المثقفون آخر أجيال المتفائلين


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4846 - 2015 / 6 / 23 - 09:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ترجمة خليل كلفت
المثقفون آخر أجيال المتفائلين بقلم: خليل كلفت
العنوان مع تغيير بسيط هو عنوان مسرحية للمفكر الكبير سعد زهران. ولستُ هنا بصدد الحديث عن تلك المسرحية الرائعة، بل أستظل بها للحديث عما نحن فيه الآن بعد التفاؤل الكبير بثورات "الربيع العربى" وما انتهت إليه من كوارث مدمرة باستثناء مصر وتونس، إلى الآن.
وأقول، منعا لأىّ التباس، إن الثورة الشعبية ظاهرة اجتماعية طبيعية عندما يصل ظلم الطبقات الحاكمة إلى حدود لا يمكن التعايش معها، وتكون الثورات الشعبية ناجحة للغاية دون أن يعنى هذا أن الطبقات الشعبية هى التى تحكم بعد نجاح الثورة. وإذا التفتنا إلى الثورة الشعبية فى روسيا والصين وغيرهما فقد غيَّرت وجه التاريخ لصالح شعوبهما ولصالح البشرية جمعاء، ورغم أنها انتهت بعد عقود من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية الصريحة المكشوفة المستغلة والظالمة، فإن مغزاها سيظل ملهما للشعوب، لأنها وإنْ لم تُخلِّص من الرأسمالية فقد خلَّصت هذه البلدان، التى كانت قد تأخرت عن الرأسمالية المتقدمة، من كوارث العالم الثالث.
وأعتقد أننا لم نفهم إلى الآن طبيعة ثورتنا، ومن هنا كل هذا التخبُّط فى فهمنا للمستقبل.
وقد أدركت الدولة فى مصر، ولكن ليس فى باقى بلدان "الربيع العربى"، أن إفقارها للشعب ماديًّا وروحيًّا هو الذى دفعه إلى الثورة ضدها. ومن هنا دخلت فى عملية إصلاح اقتصادى قد ينقذها، ليس بهدف تحقيق الثورة بل بهدف تفاديها. غير أن مشكلات كبرى تحيط بها من داخلها ومن خارجها تضع علامة استفهام كبرى على نجاح محاولتها للإصلاح.
وفيما يتعلق بعلاقة المثقفين بالثورة. فهناك أمران أولهما أن الثورة كانت ثورة عشرات الملايين من بنات وأبناء الطبقات الشعبية، وسببها هو الإفقار الذى طحن هذه الطبقات وجعل من المستحيل أن تتواصل حياتها بنفس الطريقة. والحقيقة أن حياة الشعب كانت تمضى بنفس الطريقة الطاحنة منذ سنوات طويلة، غير أن عوامل متنوعة ساعدت على تفجُّر الثورة؛ ولعل من أهمها تأثير الدومينو، الذى أتى من تونس.
والأمر الثانى هو أن المثقفين لعبوا دورا بالغ الأهمية قبل وأثناء وبعد الثورة، فقد كشفت حركاتهم، بين أشياء أخرى، إمكان الثورة على أوضاعهم. غير أن الثورة، ككل ثورة، لم تكن ثورتهم رغم تصديهم لقيادة الكثير من موجاتها؛ مرة بصورة تؤدى إلى الاستمرار بالثورة، ومرات بصورة تؤدى إلى نكسات مثل مشاركتهم فى انتخابات واستفتاءات السلطة المخطَّطة لإبعاد الناس عن طريق الفعل الثورى.
ونصل الآن إلى مشكلة العجز عن تحليل طبيعة الثورة.
والحقيقة أننا كنا جميعا متفائلين بالثورة رغم اختلافات كبيرة فيما يمكن أن تحققه.
وكنا جميعا، وأقصد الماركسيين منا، معذورين فى عدم فهمنا لطبيعة الثورة نظريا وبالتالى عمليا. كنا معذورين لأننا ننطلق دائما من النظرية. ولم تملك الماركسية فى يوم من الأيام نظرية عن الثورة بوجه عام؛ ذلك أن جهدها الفكرى فى هذا المجال كان ينصبّ على الثورة الاشتراكية وليس على الثورة بوجه عام.
وعندما يقول ماركس فى مقدمته لكتابه "نقد الاقتصاد السياسى": "عند مرحلة بعينها من التطور، تدخل قوى الإنتاج المادية فى المجتمع فى صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، أو- ما ليس سوى تعبير قانونى عن نفس الشيء- مع علاقات الملكية التى كانت تعمل ضمنها من قبل. ومن أشكال لتطوُّر القوى المنتجة هذه تتحوَّل هذه العلاقات إلى قيود عليه. عندئذ تأتى فترة الثورة الاجتماعية. ومع تغيُّر الأساس الاقتصادى تتحول البنية الفوقية الهائلة بكاملها بسرعة إلى هذا الحد أو ذاك"، فإن من الجلىّ أن هذه الفكرة لا تنطبق على ثورات "الربيع العربى".
وأنا لا أتحدث عن الماركسيين المصريين وحدهم، ولا عن الماركسيين العرب وحدهم، بل عن الماركسيين فى العالم كله، فقد اعتادوا جميعا على التفكير من داخل قفص يخنقهم. وأنا أعلم أن فى العالم ماركسيين كبارا ومبدعين لا يساوى كاتب هذه السطور شيئا بينهم، ولكننى ألومهم جميعا على أنهم لم يطوروا نظرية الثورة عند ماركس أو أن يُنشئوا نظرية ماركسية جديدة عن الثورة. وكل مطلع على اجتهادات الماركسيين فى هذا المجال يدرك غياب أىَ مفهوم واضح عن الثورة عند أىٍّ منهم.
ويلزم الماركسيون الصمت إزاء هذه القضية ويكتفون بملء أفواههم عن الثورة ولا يقتدون بقولة ماركس: "أنا نفسى لستُ ماركسيا"، وهى عبارة تدعو إلى الاجتهاد، وتعنى أن الماركسى عندما يفكر ينبغى أن ينسى أنه ماركسى، أو أن ينسى أن الماركسية نصوص جامدة نرددها بل ينبغى قبولها أو رفضها على أساس تفكير عميق.
ماذا ينقص الماركسيين ليجتهدوا بجدية بشأن مفهوم الثورة، بعد أن رأوا بأم أعينهم انقلاب ثورات "الربيع العربى" إلى جحيم يوشك أن يحوِّل العالم العربى والإسلامى إلى حرب جنونية متجددة دوما بين الخلافة العثمانية الوهابية والجمهورية الإسلامية الشيعية الخمينية بعد اقتسام العالم العربى والإسلامى بينهما؟
وهم يحاولون التفسير بعوامل ظرفية؛ بعيدا عن حقائق الثورات التى تُقدِّم مادة ثرية طوال التاريخ.
19 يونيو 2015