الأصولية كما فسرتها لابنتي


حميد زناز
الحوار المتمدن - العدد: 4296 - 2013 / 12 / 5 - 22:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

تقول بأن الأصولية كانت تُدرَّس في المدارس الرسمية؟
ولا زالت يا عزيزتي. وليس في الجزائر فحسب بل في كل البلدان العربية، ما عدا تونس التي تحبين شواطئها وياسمينها.
أتعرفين لماذا يتمرد بعض الشبان ويلتحقون بالأصولية؟
نعم لأسباب متعددة كما سبق وأن شرحتَ لي.
وأهمها تمردهم على الحاضر باسم الماضي المؤمثل، الذي تعلموا التعلق به في المدرسة. فهم يعادون حاضرهم الذي لا يتطابق مع الوعي الديني الظلامي الذي طعّمتهم به المدرسة. وهكذا يصبحون أصوليين يرفضون مجتمعهم الفعلي باسم مجتمع خيالي وهمي لم يوجد قط في التاريخ. ولكن المدرسة هي التي زرعته في أدمغتهم وأوهمتهم بإمكانية العودة إلى ذلك الماضي المحلوم به. وكما هو معروف يا عزيزتي تؤدي مثلنة الماضي في كل الأحوال إلى خلق شعور دائم بالدونية.
أطالب بأمثلة دقيقة.
كان كتاب الفلسفة الرسميّ الذي درسناه كمقرَّر لطلاب البكالوريا يقدِّم النظام الرأسمالي كأطروحة والنظام الشيوعيّ كنقيض لها، ويأتي النظام الإسلاميّ كتركيب أبديّ، يجمع بين محاسن الأوّل والثاني ويتجنب مساوئ الاثنين معاً. وهكذا يُوقَف الديالكتيك نهائياً بعدما قُلب رأسا على عقب.
وهل اعتمدت هذا التركيب العجيب يا أستاذ الفلسفة سابقا؟
لا.. أبداً ولم أكن الوحيد الذي لم يدخل في هذا التلفيق. ولا تنسي يا عزيزتي أن عمري لم يكن حينها قد تجاوز 25 سنة بعد.
هذا في مادّة الفلسفة. أمّا في غيرها من المواد فلا حديث إلا على الشريعة والتمكين لها وممارسة الضغط على الفتيات ليدفنّ أنفسهن تحت حجاب وجلباب. وهكذا بدأت الجزائريات يسدلن الظلام على الضياء كما يقول أبو نواس. وفي أقلّ من عقدين من السنوات غاب صبحهنّ تحت ليل.
القول جيد، وإن كان المضمون محزناً حقاً! ولكن أين تَمظهَر التغيّر؟ هل كان مرئياً، بغض النظر عن انتشار الحجاب بين النساء؟
غرق ذكور الجزائر في توقير زائد لشيوخ الدين، وأصبحوا يتسولون الفتوى من كلّ دجال درويش. وانتشرت بينهم بدع في الهيئة والهندام تدلّ على خلخلة قد مَسّت المجتمع الجزائريّ في عمقه وعلى تشظٍّ في الشخصية الجزائرية يظهر في صورة انتماء الناس إلى عدة عصور متباعدة عن بعضها في آن. فتري فوق الجسد الواحد عباءة تقليدية وتحتها سروال جينز، وفي الرِّجلين حذاء رياضة من آخر الصيحات… وتري إيماناً بالطبّ الحديث والعلم بالترافق مع إيمان بالرقية الشرعية والجنّ والعفاريت المذكورة في القرآن مِن قبل أطبّاء وصيادلة؛ كما رأينا في كثير من برامج الكاميرا المخفية، المضحكة-المبكية…
لكن كيف يمكن أن يحدث انقلاب بهذا الشكل؟
إليكِ مثال طريف: في السبعينات كان الصائمون أقلّية بين عمّال أسبوعية شهيرة في الجزائر، وكانوا يتظاهرون بعدم الصوم خوفاً من تهكّمات زملائهم. ولكن في الثمانينات أصبح المفطرون أقلّية يدخّنون سجائرهم في سرية خوفاً من هراوات زملائهم…
صورة جيدة… لكن هل تريد أن تقول إن الأصولية هي ثمرة انتشار الثقافة والتعليم وليس العكس؟
نعم هي كذلك. إذ الذين يريدون تأبيد المؤقّت، المتباكون على ذلك الزمن الذي كان فيه الجزائريّ متصالحاً مع إسلامه الفلكلوريّ المطعَّم أصلاً بمكتسبات الحداثة التي ورثها من العهد الاستعماري، يتناسون أنّ الجزائري كان كذلك لأنّه كان بعيدا عن الإسلام الحقيقيّ، وكان حتميا أن يتمّ اللقاء بينه وبين ذاك الإسلام المكتوب. وحينما التقى به رفض الحداثة لأنّه وعى أنّها مناقضة له. وهو محقّ في ذلك. فتعاليم الإسلام تتعارض جليّاً مع أهداف الحداثة، وهو أمر طبيعيّ يفسّره البَون الزمنيّ الشاسع الذي يفصل بينهما.
واصل.. واصل.. بدأت أدخل في منطق تفسيراتك؟
وهكذا عاد الحداثيون الجزائريون الواعون بحداثتهم إلى مكانهم الطبيعي. فأصبحوا هامشيين كما كان المعرّي وأبو نواس والحلاج وعمر الخيام، وغيرهم في زمن ما نسمّيه حضارة عربية إسلامية.
فلماذا نستعمل كلمة أصولية إذن؟ نحن نعيش عودة عامّة إلى "الإسلام العالِم" الأصيل في كافة أنحاء العالَم الإسلاميّ. هي عودة إلى منابع الإسلام: القرآن والسنة والفقهاء.
إذا كان الأمر كذلك، فما هو الفرق بين مسلم راديكاليّ ومسلم معتدل إذن؟
الراديكاليّ هو ذاك الذي يعود إلى أصول الإسلام، إلى أسسه وتعاليمه الصافية. والمعتدل هو من يبتعد عن ذلك مهما كانت درجة ذلك الابتعاد. الإسلام عقيدة إيمانية ومشروع مجتمع في نفس الوقت، فمن الصعوبة بمكان الفصل بين هذا وذاك. فالقول باضمحلال الأسلمة أو الأصولية تلازماً مع التقدّم الثقافي وانتشار التعليم لا معنى له البتّة، حتى لو رفعه البعض شعاراً، مدّعين أنّ الإسلام لم يقم بثورته العلمانية بعدُ وأنّ الحلّ كامن وراء التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ولماذا لا يكون الأمر كذلك يا سيدي؟
وأنا أسألكِ بدوري يا سيدتي: هل تَعلمَنَ مسلمو الغرب الذين يعيشون بعيداً عن التخلّف الاقتصادي والثقافي والاجتماعيّ؟ وهل منع الرفاه في بلدان الخليج من السقوط في أحضان الأصولية؟ لكن السؤال المغيّب باستمرار هو: لماذا لم يأخذ الإحباط الاجتماعي المتراكم في البلدان العربية شكلاً آخر من التعبير غير الاحتجاج الديني؟

لتحميل الكتاب انقر هنا تقول بأن الأصولية كانت تُدرَّس في المدارس الرسمية؟
ولا زالت يا عزيزتي. وليس في الجزائر فحسب بل في كل البلدان العربية، ما عدا تونس التي تحبين شواطئها وياسمينها.
أتعرفين لماذا يتمرد بعض الشبان ويلتحقون بالأصولية؟
نعم لأسباب متعددة كما سبق وأن شرحتَ لي.
وأهمها تمردهم على الحاضر باسم الماضي المؤمثل، الذي تعلموا التعلق به في المدرسة. فهم يعادون حاضرهم الذي لا يتطابق مع الوعي الديني الظلامي الذي طعّمتهم به المدرسة. وهكذا يصبحون أصوليين يرفضون مجتمعهم الفعلي باسم مجتمع خيالي وهمي لم يوجد قط في التاريخ. ولكن المدرسة هي التي زرعته في أدمغتهم وأوهمتهم بإمكانية العودة إلى ذلك الماضي المحلوم به. وكما هو معروف يا عزيزتي تؤدي مثلنة الماضي في كل الأحوال إلى خلق شعور دائم بالدونية.
أطالب بأمثلة دقيقة.
كان كتاب الفلسفة الرسميّ الذي درسناه كمقرَّر لطلاب البكالوريا يقدِّم النظام الرأسمالي كأطروحة والنظام الشيوعيّ كنقيض لها، ويأتي النظام الإسلاميّ كتركيب أبديّ، يجمع بين محاسن الأوّل والثاني ويتجنب مساوئ الاثنين معاً. وهكذا يُوقَف الديالكتيك نهائياً بعدما قُلب رأسا على عقب.
وهل اعتمدت هذا التركيب العجيب يا أستاذ الفلسفة سابقا؟
لا.. أبداً ولم أكن الوحيد الذي لم يدخل في هذا التلفيق. ولا تنسي يا عزيزتي أن عمري لم يكن حينها قد تجاوز 25 سنة بعد.
هذا في مادّة الفلسفة. أمّا في غيرها من المواد فلا حديث إلا على الشريعة والتمكين لها وممارسة الضغط على الفتيات ليدفنّ أنفسهن تحت حجاب وجلباب. وهكذا بدأت الجزائريات يسدلن الظلام على الضياء كما يقول أبو نواس. وفي أقلّ من عقدين من السنوات غاب صبحهنّ تحت ليل.
القول جيد، وإن كان المضمون محزناً حقاً! ولكن أين تَمظهَر التغيّر؟ هل كان مرئياً، بغض النظر عن انتشار الحجاب بين النساء؟
غرق ذكور الجزائر في توقير زائد لشيوخ الدين، وأصبحوا يتسولون الفتوى من كلّ دجال درويش. وانتشرت بينهم بدع في الهيئة والهندام تدلّ على خلخلة قد مَسّت المجتمع الجزائريّ في عمقه وعلى تشظٍّ في الشخصية الجزائرية يظهر في صورة انتماء الناس إلى عدة عصور متباعدة عن بعضها في آن. فتري فوق الجسد الواحد عباءة تقليدية وتحتها سروال جينز، وفي الرِّجلين حذاء رياضة من آخر الصيحات… وتري إيماناً بالطبّ الحديث والعلم بالترافق مع إيمان بالرقية الشرعية والجنّ والعفاريت المذكورة في القرآن مِن قبل أطبّاء وصيادلة؛ كما رأينا في كثير من برامج الكاميرا المخفية، المضحكة-المبكية…
لكن كيف يمكن أن يحدث انقلاب بهذا الشكل؟
إليكِ مثال طريف: في السبعينات كان الصائمون أقلّية بين عمّال أسبوعية شهيرة في الجزائر، وكانوا يتظاهرون بعدم الصوم خوفاً من تهكّمات زملائهم. ولكن في الثمانينات أصبح المفطرون أقلّية يدخّنون سجائرهم في سرية خوفاً من هراوات زملائهم…
صورة جيدة… لكن هل تريد أن تقول إن الأصولية هي ثمرة انتشار الثقافة والتعليم وليس العكس؟
نعم هي كذلك. إذ الذين يريدون تأبيد المؤقّت، المتباكون على ذلك الزمن الذي كان فيه الجزائريّ متصالحاً مع إسلامه الفلكلوريّ المطعَّم أصلاً بمكتسبات الحداثة التي ورثها من العهد الاستعماري، يتناسون أنّ الجزائري كان كذلك لأنّه كان بعيدا عن الإسلام الحقيقيّ، وكان حتميا أن يتمّ اللقاء بينه وبين ذاك الإسلام المكتوب. وحينما التقى به رفض الحداثة لأنّه وعى أنّها مناقضة له. وهو محقّ في ذلك. فتعاليم الإسلام تتعارض جليّاً مع أهداف الحداثة، وهو أمر طبيعيّ يفسّره البَون الزمنيّ الشاسع الذي يفصل بينهما.
واصل.. واصل.. بدأت أدخل في منطق تفسيراتك؟
وهكذا عاد الحداثيون الجزائريون الواعون بحداثتهم إلى مكانهم الطبيعي. فأصبحوا هامشيين كما كان المعرّي وأبو نواس والحلاج وعمر الخيام، وغيرهم في زمن ما نسمّيه حضارة عربية إسلامية.
فلماذا نستعمل كلمة أصولية إذن؟ نحن نعيش عودة عامّة إلى "الإسلام العالِم" الأصيل في كافة أنحاء العالَم الإسلاميّ. هي عودة إلى منابع الإسلام: القرآن والسنة والفقهاء.
إذا كان الأمر كذلك، فما هو الفرق بين مسلم راديكاليّ ومسلم معتدل إذن؟
الراديكاليّ هو ذاك الذي يعود إلى أصول الإسلام، إلى أسسه وتعاليمه الصافية. والمعتدل هو من يبتعد عن ذلك مهما كانت درجة ذلك الابتعاد. الإسلام عقيدة إيمانية ومشروع مجتمع في نفس الوقت، فمن الصعوبة بمكان الفصل بين هذا وذاك. فالقول باضمحلال الأسلمة أو الأصولية تلازماً مع التقدّم الثقافي وانتشار التعليم لا معنى له البتّة، حتى لو رفعه البعض شعاراً، مدّعين أنّ الإسلام لم يقم بثورته العلمانية بعدُ وأنّ الحلّ كامن وراء التقدّم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ولماذا لا يكون الأمر كذلك يا سيدي؟
وأنا أسألكِ بدوري يا سيدتي: هل تَعلمَنَ مسلمو الغرب الذين يعيشون بعيداً عن التخلّف الاقتصادي والثقافي والاجتماعيّ؟ وهل منع الرفاه في بلدان الخليج من السقوط في أحضان الأصولية؟ لكن السؤال المغيّب باستمرار هو: لماذا لم يأخذ الإحباط الاجتماعي المتراكم في البلدان العربية شكلاً آخر من التعبير غير الاحتجاج الديني؟

لتحميل الكتاب : http://www.anfasse.org/index.php/2012-07-03-21-58-09/2010-12-30-15-59-35/5131-2013-11-09-14-58-06