اراء حول ازمة يونان وصعود حزب سريزا!


توما حميد
الحوار المتمدن - العدد: 4742 - 2015 / 3 / 8 - 08:38
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

مع اشتداد الازمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد العالمي يدفع منظرو النظام الرأسمالي واعلامه المأجور بتفسيرات في غاية الرجعية بما فيها تفسرات عنصرية للواقع الصعب الذي يواجه الجماهير في مختلف بقع العالم. الازمة الاقتصادية في اليونان ومشكلة الديون التي تواجها هذه الدولة الاوربية الصغيرة هي افضل مثال على هذه الحقيقية. مانسمعه بشكل يومي في اخر بضع سنوات هو ان سبب الازمة الاقتصادية في هذا البلد هو ان " اليونان مدمنة ديون" و"اليونانييون ينفقون اكثر مماينتجون" و"شعب يونان شعب كسول وغير مثابر تعود على الحياة السهلة" و ماشابه ذلك من التفسيرات الرجعية التي تعزي فشل النظام الرأسمالي الى الصفات الشخصية للافراد او سكان هذا البلد او ذاك. هذا التفسير هو تفسير عنصري او في افضل الاحوال هو تفسير سطحي. مايقف وراء هذا التفسير هي مصالح طبقية. من وجه نظر مناصري النظام الرأسمالي ان المكاسب التي تحققها الطبقة العاملة من خلال نضال مرير هو دليل على كسل " الشعب" و ضعف القيم التي تشجع على الاجتهاد والابداع و العمل.
لفترة طويلة معظم الدول الرأسمالية بما فيها اليونان تقوم بالاقتراض بشكل متزايد اي ان معظم الدول الرأسمالية تنفق اكثر مماتكسب او تنتج. ان اليونان ليست اسوأ الدول فيما يخص في سرعة نمو حجم ديون الدولة. ففي اخر ست سنوات ازدادت ديون امريكا ثلاثة اضعاف. و الدول التي لها نسبة ديون اكبر بالمقارنة الى حجم الاقتصاد الوطني لايعني انها تواجه ازمة اقتصادية اكبر من غيرها من الدول. امريكا مثلا هي حاليا في وضع اقتصادي افضل من اوربا رغم ان امريكا تقترض مقادير اكبر من المال. لذا لايمكن ان يكون معدل الاقتراض و حجم الدين هو المشكلة الاساسية. مشكلة يونان ليست انها كانت تقوم بالاقتراض بل ان الدائنين توقفوا عن الاقراض لها كما كانوا يقومون به حتى 2007-2008. ان مشكلة يونان كانت انهيار الاقتصاد العالمي في 2008، اذ فجأة قامت كل الدول الرأسمالية الكبرى بقيادة امريكا باقتراض مليارات من الدولارات مما يعني ان الدائنين بما فيهم الافراد والبنوك و شركات التامين وجدوا انفسهم مقابل زيادة كبيرة في الطلب على الديون . و الكثير من المقترضين لهم تصنيف ائتماني افضل من اليونان لاسباب كثيرة . بمعنى اخر قامت دول مثل امريكا بامتصاص كمياة كبيرة من الرأسمال لذا لم يجد المقترضون سبب للاقراض ليونان بنفس الشروط السابقة عندما يكون هناك فرصة للاقراض لامريكا وبريطانيا والمانيا وفرنسا مثلا. المقرضون وخاصة البنوك الالمانية والفرنسية وجدوا بان هناك مقترضين اكثر امانا لذا فان شروط الاقراض للحكومة اليونانية فجأة اصبحت اكثر صعوبة، وارتفع سعر الفائدة فعجزت هذه الحكومة بالايفاء.
السبب الرئيسي وراء لجوء الدول الرأسمالية في اخر 3-4 عقود الى الاقتراض هو ليس خلل في شخصية هذا الشعب او ذالك بل في النظام الرأسمالي نفسه. احتاجت الحكومات في الدول الرأسمالية الغنية الى الاقتراض بشكل متزايد لانها لاتجمع اموال كافية من هؤلاء الذين بامكانهم دفع الضرائب في المجتمع اي الاغنياء والشركات. لحد السبعينلت من القرن الماضي، كانت موازين القوى بين الطبقات تفرض بان الاموال التي تحتاجها الدولة تجمع من الضرائب على الاغنياء والشركات الاحتكارية. ولكن موازين القوى اختلت في العقود الاخيرة من القرن العشرين لاسباب هي خارج نطاق هذا المقال. لذا فان الحكومات ليست قادرة على جمع الاموال من خلال الضرائب على الاغنياء كما ان قدرة الطبقة العاملة محدود نتيجة عوائق طبعيية.
ان الاقتصاد السياسي الرأسمالي يقسم المجتمع الى الطبقة العاملة التي تشكل الغالبية العظمى من جهة و الطبقة البرجوازية الغنية التي تشكل نبسة 5-10% من جهة اخرى. الطبقتان تريدان الدولة ان تقدم لها خدمات افضل. وكلا الطبقتين تريد ان تدفع اقل حد ممكن من الضرائب وتستخدم قواها لتفادي دفع الضرائب. الشركات الاحتكارية والاغنياء بامكانهم توظيف محاسبين ومحامين جيدين لتفادي الضرائب وتهريب الارباح الى الدول التي فيها نسبة ضرائب منخفضة. من جهة اخرى تستخدم الطبقة العاملة عدد اصواتها للتهديد ضد اي جهة تحاول رفع الضرائب عليها. لذا فان السياسيين في النظام الرأسمالي المعاصر هم في وضع لايحسد عليه. فزيادة الضرائب على الجماهير سوف يكلفهم اصوات في الانتخابات وزيادة الضرائب على الاغنياء والشركات الاحتكارية سوف يدفع بالاغنياء الى دعم الخصوم من السياسيين وهذا يعني انتهاء مستقبلهم السياسي. ولنفس السبب لايمكن للسياسيين اثارة استياء الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية عن طريق قطع الخدمات والدعم الحكومي لاي من الطبقتين.
لذا فان اسهل الوسائل امام الحكومات في الدول الغربية هو اقتراض الاموال المطلوبة لتقديم الخدمات التي تطلبها كلتا الطبقتين. من وجهة نظر السياسيين يعتبر الاقتراض اسهل وسيلة للتعامل مع هذا المازق وخاصة ان مواجهة عواقب القروض سوف تكون مشكلة اجيال اخرى من السياسيين. الاغنياء بشكل خاص مسرورون بهذا الترتيب لانهم هم من يقرضون للحكومة. فبدلا من دفع الضرائب يقومون بالاقراض للحكومة التي عليها اعادة المال اليهم بالاضافة الى الربح التي يتراكم عليه وفي نفس الوقت يمكن للحكومة تقديم الخدمات الى السكان. من جهة اخرى ان مقدار كبير من ديون الحكومات نتجت عن حملة انقاذ البنوك والشركات الاحتكارية اثر الازمة التي عصفت بالنظام في عام 2007-2008.
لذا فان ارجاع مسالة ديون الدولة الى عيب في شخصية السكان هي محاولة لتبرئة النظام الرأسمالي من فشله. ويفشل هذا التحليل في فهم اصل هذه المشكلة الناتجة عن تناقضات النظام الاقتصادي الرأسمالي.
من جهة اخرى ان التيارات والدول الاوربية المختلفة دخلت الى الاتحاد الاوربي وعملة اليورو لاسباب مختلفة. في النهاية تبين ان الاتحاد الاوربي والعملة الموحدة اضرت باليونان ودول جنوب اوربا في حين انها خدمت مصالح الدول القوية وخاصة المانيا الى حد لايصدق.
لقد وجد البرجوازييون في الكثير من الدول الاوربية مسالة الدخول الى الاتحاد الاوربي والعملة الموحدة فرصة لرفع الاسعار وتحقيق ارباح عالية. في حين ان المانيا كانت قادرة على منع الاسعار من الارتفاع بسبب الوضع الداخلي ووجود مجالس العمال التي تتوسط بين الطبقة العاملة و الرأسمال، حيث تضمن اعطاء العمال وظائف مضمونة مقابل عدم المطالبة بزيادة الاجور. هذا الترتيب يضمن ايضا بان لاتقوم الاحتكارات برفع الاسعار ويجعلها من الصعوبة على الرساميل الالمانية مغادرة البلاد الى دول مثل الصين بحثا عن ربح اكبر. وهذا يعني، عندما استخدمت اغلب الدول الاخرى فرصة تحويل عملتها الى اليورو لرفع الاسعار، كانت المانيا بسبب ترتيب داخلي بين الطبقة العاملة والرأسماليين قادرة على ابقاء ارتفاع الاسعار تحت السيطرة وبالتالي بان الاقتصاد الالماني اصبح اكثر قدرة على المنافسة. ان بقاء الاسعار و الاجور منخفضة في المانيا يعني ان اسعار البضاع والخدمات المنتجة في المانيا هي ارخص من غيرها من الدول الاوربية وهذا الواقع خلق فرصة مربحة للرأسمال في المانيا للتصدير لبقية اوربا وبالتالي تحول المانيا الى المركز الصناعي لاوربا.
لقد اعتقدت البرجوازية في دول مثل اليونان والبرتغال واسبانيا وايرلندا بانها سوف تستفاد من السوق والعملة الاوربية المشتركة لان الاجور فيها اقل من الاجور في فرنسا والمانيا وهولندا والدول الاسكندنافية. الاعتقاد كان بان الرأسمال وخاصة في القطاع الصناعي سوف يتقل الى تلك الدول. ولكن اصحاب هذا الاعتقاد ارتكبوا خطئين: اولا ان المانيا لم تقف مكتوفة الايدي لتدع هذا الامر يحدث، اذ قامت باتخاذ عدد هائل من الاجراءات ليس فقط لمنع الصناعات الالمانية من الانتقال الى دول جنوب اوربا ولكن لضمان ان العكس يحدث بسبب فرق الاسعار. والخطأ الثاني هو ان الشركات التي تقرر مغادرة الدول التي تتمتع باجور عالية فانها لن تقف في اليونان والبرتغال واسبانيا بل تنتقل الى اسيا وامريكا اللاتينية وافريقيا. فالشركات التي تتحمل تكاليف الانتقال من الدول الاصلية تجد من الافضل عدم الوقوف في دول مثل اليونان بل الانتقال الى دول تكون فيها الاجور اقل باضعاف مثل الصين.
اي بعكس توقعات البرجوازية في اليونان ودول الجنوب فان الرأسمال ليس لم ينتقل اليها بل في الواقع انتقل الانتاج من تلك الدول الى المانيا بالدرجة الاساسية. لذا فان النجاح الالماني وايجابية الاتحاد الاوربي بالنسبة لها لم يكن بسبب كون الشعب الالماني اكثر ابداعا بل لانه تم التحكم بزيادة الاسعار داخليا بينما في كل الدول الاخرى فان يوفوريا السوق والعملة المشتركة قادت الرأسماليين والنقابات الى زيادة الاسعار والاجور.
من وجهة نظر البرجوازية فان الطريق الوحيد امام اليونان للخروج من هذا المأزق هو ان تصبح يونان قادرة على المنافسة من خلال فرض التقشف على الجماهير. ان التقشف الذي يتوجب على الحكومة اليونانية فرضه على الجماهير يجب ان يكون من الشدة بحيث تصبح يونان قادرة على المنافسة مع دول مثل الصين ودول امريكيا اللاتينية و افريقيا فيما يتعلق بمستوى الاجور وخفض الضرائب على الرأسمال وقطع الخدمات الاجتماعية وهذا يعني فرض ظروف كارثية على الطبقة العاملة في هذا البلد. هذه هي الطريقة الوحيدة للرساميل التي تترك المانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية للاستقرار في اليونان بدلا من الانتقال الى اسيا وافريقيا وامريكا الاتينية التي ليست بعيدة عندما ناخذ وسائل المواصلات الحديثة بظر الاعتبار. فالتقشف كسياسة هي بصدد نقل عبئ الازمة الاقتصادية الرأسمالية من كاحل قسم من السكان –الرأسماليين الى كاحل قسم اخر اي الطبقة العاملة. فالنخبة في يونان مثلها مثل اي دولة اخرى ضمنت ان لاتدفع ثمن الازمة من خلال زيادة الضرائب عليها. لذا فان الخيار الوحيد هو ان الجماهير التي تدفع ثمن الازمة اصلا من خلال البطالة وانخفاض الاجور وغيرها ان تدفع ثمن اكبر من خلال سياسة التقشف والتي تعتبر هجمة اشد على مكتسبات الطبقة العاملة من اجور و شروط العمل والخدمات الاجتماعية التي تحصل عليها وغيرها. التقشف هي الوسيلة الوحيدة بيد الحكومات التي تمثل البرجوازية لجعل البلد قادر على المنافسة وجذب الاستثمارات من خلال خفض سعر الانتاج.
اليونان كاي دولة راسمالية مستقرة تحكم حزبان بالميدان السياسي فيها لاخر بضع عقود وهما حزب الديمقراطية الجديدة المحافظ و باسوك اليساري حيث كان الحزبان يتبادلان السطة في الانتخابات بعد صخب اعلامي بسيط. ولكن في الانتخابات الاخيرة لم يحصل الحزبان الرئيسيان معا على ثلث الاصوات في حين ان حزب سيريزا وهو تحالف يساري حصل على 36.34 بالمئة من الاصوات. ان فوز حزب سريزا كان امرا مهما لسبب واحد وهو انه دلالة على تغير في مزاج الجماهير التي لم تعد مقتنعة بالتفسيرات التي تقدمها المؤسسة الرأسمالية التقليدية. لايوجد مايمنع ان يحدث نفس الشئ في اسبانيا وايطاليا وحتى في دول مثل فرنسا وبريطانيا وامريكا.
من الواضح ان تحالف سيريزا ليس بصدد القيام بثورة اجتماعية في اليونان بل ايجاد حلول للازمة اليونانية ضمن اطار النظام الرأسمالي. والخيارات امام الحكومة اليونانية الجديدة هي النقذ بالعهود التي قدمها للجماهير في يونان والمضي قدما في سياسة التقشف كما فعل فرانسوا هولاند وحزبه في فرنسا وفي هذه الحالة فان مصير سيريزا لن يكون بافضل من مصير هولاند وحزبه حيت يتمتعان بشعبية متدنية جدا ومن الواضح ان هذا الحزب سيخسر الانتخابات القادمة. اما الخيار الثاني فهو ارغام الاتحاد الاوربي على شطب جزء كبير من الديون ولكن الدلائل ليست مشجعة في تحقق هذا الامر. ان شطب الديون اليونانية يعني بان الكثير من البنوك الالمانية والفرنسية ستتكبد خسائر كبيرة التي قد يؤدي الى افلاسها وعندها لن يكون امام الحكومتين الالمانية والفرنسية الا التدخل لانقاذ تلك البنوك وهو امر لم يعد مقبولا من قبل الجماهير في هذين البلدين او اي دولة غربية اخرى. اما الخيار الثالث هو عدم دفع القروض مما يعني ترك يونان للاتحاد الاوربي و عملته والعودة الى العملة الاصلية – الدراخمة. هذا الخيار هو خيار صعب جدا على الاقل على المدى القصير حيث سيعني انهيار اكبر في الاقتصاد اليوناني. لذا فان الحكومة اليونانية هي حاليا بصدد التفاوض مع روسيا وفنزويلا والصين وحتى ايران من اجل ايجاد حلول لازمتها او حتى ضمان مصدر للطاقة في حال خروجها من الاتحاد الاوربي واصابة الاقتصاد بانهيار اكبر. من هنا فان البدائل المتوفرة امام الحكومة اليونانية هي ليست سهلة ولايؤمل من حزب سريزا تغير جذري الا ان فوزه يبقى حدثا مهما لانه هز المؤسسة التقليدية في بلد غربي وان كان بلدا صغيرا ويدل ان التغير قادم.