المسرح والخيال: مقالات في النظرية


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4909 - 2015 / 8 / 28 - 16:14
المحور: الادب والفن     


"لكنها تدور"

المسرح والخيال: مقالات في النظرية *

يضم كتاب " المسرح والخيال. مقالات في النظرية" سلسلة من الأطروحات التي تتناول المسرح كخيال، أي كطريقة تمثيل عوالم خيالية أو تخيلية. لهذا فإنه يولي اهتماماً خاصاً للطريقة الأخرى للتمثيل، الطريقة الروائية، في تجلياتها الثقافية الكبرى، أي السرد الأدبي والسينمائي، إلى درجة أن بعض هذه الأشكال تصبح عمد بعض أطروحات هذا الكتاب.
وكان قد سبق للمؤلف، وهو متخصص في عالم البحث والتنظير المسرحي من خلال عمله الجامعي والبحثي في المجلس الأعلى للبحوث العلمية في مدريد، أن كتب فصولاً من هذا الكتاب ونشرها ثم أعاد كتابتها لضمها إلى هذا الكتاب، الأمر الذي يؤكد أنه عبارة عن واقع لنص مفتوح يحاول أن يكون على صلة وثيقة بأطروحات المؤلف في كتب سابقة له مثل "الدراما والزمن" و"كيف يُشرح عمل مسرحي"، وهو ما يعتبره البعض استكمالاً لهذا الدائرة التي طرحها في الكتابين السابقين.
في البداية أود أن أشير إلى أن مفهوم الخيال الأدبي وأنواعه شغلا منظري الأدب منذ فجر البحث في الإبداع الشعري، منذ أفلاطون وأرسطو اللذين ولجا هذا المشروع من منطلق أن أي فن عبارة عن تقليد للواقع. وعليه فإن أي نص أدبي بطبيعة الحال خيالي، على الأقل حسب قدرة كل متلقٍ على فك شفرة كل كلمة، الأمر الذي يسمح فردياً بإعادة خلق العالم الذي اقترحه المؤلف. والمعلم الذي يميز نصاً عن الآخر بالنسبة للخيالية يكمن في درجة تماشيه مع واقع خارج النص وبشكل أو بآخر ضمن احتمالية. والاحتمالية تعني في منظومة الأفكار هذه أن العالم الذي يُقدَم لنا من خلال عمل أدبي عالم محتمل، مشابه للموجود، وإن كان مخترعاً.
في هذا السياق يؤكد باحث متخصص آخر في عالم المسرح هو كورت سبانغ أن عالم المسرح فيه خيال مزدوج: الخاص بالنص نفسه، الواقع الخيالي، والواقع المتعلق بخشبة المسرح. فالمكان والزمان والشخوص يختلطون من خلال التمثيل. ويقول إن المؤلف السردي إذا قدم لنا العالم الذي تدور فيه الحكاية التي يقصها علينا فإنه يقدمها لنا شفهياً فقط. أما المؤلف المسرحي فعليه أن يخضع لحدود مادية، أملتها الاحتمالات والمستحيلات الملازمة لتمثيل مسرحي .
وكان قد سبق لمؤلف الكتاب الذي بين أيدينا، وهو متخصص في عالم البحث والتنظير المسرحي من خلال عمله الجامعي والبحثي في المجلس الأعلى للبحوث العلمية في مدريد، أن كتب فصولاً من هذا الكتاب ونشرها ثم أعاد كتابتها لضمها إلى هذا الكتاب، الأمر الذي يؤكد أنه عبارة عن واقع لنص مفتوح يحاول أن يكون على صلة وثيقة بأطروحات ضمّنها كتباً سابقة له مثل "الدراما والزمن" و"كيفية التعليق على عمل مسرحي"، وهو ما يعتبره البعض استكمالاً لهذا الدائرة التي طرحها في الكتابين السابقين.
يتضمن الكتاب ثلاثة فصول. يدور الأول حول المعرفة من خلال ثنائية الكتابة والأداء بغية التوصل إلى نظرية للمسرح، والمسرح والعرض، والأداء والكتابة: المسرح ضد السينما، والممثل والجمهور: "فاعلو" المسرح، إلى جانب التماثل. ثم يختتم هذا الفصل بالتعريج على المسرح والنص والنص الدرامي والعمل الدرامي بتطعيمه بتعريفات ذات فائدة في هذا السياق، مثل التفريق بين التفسير والتمثيل.
وفي الفصل الثاني الذي يأتي تحت عنوان "بلاغة" يعالج أزمان المسرح والزمن في المسرح، والمفارقة التاريخية والخيال، والتطابق والبعد، والمَسرحة، إلى جانب تحديد البؤرة والخيال.
وفي الفصل الثالث" خاتمة" يسلط الضوء على إحدى القضايا التي تؤرق العاملين في عالم المسرح بالتطرق إلى مسرح المستقبل أو مستقبل المسرح: التكنولوجيات الجديدة كإثارة، والفضاء السيبرنطيقي ونظرية المسرح.
وضمن دراسته يؤكد المؤلف أنه، من الناحية النظرية، لا يمكن تعريف النص الدرامي دون إشارة إلى الإخراج، أي المسرح. مستعيناً في ذلك بمقولة الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت ( 1883-1955) بأنه لا يمكن النظر إلى ما لدى الأدب بمعزل عن ما في العمل المسرحي من عرض. والمسرح، على العكس، يمكن تعريفه دون الإشارة إلى النص أو إلى العمل الدرامي، أي الأدب المكتوب. ويرى أن هناك غموضَ منظورات يقف وراء الظلام الذي يميز العلاقة بين جنس وآخر. والمسرح، كأفق ضروري للنص الدرامي، يحدده، بعيداً عن تمثيله أم لا، فالعمل المكتوب من منطلق أنه عنصر قادر على توليد مسرح، لا يشكل جزءاً من تعريفه، لكنه ليس وحيداً ولا ضرورياً.
وبهذا يعارض غارثيا بارّينتوس أولئك الذين لا يزالون يولون النص المكتوب أهميةً كبرى على حساب التضحية بالتنوع الأسلوبي لصالح نوع من الثبات الاستمراري. فإذا كان ضرورياً طرح العلاقة حسب الأولوية، ففي هذه الحالة يرى أن التمثيل، المسرح، هو العنصر أو العملية الأولى، التي تولد الدراما أو يبنيه: أولوية ما يتعلق بالطريقة – التمثيل- في مقابل ما هو نوعي –الدراما- ونص ومشهد.
ويلح المؤلف على أن ما نفهمه كمسرح هو تنفيذ، عرض، تمثيل أو إخراج مسرحي. وتعريفه بهذه الطريقة يصبح المسرح إلى جانب السينما والسيرك ومصارعة الثيران والمسابقات الرياضية والتلفزيون والحفل الموسيقي والحفلات الشعبية أو الاستعراضات العسكرية، ضمن الجنس المشهدي. إنه قبل كل شيء نوع من العرض. وعليه فمهما يكن العرض يجب أن يطرح على أنه مسألة أولية.
هناك تسليم بأن الزمان والمكان مبدئيا تصنيف جمالي، وهو ما يتفوق على الجمود التقليدي الخاص بهما عند إحالتهما إلى المفهوم السميولوجي للاتصال، أي اعتبار الشيء الجمالي في حالة وجوده على أنه ليس إبداعاً، يتطلب مدة دائماً، ولا إدراكاً، لا يمكن فصله أيضاً عن الزمان، بل اتصال. وبهذا يصبح نظاماً متماسكاً قادراً على تمييز فنون المكان من فنون الزمان. الأولى ستكون تلك التي أعمالها متصلة في المكان، الفنون التشكيلية، وهذا يعني أن المكان ضروري وكافٍ لاتصال مثل هذه الأشياء. وعلى اعتبار أن اتصال عمل يكمن في فعل خارج الزمان، فإن مشاهدته ضرورية وكافية في المكان، في حالة العمل الهندسي، نجد أن الزمان لا غنى عنه في فهمه. وبطريقة مماثلة يمكن تعريف الفنون الزمانية، الأدب والموسيقى، مثل تلك ذات المنتجات الاتصالية في الزمان، إذ أنها تتطلب الزمان بطريقة ضرورية وكافية كي تكون اتصالية.
في النظام المتقرح يمكن صياغة تعريف عرض كفن منتجاته اتصالية في الفضاء والزمان، أي كي تصبح اتصالية تتطلب بالضرورة الزمان والفضاء. وقد تم التحقق من قيمة التعريف بتطبيقه على التظاهرات الأكثر تنوعاً، المتعددة والغير متجانسة في آن واحد، وإثبات فعالية المعيار للتحديد في حالات الغموض أو الحدودية.
وعليه فهو على سبيل المثال يؤكد الطابع المشهدي للرسوم المتحركة وينفي الطابع الخاص بالمنحوتات ذات التطور المستمر، لوحات الفصول التتابعية، الشرائط المرسومة والقصص المصورة، فهذه الأخيرة تفتقر إلى الحركة فقد أبدعها مؤلفوها لإدراكها في الفضاء وفي الزمان، إلا أن الفضاء كافٍ لاتصالها، دون إقحام الزمان.
ولفظ فن في هذا السياق يفيد في إدخال تقليص يسمح بالتمييز بين عرض وفنون العرض. ونظراً لاستحالة العثور على معيار صالح لتعريف ما هو فني في معناه كقيمة جمالية، فإن "فن" يؤخذ، بمعناه الواضح والمجرد، "للإبداع الصناعي" المتعلق بشكل أو بآخر بفكرة "المحاكاة" المضاد لفكرة "الطبيعة"، والمشتق والثانوي بالنسبة للحياة.
وحسب هذا المعيار فإن التقليص يبقى مصاغاً بالطريقة التالية: "ينتمي إلى فن العرض تظاهرة تم وضع وتنظيم تطورها ونهايتها مسبقاً، ومسيرتها ونهايتها لا يمكن أن تتغير بطريقة حاسمة على يد التدخل غير المرئي للحياة كي يوجد فن عرض، ويكفي أن يتم احترام الحبكة وحل العقدة. وعليه يمكن الاعتراض، على سبيل المثال، على سباق الدراجات والهوكي على الجليد، كعروض، وعلى دور الدراجة في الميوزيك هال، أو التزلق الفني على الجليد، في فنون للعرض. ومع ذلك فإن المعيار أكثر من قابل للنقاش. ليس فقط مسألة ألا يكون الحد متصلباً، كما يقول كوزان: هناك هامش استنباط في فنون العرض، وهو ما تشهد به لا كوميديا ديلارتي، وبالنسبة للحبكة وحل العقدة في حالة مثل السهرات "المدبرة" للمصارعة الحرة. ولا يقتصر الاعتراض على وجود، وهو ما أشار إليه أيضاً، تظاهرات تقر تخطي هذا الحد على وجه الدقة، مثل الهابيننغ .
إن تطبيق هذا المعيار يستبعد مصارعة الثيران من "الفنون"، عرض ليس فيه فقط التطور الشامل، بل كل من أجزائه الصغرى، كلها منظمة طبقاً لوضع وحركات كل الذين يتدخلون (على سبيل المثال، وخَازو الثور) وكذلك في الوقت الذي يجب أن يستخدم فيه (التعليمات للمصارع، على سبيل المثال)، وهو احتفال يتطلب حضور قاضٍ، "الرئيس"، الذي يسهر على تنفيذ اللوائح ويقرر الجوائز، وهي رمزية بحتة، جوائز تتعلق بالتنفيذ، بعيداً عن مجال المنافسة. إذا كان بالنسبة للحبكة أحد العروض الأكثر صرامة في التنظيم (رمية رمح أصيلة لا تقدر بشكل كبير ولا تدرج في "القانون": القانون هناك هو التكرار، التقليد، لكنه تقليد خلاق، مثلما يحدث في المسرح). ماذا يمكن القول عن النهاية؟ حل العقدة، أو نهاية مصارعة الثيران، ليس فقط ثابتاً ويُحترم، بل إنه وحيد، يكرر ست مرات أو أكثر ضمن عرض وحيد: موت الثور (باستثناء حالة العفو، حسب القواعد). ومخاطرة إصابة المصارع على يد الثور أو حتى مقتله لا يعرض مسيرة المصارعة ولا نهاية العرض للخطر. والإقصاء، من هذا المنطلق، يمكن فقط أن يقوم على أساس سوء فهم: أن مصارعة الثيران عبارة عن صراع أو منازلة بين ثور ومصارع، نهايتها يمكن أن تتغير بشكل مفاجئ، في حين أنها عبارة عن رقص ملتزم بالقواعد الأكثر صرامة حيث ينصهر الإنسان مع نبل الحيوان في عرض حركي تماماً.
المخاطرة -غير موجودة في مصارعة الثيران- بأن تدخل الحياة يغير بشكل حاسم في تطور أو نهاية العرض تحدث، على العكس، في السيرك. يكفي تمثيل الثواني التي يتحرك فيها جسم لاعب السيرك في الهواء. وأكثر من هذا أن "معنى" أكبر جزء من الأدوار في السيرك يكمن في هذه المخاطرة. رأس المروض داخل حلق الأسد، برج الكؤوس الزجاجية المرفوع على عكاز فوق أنف البهلوان: هذه الثواني تمثل لب السيرك. هل يمكن إقصاء "فنون" العرض أم فقط يجب أن تنتمي إليها الأدوار السيركية "المخادعة"، عمل الحواة على سبيل المثال؟
ومعروف أن سيغفريد ميلشنغر كان قد أكد أن السيرك هو المسرح الحقيقي الشامل، وحسب الفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غاسيت فإن السيرك والثيران ابنا عم المسرح: السيرك ابن عمه الأحول، المصارعة ابن عمه المريع، الأعور. هل يعني هذا، بمقتضى القرابة، أن نقصي المسرح من "فنون" الاستعراض؟ إذا طبقنا المعيار بصرامة فإن الجواب سيكون بالإيجاب .
إذا أخذنا المسرح في المناسبات القليلة التي يُنتج فيها بالفعل مع المشاركة الضرورية للجمهور والممثل، فهو مبدع على المسرح، لا يمكننا أن نفكر في تطور ونهاية تظاهرة مسرحية يمكن أن يكونا موجودين ومنظمين مسبقاً، دون إمكانية أن يطرأ عليهما تغيير حاسم بسبب تدخل الحياة. كل هذا من منطلق فهم المسرح على أنه شيء أكثر من تكرار عدة كلمات أو تشكيل حكاية، وهذه الكلمات عادةً لا تتغير، وإن كانت تستطيع ذلك، وتتغير في بعض المناسبات، حتى في النظام الأكثر تقليديةً للمسرح، ربما يكون الأقل مسرحاً.
ويخلص غارثيا بارّينتوس في هذا السياق إلى أن التفرع الثنائي، المطروح في هذا السياق، يبدو مثيراً للجدل لنظرية عرض وغير مجدٍ بالنسبة لغرضنا المتعلق بتعريف المسرح بدقة نظراً لأنه، وليس فقط بعض أشكاله يتوزع بين ناحية وأخرى من الخط الفاصل، والشيء نفسه عن السيرك ومصارعة الثيران، وبصفة عامة كافة "الفنون" التي تتحقق منتجاتها في اللحظة الحية من التقاء عدة "ممثلين"- مصارع، بهلوان، فكاهي- وعدة "مشاهدين" دون وجود دورهم، مهما كان حجمه، يستحيل وجود العرض، ومعروف أن هناك عروضاً عدلها أو غيّرها تصرف الجمهور.
هناك نقطة مهمة أخرى عالجها المؤلف وتتعلق بتبرير العلاقة بين الأدب السردي، السينما والمسرح من منطلق أن السينما والمسرح يعترضان السرد الأدبي فيما يتعلق بعرض أو تمثيل غير مقصور ولا أولي ولا بالضرورة شفهيين، بل في الأساس بصريان. جانب التمييز الأكثر عمومية للمقابلة الكيفية يكمن في الطابع غير المباشر والمباشر للتمثيل بأنواعه: في السينما كسرد يمثل عالم من خلال وسيط، عدسة آلة التصوير وصور الراوي، المسرح يعرضه أمام أعين المشاهد دون وسيط من أي نوع.
ويحتل مستقبل المسرح حيزاً مهماً في هذا السياق إذ يلعن عن موافقته مع أولئك الذين يرون أنه طالما وجد الإنسان، سيوجد المسرح. ألا يعتمد على أي نمط من الإنسان وجوده بشكل أو بآخر؟ ربما لا يمكن فهم مسرح بلا بشر، ولكن نعم، إنسان بلا مسرح. لا يمكن الإيحاء بشيء آخر سوى توخي الحذر في التفكير في مسرح المستقبل دون استبعاد إمكانية عدم وجوده ببساطة، مهما كان يبدو لنا غير محتمل.
بين مظاهر التفاؤل حول مستقبل المسرح، هناك أمر ملفت للنظر ذلك المتعلق بشخص يميل قليلاً إلى التفاؤل الثقافي، قليل التنازل مع مبتذلات آخر صيحة والأفكار الضعيفة، سواء أكانت جادة أو خاصة بالصفوة مثل جورج شتينر. في دراسته "الجنس الفيثاغورثي" يطرح قضية أزمة الرواية، الثالثة بعد الملحمة والمسرح الشعري، من بين الأجناس المهيمنة في الأدب الغربي، إذ كان قد تساءل منذ أربعين سنة: ماذا إذاً بعد الرواية؟ واقترح في موضع آخر أنه في وسائل الإعلام الإلكترونية والبصرية بصفة عامة ووسط الشركات الجماهيرية الناشئة، أصبح لدى الدراما –وعلى وجه الخصوص الدراما المفتوح على النقد ومشاركة الجمهور- مستقبل أوسع. أكثر من أي جنس آخر، يمكن للمسرح أن ينظم، يكتشف ويرمز إلى ضمير جماعة في تطور. وبدقة متناهية، يمكن تنشيط لدى جمهوره خطوات التمثيل السابقة على التصوير إلى آخر مصور، بتركيب هيكل مرن من كافة اللغات، ابتداءً من الرقص والإيماء والموسيقى حتى الشفرات الشفهية الأكثر حذقاً .
يجب الأخذ في الاعتبار أنه قد مر حوالي أربعين عاماً منذ نشر هذا التوقع. وعليه فيجب القيام بتتبع درجة الوفاء به حتى الآن. لا أعتقد أن المسرح كان الجنس الذي نظم واكتشف ورمز، أكثر من أي جنس آخر، إلى تطور ضمير أي مجتمع في الستينات حتى الآن. ألم تكن السينما (أو الرواية، أكثر) بشكل أفضل وأكثر من المسرح، خلال هذه الفترة من السنوات قد وفت بهذا الغرض؟ كما أنني لا شكوك لي حول ما إذا كان تطوره في هذه المدة قد شجع الجمهور في التحول من قواعد التمثيل السابقة على المصورة إلى أخرى مصورة؟ من المؤكد أن هيكله المرن الذي يتسع في كل مرة للغات أكثر مثل الرقص أو الإيماء أو الموسيقى. غير أنه لا وجود لإدراك تقدم كبير نحو إدراج "الشفرات الشفهية الأكثر أسلوبية"، الأمر الذي لا يزال ينظر إليه البعض كحلم كبير معلق، أبعد من الواقع عن الرغبة. ويمكن أن يكون هناك انطباع أنه حول هذا التوجه على العكس، نحو ما هو مضطرب وقذر أكثر نحو الجلاء والخضوع لقواعد أسلوب. إنه مجرد رأي، وهو في الوقت نفسه رأي مثير.
إلى حد ما لا يمكن التفكير في أنه ربما المستقبل الذي كان يبدو في عام 1965 يمكن أن يصل عبر الماركسية يصل الآن عبر سبل مناقضة: لا أقول إنه المستقبل نفسه، بل نعم اثنين متناسقين واستعراضيين. ما نطلق عليه العولمة، الفكر الوحيد أو نهاية التاريخ يشكل الصورة المتناسقة (وإذا أردنا المتناقضة)، في مخطط الواقع، لما مضى، في المخطط المثالي تماماً لليوتوبيا، الجنة الشيوعية، المجتمع بلا طبقات، النهاية "الأخرى" للعالم. وعلى أساس القاعدة المشتركة لغياب النزاع الغائي، يمكن أن تفيد في المستقبل الذي يبدو الآن ممكناً لتنبؤات شتينر والذي يبدو أنه مر على التاريخ... الأفكار. في مجتمع كهذا ستعيش بكل تأكيد كما يبدو أن تروسكي تخيلها.
وهكذا فإن التغير الثقافي سيكون أكثر حسماً في تاريخ الغرب وربما البشرية، منذ وضعه في عهد أفلاطون إلى عصر اختراع المطبعة، نجد أن الكتابة لم تقض على التمثيل، ولم تقلص المسرح إلى الكتاب، مثلما حدث مع الشعر الملحمي وإنشاده أو الشعر الغنائي وإلقائه. وهذان الأخيران يميلان إلى التكيف مع السبل الجديدة من أجل البقاء، والمسرح على العكس يبدو متقوقعاً في رفض مبدأ التطور: "لا التكيف ولا الموت" يبدو هذا هو شعاره.
ولا حتى يعطي الانطباع بأن ظهور وسائل استعراضية جديدة مثل السينما والتلفزيون سهل للمسرح أن يُفرّغ فيهما –بالاختفاء أو الاستراحة-، الأمر الذي كان ممكناً، ولا يزال هكذا، فالزمن الذي مر غير مهم لإيقاع التغييرات الثقافية، على العكس فالمسرح يبدو مصراً على التميز، باحثاً عن هويته، وبتثبيت نفسه على أساس هذا التميز، الاختلاف، أي المسرح: الصفاء أو الجلد الذي يعني قسوة، مقاومة، ولكن أيضاً هشاشة.
في هذا السياق يُطرح سؤال: هل التكنولوجيات الجديدة، ذات الطبيعة المعلوماتية أو الرقمية تعني تهديداً أو مساعدةً لبقاء المسرح كما هو؟ هل تتنبأ ببداية مسرح جديد، قادر على اكتشاف هذه التكنولوجيات للاستفادة منها، كما حدث في حينه مع الضوء الكهربائي؟ أو تعلن نهاية المسرح كمسرح، تحوله إلى شيء آخر؟ سأراجع بعض أجوبة محترفينا في عالم المسرح على تحدي التكنولوجيات الجديدة الذي تعنيه في الجانب العملي، مع تدريجها من الإقصاء إلى الإدراج.
إن المقابلة بين الكتابة والأداء، التي تميز العروض المؤداة أو المنتجة مباشرةً، مثل المسرح، من العروض المكتوبة أو المسجلة، مثل السينما، القائمة على ما هو مشهدي للتأثير على مجال الجمالية –الموسيقى كتابة مسجلة على أسطوانة، وأداء منفذ في حفل موسيقي- وبصفة عامة على الظواهر الاتصالية، عبارة عن مقابلة سميوطيقية.
وتبلور الكتابات في العمل-الهدف مؤلفاً وتفتقر إلى جمهور، إذا فهمنا من هذا المجموع المشاهدين الضروريين لتحقيقه، الأداءات تنقلب وتُفرغ في التعبير البيذاتي الذي يتقاسمه الممثلون والجمهور، وتفتقر في هذا المعنى إلى مؤلف. كلا الدرجتين تتعارضان كمفهومي مؤلف وممثل، مثل ما هو موضوعي إلى ما هو بيذاتي.
ويمكن فهم الميزات الحاسمة والعملية التي يجلبها واقع السينما كشيء مكتوب، معلب، قابل للنقل وقابل للإنتاج إلى ما لانهاية – يكفي التفكير في إمكانيات الاسترجاع غير المحدودة تقريباً التي تتسم بها نفقات الإنتاج، مهما كان حجمها –أمام النقص المقابل الذي يعني للمسرح كونه أداءً، إذ لا يمكن أن يكون في الوقت نفسه أداءً مباشراً وتوزيعاً رخيصاً وسهلاً. هل سيكون هذا الوضع غير الملائم قابل للتعديل بفضل التكنولوجيات الجديدة؟ وعلى حساب أو لا رفض المسرح لكونه (أداءً)؟
النقطة الأخيرة تحملنا على التفكير في أن التطور السريع للتكنولوجيا سينتهي، بشكل فيه مفارقة، إلى تقصير الحياة للأشكال المكتوبة، مثل السينما أو التلفزيون، وإطالة حياة عمليات الأداء الحي، مثل المسرح. من المحتمل أن تختفي السينما على طول القرن الحادي والعشرين، كفضاء عام. كم أنه من المحتمل، خلال عدة عقود، أن يختفي التلفزيون نفسه، مع تطور الواقع الافتراضي غير أن المسرح سيظل كل مرة أكثر حيوية وبمزيد من الانتشار، مسرح يقوم على الطاقة التي يبثها الممثل في مكانه.
والآن فإن مفتاح تعريف المسرح كأداء يكمن في الحضور والحاضر. المميز للموقف الاتصالي الخاص بالمسرح ولكل عمليات الأداء، هو حضور درجتين من الفاعلين، الممثلون والمشاهدون، في فضاء مشترك، خلال زمن مشترك أيضاً، أي في الحاضر.
هناك نقطة أخرى في هذا السياق تتعلق بالفضاء السيبرنطيقي وتأثيره على المسرح من منطلق أنه يزعزع التوافق بين المكان والزمان، ويعني الانفصال بين الحاضر والحضور. مثلما كان في السابق الهاتف أو البث التلفزيوني المباشر، فإن الحاضر الاتصالي لا يعني حضور فاعلي الاتصال. الوسيطة التكنولوجية يعفي الفاعلين من لقائهم في الفضاء الحقيقي. لقاؤه في هذا الافتراضي الآخر وهو الفضاء السيبرنطيقي، هل يمكن أن يطلق عليه حضوراً؟ هؤلاء الفاعلون الذين يتقاسمون الحاضر، هل هم حضور أيضاً؟ التكنولوجيا تسمح بالتفاعل في غياب طرف. هل الحاضر إلى جانب التفاعل يعادلان الحضور؟ ما نعتبره مسرحاًً، يتطلب الحضور الفعلي للممثلين والمشاهدين أو يكتفي بحضورههما الافتراضي في الحاضر الحقيقي؟ هل يجب أن يحدث المسرح حياً ومباشراً أو يكفي الأخير؟ إنني أميل للأول، ولكن خياري يبقى مبرراً بعد أخذ النظرية الثانية في عين الاعتبار، وهي التي تضع المسرح كأداء للسرد.
مما لا شك فيه أن معيار الآنية، الحاضر، لا يكفي في ذاته وحده. عمليات البث أو برامج التلفزيون المباشرة ليست، في رأيي، عمليات أداء لأنها تفتقر إلى العلاقة المباشرة، الثنائية، بين المتلقين والمنفذين، إمكانية أن يؤثر أولئك في أداء هؤلاء لا وجود لها، أي الحضور الحقيقي. إنه عروض كتابة، مع خصوصية أنها لم تكتب، تسجل، قبل البث، بل في زمن بثها. مشاهدة تمثيل مسرحي في التلفزيون، سواء أكان مسجلاً أم مباشراً، لا يشكل فعل اتصال مسرحي. المسرح، وهو أداء، لا ينتج سوى في المسرح، وهو مكان يجب الذهاب إليه.
ومن ناحية أخرى فإن الإنتاج والاستهلاك هما المسرح، بالإضافة إلى أنهما آنيان، غير منفصلين. العرض لا يُستهلك فقط، بل أيضاً يستهلك أثناء تحقيقه. الإنتاج والاستهلاك ليسا عمليتين آنيتين بالضرورة، فهما العملية نفسها. لا يمكن فهم تنفيذ عرض مسرحي منفصل عن اتصاله ولا عن استقبال له لا يتصادف –وليس فقط في الزمان- مع إنتاجه. من هنا كان طابع الحدث المسرحي، استحالة إنتاجه.
الجدة هي احتمال أن يحدث اتصال تفاعلي عن بعد بين ممثلين ومشاهدين. غير أن هذا الاتصال لا يزال اليوم محدوداً للغاية، وعلى وجه التحديد مسطراً، موجهاً أو مقنناً، بعيداً عن الحرية بلا حدود، عن العبور المباشر للحضور الحقيقي. المشاهد عن بعد، هل يمكنه إلقاء طماطم على الممثل، الصعود إلى المسرح، وقف التمثيل؟ والممثل، هل يمكنه النظر إلى العيون، المصافحة بالأيدي، تجفيف دموع المشاهد؟
يمكن أن نؤكد بقوة أن المسرح والفضاء السيبرنطيقي متنافران، مع الحذر لهذا وجب إضافة أن هذا الوضع ينطبق على اليوم. وسبب هذا التنافر هو مطلب المباشرة من جانب المسرح، ليس مسدوداً على التطور المتوقع من التكنولوجيات الجديدة. يجب أن نصر في لفظ المباشرة مطلبي الأداء المسرحي اللذين لا يستطيع الآن القيام بهما الفضاء السيبرنطيقي: مطلب الاتصال المباشر، بمعنى غير المباشر، بين العالم الخيالي وعالم المشاهد الذي يحضره، الذي يراه بعيونه، وكذلك مطلب الاتصال المباشر بالمعني الحقيقي أو الحي، القريب جداً، بين الممثلين والمشاهدين، الذين يجب أن يكونوا دائماً في متناول اليد، في التفاعل الدائم والمفتوح، الآني، غير مقنن بأي شكل من الأشكال. هذا الاتصال المباشر يتطلب اليوم على الأقل الحضور الحقيقي للفاعلين الذين يتدخلون في العرض، الممثلون والمشاهدون. هل يمكن للتكنولوجيات الجديدة تقديم هذه المباشرة للاتصال المسرحي متخليةً عن الحضور الحقيقي للفاعلين، عن الحاجة لتقاسم الفضاء نفسه؟
إلا أن الواقع يقر أن نتيجة هذه العمليات التكنولوجية سيظل مختلفاً عن الحضور الأصيل، وأن هذا الحضور سيظل بمثابة مطلب، دليل هوية لا يمكن التنازل عنه بهذا الشكل الخاص للعرض الذي لا نزال نسميه منذ اليونان الكلاسيكية "مسرحاً". ورغم أنني أدرك أن هذه المقاومة يمكن أن تكون دليلاً على عيب، ارتباط مبالغ فيه لما هو معطى لنقص في الكرم الخيالي، ما لم يعن في أي حال أن يُترك اكتشاف الإمكانيات التي يمكن أن تقدمها التكنولوجيات الجديدة للمسرح الذي سيؤدي إلى خصوبة غير متوقعة.
من الناحية العملية، يؤكد المؤلف قبوله لاستخدام التكنولوجيات الجديدة في المسرح، ولكن إلى أي حد؟ إلى آخر النتائج. حتى يتم طرق كافة الاحتمالات. يظل غير مفيد، من ناحية أخرى، مقابلة ذلك أو مقاومته: سيتم هذا إن عاجلاً أم آجلاً. ليكن مبكراً قدر المستطاع. ويرفض الجمع بين المسرح الأصلي والفضاء السيبرنطيقي. فتجارب مثل المسرح الرقمي أو أي تجارب متخيلة تتجاوز حدود المسرح، متخذاً من تجربة فرقة لافورا ديلس باوس، المشهورة في برشلونة، مثالاً يمثل فقط تجربة بدائية. إنها أماني، أكثر منها نبوءات: فليحيا المسرح، مسرح الحضور الحقيقي. ولكافة الأشكال المهجنة للمسرح والتكنولوجيات الجديدة حق في الحياة.

* نُشر هذا الكتاب ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وهو من ترجمتي وعنوانه الأصلي باللغة الإسبانية: Jose Luis Garcia Barrientos, TEATRO Y FICCION. Ensayos de teoria