ثلاثة أعوام. التعليقات في غالبيتها لامست الشماتة والسفاهة في أردوغان وكأنه هو تركيا، من ناحية، بينما اجتمع الآخرون على أن الغرب والشرق اجتمعا على ضرب التجارب الديمقراطية في الدول العربية والإسلامية. تابع العالم وقائع الإنقلاب الفاشل لحظة بلحظة بفضل هذه الشبكات، على غرار ما قامت به قنوات التلفزيون في حرب الكويت وغزو العراق، مع الفارق في أن ليلة أمس لم تكن هناك غربلة لما يُبث.
هذا الحدث أفرز علاقات، فبعضهم إنزوى توًا وغير وجهته مع نور الصباح، بينما آخرون هللوا وسجدوا شكرًا لله وقدموا النذور تزلفًا إليه لفشل الإنقلاب. كلاهما افتقر إلى الحياد واللجوء إلى تحليل صائب لما يحدث ويدور على حدود العالم العربي.
أعادتنا محاولة الإنقلاب الفاشلة التي جرت أمسِ في تركيا إلى الأجواء التي عاشها الإسبان مساء 23 فبراير 1981 حيث دخل بعض قادة جهاز الحرس المدني إلى مجلس النواب بينما كانوا يصوتون في جلسة تنصيب رئيس الحكومة الجديد. كانت لحظات قاسية بكل المقاييس للإسبان، خاصة ذلك الجيل، أطفال الحرب الأهلية (1936/1939) والأجيال اللاحقة التي ذاقت المرارة والحرمان والقمع تحت حكم الجنرال فرانكو طوال أربعة عقود.
كانت إسبانيا تموج بفرق وحركات وتحركات مشبوهة، وأحزاب ومؤسسات ترى أن الحكم من حقها، وترى في الديمقراطية هراءً. كان الحرس القديم، ورثة نظام فرانكو، ومن خلفهم الجيش والكنيسة يرون أنهم حملة مشعل النهوض بالبلاد والاستمرار في قيادتها السماح بقطعة صغيرة للمعارضة متمثلة في الإشتراكيين دون الشيوعيين.
كان هناك توتر مستمر منذ وفاة الجنرال فرانكو، نوفمبر 1975، يعود لاسباب عدة لعل أبرزها ضعف حكومة حزب الوسط الديمقراطي –ورثة نظام فرانكو- وعجزها عن حل مشكلات الأزمة الإقتصادية، وصعوبة وضع خريطة سياسية جغرافية لإسبانيا بموجب دستور 1978 –نظام الحكم الذاتي- والعمليات الإرهابية التي نفذتها منظمة إيتا الإنفصالية ورفض بعض قطاعات الجيش للنظام الديمقراطي بعد سيطرة تامة طوال أربعة عقود منذ أن وأدوا النظام الجمهوري بإشعال الحرب الأهلية في الثلاثينات.
كانت إسبانيا تريد أن "تصبح" أوروبية، رغم سياقها وجغرافيتها الأوروبية، فكان لا محل لإنقلاب عسكري في بلد إنضم بعدها بخمس سنوات، صيف 1986، إلى السوق الأوروبية، لكنها قبلها "قررت" في إستفتاء شعبي استمرارها في حلف شمال الأطلسي والإعتراف بإسرائيل في يناير 1981 لتكون آخر بلد أوروبي يعترف بها. مع فشل المحاولة الإنقلابية في إسبانيا قويت صورة النظام الملكي بقيادة خوان كارلوس الأول الذي لم يتأخر في ارتداء زيه العسكري والقاء خطاب في التلفزيون الرسمي، بصفته قائدًا عامًا للجيش، يأمر الإنقلابيين بالعودة إلى ثكناتهم. الملابسات كانت كثيرة، لكن الإنقلاب فشل وخرج الإسبان من رعب صور دماء الحرب الأهلية وإفقار البلد. وسارت إسبانيا على قضيب الديمقراطية.
المحاولة الإنقلابية الفاشلة في تركيا تؤكد ولاء جهاز الشرطة له، لكنه ولاء يفتقر إليه في علاقته بالجيش. الأمر الذي يضفي ضبابية على المسرح السياسي في تركيا. إلا أن انقسام الجيش، ربما كان أكبر إسفين للإنقلاب. ولا أظن أن خروج الشعب إلى الشارع كان العامل الرئيس، فوسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي يعتريها خداع بصورها وتفسيرها لدى المتلقي.
وقد تأتي الأيام القادمة بمفاجآت لا يحمد عقباها رغم انقشاع خطر ضرب الديمقراطية. لكن أردوغان الذي يحلم بالاستمرار في الحكم حتى مئوية تأسيس تركيا العلمانية على يد أتاتورك، عام 2023، قد يضرب بعصا من حديد على رأس كل مشتبه فيه بمساندة الإنقلاب، فلا تركيا في سياق مشابه لسياق إسبانيا يأخذ بيدها لتنضم إليه ولا هي بمعزل عن منطقتنا العربية بحمم براكينها المتواترة والمستمرة لسنوات. والخوف كل الخوف أن تصبح تركيا ساحة مفتوحة على مصراعيها أمام عمليات إرهابية، سيشارك فيها القاصي والداني، كل لأغراضه ومصالحه التكتيكية والإستراتيجية. وهنا سوف يقع الشعب التركي وقياداته تحت اختبار قاسٍ، قد يؤدي إلى اشتداد عود الديمقراطية أو تهشيمه والعودة إلى صفوف التخلف والعالم الثالث، وهو ما لا يتمناه من يحلم بالحرية والديمقراطية على المستويين الوطني والقومي في القرن الحادي والعشرين.