أعيدوا الاعتبار إلى الفكر الاشتراكي الحضاري الديموقراطي المتجدد، تعود البشرية إلى رشدها


شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن - العدد: 4872 - 2015 / 7 / 20 - 22:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"في عالم قبيح شقي، لا يستطيع أغنى الأغنياء أن
يشتري إلاّ القبح والشقاء"
برنارد شو
بعد انهيار أنظمة الحكم (الاشتراكية ـ الشمولية) ـ التي لم يأسف الكثيرون عليها ـ في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية... ذلك الانهيار الذي يعود لأسباب كثيرة، أساسها البنية الداخلية الجامدة وغير الديموقراطية التي كانت مهيمنة في تلك البلدان، والتي حملت بذور انهيارها منذ ولادتها، فضلاً عن حرب الاحتكارات الرأسمالية ضد الاشتراكية، مدعومة من الرساميل العربية الإسلامية والصهيونية، وغيرها من الأسباب التي ليست موضوع بحثنا هذا، بعد ذلك الانهيار، أخذت اللاعقلانية تهيمن في الساحة الدولية، وبدت البشرية مشوشة، كمن أصيب في وعيه ففقد توازنه، وفقد رشده... فما السبيل كي تعود البشرية إلى رشدها... وبالأحرى:إلى أين ستفضي مسيرة الفكر البشري؟
منذ مئات السنين وأعظم وأهم عقول البشرية تبحث عن طرق بناء مجتمع السعادة، مجتمع ينتفي فيه البؤس والحرمان والاستغلال والاضطهاد، مجتمع يحقق فيه الإنسان إنسانيته.
كما أنّ جميع ديانات الشعوب تدعو إلى العدالة، ونفي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وبنيت تجارب المدن الفاضلة في الكثير من مناطق العالم، وفي فترات ومراحل مختلفة في مسيرة تطور البشرية، إلاّ أنّها لاقت مقاومة عنيفة من قبل مناوئيها، وساهم أحياناً أصحابها الحقيقيون في تدميرها!
وتؤكد تجارب التاريخ أنّ بحث الإنسان عن طرق بناء مجتمع ينتفي فيه الظلم والقمع والاستبداد والتمييز، والاستغلال الطبقي، والجنسي، والعرقي، والديني، والفكري عملية مستمرة، وتأخذ أشكالاً مختلفة، وطرقاً متنوعة.
سنحاول فيما يلي إلقاء الضوء على أهم ما توصل إليه الفكر البشري، واستعراض العناوين العريضة لما أبدعه أهم مفكري البشرية، لتكوين لوحة متكاملة عمّأ توصل إليه الفكر الإنساني ـ مع التأكيد على التواصل المستمر للفكر الإنساني، إذ أنّ ما يتم التوصل إليه هو حصيلة للتطور المتواصل لما أنتجته الإنساني ـ علّنا نهتدي إلى المصادر الصحيحة للفكر الذي يعبر عن آمالنا، ويساعد في بناء المجتمع الذي يستطيع فيه الإنسان تحقيق إنسانيته.
من الضروري التنويه إلى وجود جوانب مفيدة لدى أي مفكر، يجب أخذها بعين الاعتبار، والاستفادة منها مهما كان موقفنا من هذا المفكر أو ذاك.
ولعل ما ورد في مذكرات الكاتب الكبير كازانتزاكي عمن ترك أثراً عميقاً في نفسه، يقدم مثالاً قيماً لتبيان أهمية أعمال مختلف المفكرين، على الرغم من عدم الاتفاق معهم جميعاً في كل ما يقولون. يقول كازانتزاكي: "ولو أنني حاولت أن أحدد الناس الذين تركوا آثاراً عميقة في نفسي لحددت هوميروس، وبوذا، ونيتشه، وبرغسون وزوربا. فالأول بالنسبة لي هو العين القاتمة عميقة الغور التي غرق العالم فيها ثم نجا، وساعدني برغسون على الخلاص من العديد من الإشكالات الفلسفية التي حيرتني، والتي كانت تقض مضجعي في أيام الشباب. أما نيتشه فقد أغناني بعذابات جديدة، وعلمني كيف أحول الفشل والمرارة إلى كبرياء. أما زوربا فهو الذي علمني أن أحب الحياة وأن لا أخاف الموت".(1)
ـ موقع الفكر العربي في الفكر الإنساني:
لا يمكن فصل فكر أي شعب من الشعوب عن الفكر الإنساني ككل. وإن كان المفكرون العرب قد تأثروا بالفكر الإنساني واستفادوا منه، فإنّهم قدموا للبشرية زاداً فكرياً غنياً. ويرجع الكثيرون من المبدعين، ـ كالدكتور يوسف خليف الذي يستشهد به عبد المعين الملوحي، على سبيل المثال ـ (يرجعون) تاريخ تفكير العرب بالاشتراكية إلى عهد الصعاليك، ويستشهدون بشعر عروة بن الورد لإثبات رأيهم، "نظر عروة بن الورد إلى جسده فرآه نحيفاً هزيلاً ونظر إلى قيس بن زهير العبسي، وهو من قبيلته، وقبيلته من أكثر قبائل العرب فقراً، فرآه أكولاً مبطاناً يهزأ بعروة لأنّه نحيل هزيل، فقال عروة يعرض به:
وإني امرؤ عافي إنائي شركة
وأنت امرؤ عافي إنائك واحــد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى
بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أقسم جسمي في جسوم كثيرة
وأحسو قراح الماء والماء بــارد
وفي هذا السياق من المفيد إيراد رأي د. يوسف خليف في كتابه (شعراء الصعاليك في العصر الجاهلي ص47) تعليقاً على موقف عروة من الفقراء؛ قال:
"على هذا النحو كانت الصعلكة عند عروة نزعة إنسانية نبيلة، وضريبة يدفعها القوي للضعيف والغني للفقير، وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء وتجعل لهم فيه نصيباً". رحم الله عروة لقد كان أول من ذكر الاشتراكية في شعره".(2)
وفي مجال الفكر الإنساني العام تبوأ المفكرون العرب والمسلمون مكانة هامة، كان لها أثر في خروج أوربا من غياهب العصور الوسطى، كما يشهد الأوربيون أنفسهم. ولقد صرح المستشرقون الذين يميلون إلى الموضوعية بأنّ العرب كانوا حلقة وصل بين اليونان وأوربا... في كنفهم وبلغتهم شرح الكندي (800-879) فكر أرسطو، وعنى بقضايا المنطق وبالمعرفة. ويشهد الجميع لدور أبي نصر الفارابي (870-950) الذي بين أنّ مصدر المعرفة هو أعضاء الحس والمخيلة والعقل، حيث يعطي المصدران الأوليان، معرفة مباشرة، أما العقل فيمكننا من إدراك ماهية الأشياء. ولم يشك البيروني في الوجود الموضوعي للطبيعة وقوانينها، والطبيعة عنده في تغير وتطور دائمين. أما المفكر والطبيب الموسوعي ابن سينا (980-1037) الذي تقدر البشرية مآثره الجمة، فقد بيّن أنّ موضوع الفلسفة ليس المظاهر الفردية للوجود بل الوجود ككل. ولقد لعبت تفرقة ابن سينا بين الماهية والوجود دوراً كبيراً في الفلسفة. وكان لنظرية "الفيض" التي تشكل محور فلسفته دور هام في زعزعة الكثير من الأفكار الغيبية.
وكان أبو علي الحسن ابن الهيثم (965-1039م) ـ العالم الفلكي والرياضي المشهور من أهل البصرة (قصد القاهرة إبان الحكم الفاطمي) ـ كان قد حدد ميزات العمل العملي، عندما شرح الطريقة التي اتبعها في البحث قائلاً : " ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات .. ثم نرتقي بالبحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج . ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الأهواء ." (انظر كامل عياد ـ مقالات مختارة ـ وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 1994 ص478.) علماً بأنّ الغربيين يعيدون فضل وضع أسس البحث العلمي إلى روبرت ميرتين، الذي سبقه ابن هيثم بقرون عدة في تحديده لميزات العمل العلمي.
ومن مشاهير الفكر العربي أيضاً ابن رشد (1126-1198) الذي رأى أنّ العالم المادي لانهائي في الزمان ولكنه محدود مكانياً. "الله هو المصدر الأزلي للواقع، والمادة والصورة متلازمتان"، وبما أنّ المادة والصورة تؤلفان وحدة فإنّ الامكان والواقع يؤلفان وحدة أيضاً. والحركة في مفهومه أزلية مصدرها المادة. الله هو "العلة الخيرة للوجود، والعقل الذي يعقل ذاته". "يصل الإنسان إلى السلوك القويم عن طريق الدين، ويصل إلى الحقيقة عن طريق الفلسفة". أما الكليات فهي تسميات للأشياء تبنى على أساس واقعي وإلاّ لكانت كاذبة. ويخصص ابن رشد لكل من الفلسفة والدين مجاله المستقل. "نعم كانت الرشدية قادرة على طرق آفاق جديدة تماماً، وهذا ما حدث بالفعل، ولكن في أوربا حيث انتقلت، وليس في العالم العربي حيث اختفت في مهدها".(3)
وكان ابن خلدون (1332-1406) أول المفكرين في العالم الذين عملوا على إقامة التاريخ كعلم، وأول من أشار إلى دور العامل الاقتصادي في المجتمعات.
ودعا "إخوان الصفا" في رسائلهم إلى الجمع بين الفلسفة اليونانية والشريعة الإسلامية.
يبين هذا الاستعراض السريع والموجز أنّ المفكرين العرب والمسلمين لعبوا دوراً هاماً في بناء الفكر الذي نهل منها مفكرون من مختلف الجنسيات، وأولهم الغربيين.
والفكر والثقافة العربية والإسلامية غنيان بالمثل والمبادئ الداعية إلى تحقيق العدالة والقضاء على الاضطهاد. وما تأكيد علي بن أبي طالب على حق الفقراء في أموال الأغنياء، وتنويهه إلى حقيقة أنّه ما اغتنى غني إلاّ بفقر فقير، إلاّ سبق تاريخي، توصل إليه ماركس لاحقاً عندما وضع نظرية القيمة الزائدة. وستبقى البشرية تردد قول عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" طالما بقي استعباد واستبداد واضطهاد.
ونجد الدعوة للعدالة الاجتماعية لدى المفكرين العرب معتنقي الإسلام والمسيحية على السواء. ومع حلول عصر النهضة العربية أخذت تتصدع الأسس التقليدية للفكر القديم الذي كبل المجتمع. وازدهرت الدعوات التنويرية الداعية إلى التحرر والتقدم.
فالفكر العربي يملك ماضياً غنياً عريقاً يشكل قاعدة غنية هامة لتقدمه وإغناء الفكر الإنساني.
الفكر البرجوازي الأوربي:
مع بدء تبلور البرجوازية أخذت تقود النضال ضد السلطة الإقطاعية. وساهم تطور العلوم والحياة الاقتصادية الاجتماعية في ظهور فكر جديد كان من رواده بيكون (1561-1626) الذي حدد مهمة العلم ببسط سيطرة الإنسان على الطبيعة لإغناء الحياة الإنسانية. وأكد ديكارت (1596-1650) على ضرورة الانطلاق من الشك المطلق بهدف اكتشاف المعرفة الحقة. ثم جاء هوبس (1588-1679) الذي قام بصياغة آراء بيكون المادية في مذهب فلسفي متكامل (كما قال ماركس) وتأثر سبينوزا (1632-1677) بالأفكار العلمية التقدمية ليؤكد على ضرورة سيطرة الإنسان على الطبيعة.
وامتاز التنوير الإنكليزي بالتحرر من أسر الدين، غير أنّه لم تحصل القطيعة مع الدين، فجاء فكر بريكلي (1684-1753) نموذجاً للمثالية الذاتية وأحد المصادر الرئيسية للفكر البرجوازي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
ورأى هيوم (1711-1776) الذي نزع إلى الريبية واللاأدرية، رأى أنّ الإيمان ضمانة كافية لنجاح الإنسان في تصرفاته العملية، ودافع عن مذهب المنفعة كمعيار للسلوك الأخلاقي.
وشهد العلم والفلسفة الألمانيان ظهور ليبنتز (1646-1716) الذي حاول الجمع بين مذهب أرسطو في الغائية الباطنية الفاعلة في الطبيعة وبين مذهب اسبينوزا في السببية الميكانيكية. وتضمن فكر ليبنتز بدايات فهم ديالكتيكي للطبيعة وللمعرفة الإنسانية.
وتطور الفكر في فرنسا التي شهدت حركة تنوير واسعة غايتها نقد الأوهام الدينية، ونشر روح التسامح الديني، وحرية الفكر والبحث العلمي والفلسفي وإعلاء شأن العقل والعلم أمام الغيبية، وتعزيز منهج النقد، والتعامل الموضوعي والعلمي مع علم الكلام المسيحي.
وبدأ المثقفون الفرنسيون يتعرفون على الفكر العالمي من خلال فولتير (1694-1778) ومنتسكيو (1689-1755) ليرتقي مفهوم الحكم إلى مرتبة العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو (1712-1778). وشهدت فرنسا ظهور جماعة من المفكرين المنورين منذ أواسط القرن الثامن عشر كلامتري وهولباخ وديدرو (1713-1784) الذي وضع الانسكلبيديا (الموسوعة الفرنسية).
كما حل عصر التنوير في ألمانيا، فتأسست مدرسة كريستيان فولف (1679-1754) الذي عمل على نشر فلسفة ليبنتز. ورفض ليسنغ (1629-1781) جميع التصورات الأرثوذكسية الألوهية، والقول بذاتية إلهية موجودة خارج العالم، وسلم فقط بإله هو "روح العالم". وكان غوته (1749-1832) خصماً عنيداً للسكولاتية والمثالية التأملية واللاأدرية، وقال بكلية الحركة والتغيير والتطور في الطبيعة، لكنه لم يمض بماديته ونظرته الديالكتيكية إلى النهاية.
وكان للتحولات الاقتصادية الهامة التي شهدتها أوربا وللتحطيم الثوري للعلاقات الاجتماعية التي سادت قروناً طويلة أثرها الكبير في صياغة النظرة الديالكتيكية إلى تطور المجتمع.
ويتربع على قمة الفلسفة الكلاسيكية الألمانية أعظم مطوري ومبدعي الديالكتيك، فريدريك هيغل (1770-1831). الفلسفة عند هيغل كل متصل... بدءاً من الفلسفة اليونانية منذ زينيون الأيلي مروراً بهيراقليط وجورجياس وسقراط وأفلاطون وأرسطو إلى الفلسفة الحديثة، فلسفة سبينوزا وكانط (1724-1803)، الذي تأثر هيغل به في شبابه واستفاد منه في مواضيع: نظرية المعرفة، حدود العقل، الفهم، المتناقضات، المقولات. إلى فلسفة فيخته (1762-1814) التي كانت الفلسفة الكانطية في تمامها. واستفاد هيغل من شيلنغ (1175-1854) على الرغم من منهجه الذي أطلق عليه اسم "الحدس العقلي" الذي رأى هيغل أنّه (أي الحدس العقلي) ليس إلاّ عدواناً على العقل.(4)

واستثنى هيغل منظومته الفلسفية من المحدودية التاريخية كسالفاتها، واعتبرها ضرورة علمية، ووعي "الفكرة المطلقة" لمحتواها الذاتي والمرحلة الأخيرة لتطور العقل العالمي!!
تكمن مأثرة لودفيغ فيورباخ (1804-1872) التاريخية، من وجهة النظر الماركسية، في انتقاده العميق لمثالية كانط وهيغل والفلاسفة الآخرين، وهذا لم يمنعه من تبنيه للفكر الديني.
وعلى الرغم من التخلف الاقتصادي الذي كان سائداً في روسيا وعلى الرغم من سيطرة الرجعية السياسية فيها، فلقد شهدت وجود مفكرين ديموقراطيين أمثال بيلنسكي (1811-1848) وغيرتسن (1812-1870) وتشيرنشيفسكي (1828-1889) ودوبرولوبوف (1836-1861) والشعبيين محرضي الشعب ضد استبداد القياصرة والإقطاعيين.
انحطاط الفكر البرجوازي:
بعد فشل ثورة 1848 دخل الفكر البرجوازي مرحلة انحطاطه الفعلية، فألقي الديالكتيك جانباً، وانتشرت موجة اللاعقلانية التي تحط من مكانة العقل، وأصبحت اللاأدرية المدخل العملي ـ الفلسفي المهيمن لدى معظم المفكرين البرجوازيين.
فدعا شوبهناور (1788-1860) إلى الانطلاق من التصورات التي تولدها الإرادة اللاواعية. والفن لا يعتمد حسب زعمه على العقل بل على الحدس. والمعرفة الفنية هي الوحيدة القادرة على رصد العالم كما هو في جوهره. وبعد أن يكشف الوعي عن حتمية الشر الكلي وخلوده ينير له طريق الخلاص. فيصبح زاهداً لا رغبة عنده ولا اشتياقاً. وبما أنّ أفراد الطبقات الغنية تعساء كالمحرومين، فلا داعي لنضال الكادحين من أجل حياة أفضل!!
في البدء لم تجذب آراء شوبنهاور الأنظار إليها... إلاّ أنّ البرجوازية التي انتابها الذعر أمام تصاعد الحركة العمالية الثورية، تمسكت بأهداب اللاعقلانية وتحول شوبنهاور إلى "سلطان الفكر"! وخلق كونت (1798-1857) بداية سلسلة من علماء الاجتماع الوضعيين الذين أرادوا أن يبنوا علم الاجتماع لا من خلال دراسة التاريخ الحقيقي لتطور البشرية، بل من منطلقات قبلية محضة.
وانطلق المفكر الوضعي سبنسر (1820-1903) من "تشبيه المجتمع بالكائن الحي" مما يؤدي إلى عضونة الظواهر الاجتماعية وإلى التستر على الاستغلال والاضطهاد والإيحاء وكأنها ظواهر طبيعية.
وجسد ماخ (1838-1916) مثال المفكر المثالي الذاتي بقوله إنّ أشياء العالم ليست ما يثير الإحساس فينا، بل بالعكس، فإنّ مركبات الأحاسيس هي التي تشكل الأجسام.
وجاءت أفكار نيتشه (1844-1900) لتعبر عن تناقض وعدم اتساق الفكر البرجوازي؛ إذ يقول: "إنّ حضارتنا الأوربية كلها... يبدو وكأنّها تمضي لملاقاة الكارثة".(5) الإرادة أساس الحياة، والحياة تجل وتحقق الإرادة. إرادة القوة. والإنسان في نظر نيتشه كائن لاعقلاني بطبيعته يعيش بغرائزه ببواعثه اللاشعورية. "لم يعد هناك من شيء أؤمن به" "ستعود الأشياء في نهاية المطاف إلى ما كانت عليه".(6) وطالب نيتشه بإعادة العبودية والتقسيم المراتبي وسيطرة "أخلاق السادة" التي لا تعرف شفقة ولا رحمة. ويبيح للقوي أن يفعل ما يشاء. وينوه بدور الحروب في تحقيق هذا المثال الاجتماعي.
لقد غدا فكر نيتشه أحد أهم المصادر النظرية للأيديولوجية الفاشية التي تبنت آراءه النظرية الرئيسية. كما تجده في أيامنا هذه يتجسد بهذا الشكل أو ذاك لدى العديد من المفكرين البرجوازيين والمحافظين المتصهينين بعد الزلزال الذي حصل في المجتمعات التي حاولت بناء المجتمع الاشتراكي.
الفكر الاشتراكي:
بينّا في بداية البحث سعي أهم عقول البشرية لتحقيق مجتمع تسوده العدالة، ويزول فيه الاستغلال والاضطهاد.
لقد حاول المصلحان والمفكران الفرنسيان سان سيمون (1760-1825) وشارل فورييه (1772-1837)، والمصلح والمفكر الإنكليزي الثري روبرت أوين (1771-1858) البرهنة على أهمية وضرورة الانتقال من الرأسمالية إلى نظام اجتماعي يقوم على الملكية العامة، والعمل الجماعي، سعياً للقضاء النهائي على بؤس الجماهير، وتوفير المتطلبات للجميع. واعتبرا أنّ الطريق إلى الاشتراكية تمر عبر التنوير والتربية وتعاون الطبقات وجذب المالكين إلى جانب الاشتراكية، وإقامة مستوطنات اشتراكية نموذجية.
ومهد تطور البشرية الاقتصادي الاجتماعي والروحي لظهور الفكر الاشتراكي العلمي. فجاء اكتشاف كارل ماركس (1818-1887) لقانون فضل القيمة الذي يشكل حجر الزاوية في النظرية الاقتصادية الماركسية. وجمع مؤسسا الفكر الاشتراكي العلمي ماركس وفريديرك انجلس (1820-1895) التفكير المادي والديالكتيك وصاغا الفهم المادي للعملية الاجتماعية، مما أحدث ثورة في الفكر والفلسفة.
وخلص ماركس من تحليله لأسباب فشل الثورة الفرنسية إلى استنتاج يؤكد أنّه لا يكفي للطبقة العاملة أن تستولي على السلطة الحكومية، بل عليها تحطيم هذه الآلة البيروقراطية العسكرية وصاغ فكرة "الثورة المستمرة"، وإقامة دكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الانتقالية من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
ولأول مرة تتحول أحلام البشرية الخيالية حول مجتمع العدالة إلى علم اشتراكي. ومن المفكرين الذين ساهموا في نشر الفكر الاشتراكي العلمي: عامل الدباغة الألماني جوزيف ديتزجين (1828-1888) وبول لافراغ (1812-1911) وفرانس ميهرنغ (1846-1919) والإيطالي أنطونيو لابريولا (1843-1904) والبلغاري بلاغويف (1855-1924) والروسي جورجي بليخانوف (1856ـ) وعمل فلاديمير إليتش لينين (1870-1924) على تطوير الفكر الماركسي في نظرية المعرفة والدولة والحزب الثوري. وحاول بعقبريته المبدعة أن يحول الفكر الاشتراكي إلى واقع في روسيا. وأكد على ضرورة نشر الفكر الاشتراكي بين الجماهير، لأنها هي التي ستبني الاشتراكية، وبيّن ضرورة تفنيد الفكر البرجوازي، مؤكداً أهمية العمل الفكري. ففي ظروف المجتمع الرأسمالي لا تكون الطبقة العاملة مهيأة بقواها الذاتية لخلق الوعي الاجتماعي، بل لا بد من إيصال الوعي إليها من خلال المفكرين الاشتراكيين، وتلعب الأحزاب السياسية دوراً مهماً في هذا النضال. فالعمل الأيديولوجي يساعد الكادحين في تحديد مكانتهم في النضال من أجل مستقبلهم وهو مدعو للتأثير في التطور الاجتماعي.
وما استيلاء القوى المعادية للاشتراكية على وسائل الإعلام، بعد الردة التي حصلت في الدول (الاشتراكية)، إلاّ خير مثال على صحة ذلك.
وصاغ لينين مبادئ العمل الأيديولوجي وهي: الحزبية والعملية والعلاقة الوثيقة بالحياة، مؤكداً أنّه نظراً لكون علم الاجتماع الحقيقي يفند حقيقة الرأسمالية فهي تعاديه وتنشر الأوهام والمذاهب اللاعقلانية.
وتؤمن الصلة بالحياة قوةً وتأثيراً كبيرين للعمل الأيديولوجي كما بين لينين، وتنعكس هذه الصلة قبل كل شيء في التطبيق العملي والانطلاق من العمليات الواقعية في حياة المجتمع وأخذ وضع الناس الملوس بعين الاعتبار.
وبعد أن أخذ حلم البشرية طريقه إلى التطبيق في روسيا بعد انتصار الثورة الاشتراكية في أكتوبر عام 1917 سعّرت القوى المعادية والبرجوازية، التي لم تهادن الاشتراكية، سعّرت حربها ضدها على كافة الجبهات... وترافقت هذه الحرب مع تراكم أخطاء داخلية في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلد الثورة الاشتراكية... ومن أخطاء بعض المفكرين الاشتراكيين أنّهم رأوا مهمة نشر الفكر الاشتراكي محددة ومقتصرة على حزب بعينه، ولم يروا ويعترفوا بأهمية وضرورة التعددية السياسية، ووجود اتجاهات متنوعة بما فيها المعارضة لتصحيح أخطاء المسار، واعتمدوا سياسة الحزب الواحد والقائد، والثورات الثقافية وعمليات التطهير الحزبي التي استخدمت لغايات بعيدة كل البعد عن مصالح الاشتراكية... ونتيجة لانتقال مركز الفكر الاشتراكي إلى روسيا المتخلفة أصيب الفكر الاشتراكي بوهن عظيم، ترافق مع أخطاء قاتلة في الممارسة اليومية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية في بنية الدول التي حاولت بناء الاشتراكية.
المدارس الفكرية في القرن العشرين:
بعد انتصار ثورة أكتوبر في روسيا ظهرت عدة تيارات فكرية بعضها كانت معادية للاشتراكية يمكن تصنيفها بالتيارات والمدارس التالية:
أ ـ التيار اللاعقلاني: الذي لاقى انتشاراً في البلدان الرأسمالية في القرن العشرين تحت تأثير أفكار نيتشه. وحاول تلامذة فرويد (1856-1939) (صاحب مذهب التحليل النفسي) أن يفسروا العلاقات بين الناس وتطور المجتمع انطلاقاً من غرائز الإنسان ونزعاته البيولوجية والنفسية. ومن كبار ممثلي اللاعقلانية المفكر الفرنسي هنري برغسون (1859-1941) الذي نادى بـ"التخلص من وجهة نظر العقل" كون الحياة ـ وهي جوهر العالم ـ لاعقلانية تماماً كمحاولتنا العقيمة إدراك كنهها!!
ب ـ الوضعية الجديدة: تعود المسائل الفلسفية التقليدية حسب رأي فيتجنستين إلى الاستعمال غير الصحيح للغة... وحدد كارنات مهمة الفلسفة بالتحليل المنطقي النحوي للغة. أما برنتراد راسل فقد توصل إلى استنتاج مفاده أنّه يمكن استنباط الرياضيات كلها من المنطق الذي يشكل لب الفلسفة التي هي بدورها فعالية "تكمن في نقد اللغة" وليست نظرية.
جـ ـ التيار الفينومينولوجي: (فلسفة الظواهر): يعد هوسرل (1895-1938) الممثل الرئيسي للفينومينولوجيا. ويمكن تلخيص أفكاره بما يلي:
1 ـ تنحصر مهمة الفلسفة في دراسة ظواهر الوعي فقط ولا علاقة لها بالعالم ولا بالعلوم التي تدرسها.
2 ـ للظواهر قيمتها الشاملة فهي ماهيات مطلقة.
3 ـ يتم التوصل إلى هذه الماهيات بالمعاناة المباشرة وتوصف كما تبدو لنا حدسياً فهي لا تدرك بالتفكير المجرد ولا بالذهن.
د ـ الوجودية: إنّ منهج الوجودية هو منهج هوسرل وأفكارها ليست بعيدة عن أفكار نيتشه وبرغسون.
أساس كل وجود هو الذعر "في الذعر يكتشف العدم" (هايدجر). يجب الانطلاق من الفرد، فالذات الوجودية لا تهتم إلاّ بوجودها الخاص بمسيرتها إلى العدم. وتتفق مختلف اتجاهات الوجودية على التشاؤم ورؤيتها للحياة البشرية كسيل دافق من الأرق والضياع واللامعني.
هـ ـ التيارات الدينية: تعد التوماوية الجديدة التي تسعى لإحياء أفكار توما الأكيوني من أكثر التيارات الفلسفية الدينية انتشاراً في الغرب. تدعو التوماوية الجديدة إلى الانسجام بين الدين والعقل. وتقوم بتأويل الاكتشافات العلمية بغرض العداء للماركسية.
ويؤكد التوماويون الجدد أنّ جسد الإنسان ينشأ بشكل طبيعي فهو يخضع لنظام الطبيعة أما روح الإنسان فهي خالدة لا تفنى، هي من خلق الله. البشرية حسب زعمهم ملزمة يحمل أثقالها دون كلل، وستبوء محاولة الاشتراكية بالفشل،حسب زعمهم، إذ أنّها ضد سنة الكون.
و ـ مدرسة فرانكفورت: عرفها النقاد بأنّ هدفها الحقيقي العداء للاشتراكية، تتستر بغطاء لفظي معادٍ للرأسمالية، تعتمد أسلوب الماركسية الكاذبة.
ز ـ البراغماتية (الذرائعية): أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية على أيدي: بيرس (1839-1914) وجيمس (1842-1910) وديوي (1859-1952) ثم انتقلت إلى أوربا. صرّح زعماؤها بأنّهم اكتشفوا المفتاح الملائم لمعالجة وحل المسائل الفلسفية المعقدة، وذلك بألاّ تهتم بـ "قضايا الفلسفة" بل بأهداف الإنسان والوسائل التي تحققها. وبذلك تتحول الفلسفة إلى أداة لخدمة الإنسان في حياته العملية. أغرت البراغماتية الناس، بتفاؤلها الشكلية، غير أنّها فاقدة الثقة بالعقل البشري وتخاف العلم مما يفضي إلى التشاؤم.
ويمكن تلخيص الفكر البراغماتي بما يلي: بما أنّ الإنسان مجبر أن يحيا في عالم لاعقلاني يتعذر فهمه، ولن تجدي محاولاتنا لإدراك الحقيقة الموضوعية بالتالي يجب تقويم الأفكار الاجتماعية والعلم والأخلاق من حيث منفعتها وخدمتها لنا في تحقيق أهدافنا. فالصحيح والحقيقي هو ما يفيد الإنسان ويقوده إلى النجاح. (إنّ هيمنة الفكر البراغماتي في الولايات المتحدة والغرب يجعل سياستها وموقفها من مختلف القضايا بما فيها القضايا العربية مرتبطة بمصالحها فقط، غير عابئة بأية شرعية دولية أو قانون. وبالتالي يبقى التفكير بكسب الود والتأييد الأمريكي ضرباً من الخيال، إن لم يتحول طالب التأييد إلى ملبٍ للمصالح الأمريكية... وعلى الرغم من ذلك تجب المرونة وعدم الجمود والصلف في العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية عموماً...)
كيف تعامل الفكر الاشتراكي مع التيارات الفكرية الأخرى:
يعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا انتصاراً عملياً للفكر الاشتراكي، لعب لينين دوراً قيادياً ونظرياً مقرراً في تحقيقه. ومع انتصار ثورة أكتوبر وقيام الاتحاد السوفيتي ازدادت حدة الصراع بين الفكر الاشتراكي والبرجوازي. وساهمت الإجراءات الملموسة ذات الطابع الاجتماعي في الاتحاد السوفيتي في توجيه ضربة قاصمة للفكر الفاشي (يرى مفكرون أنّه أحد أشكال الفكر البرجوازي)، وعزز من مكانة الفكر الاشتراكي عالمياً.
لقد جاء انتصار الفكر الاشتراكي في روسيا، لأسباب تتعلق بتطور الأحداث في هذا البلد وفي الاقتصاد العالمي، وما نجم عنه، هو حصيلة جهود العديد العديد من المفكرين من أهم عقول البشرية على مرّ العصور.
وجد قائد الثورة الاشتراكية ف.إ. لينين في تعدد المفكرين على اختلاف مشاربهم عوناً له وللفكر الاشتراكي، وأعطى كل مفكر حقه، بما في ذلك خصومه. لعب في ذلك الإمكانيات الإبداعية التي تمتع بها، وثقته بنفسه وبصحة الفكر الذي يتبناه، فكان له باع طويلة في تطوير ونشر الفكر الاشتراكي. إلاّ أنّ وفاة لينين المبكرة (بل اغتياله) واستلام ستالين (مع الاحترام والتقدير لإنجازاته) لزمام المبادرة ساهم على المستوى الفكري في إضعاف جانب المفكرين الاشتراكيين نتيجة الضعف في امتلاكه للمنهج الديالكتيكي الذي كان يتصف به ستالين من ناحية (وخير مثال على ذلك اختزاله للدياكتيك في قانونين اثنين) (يجب عدم الوقوع في شباك مشوهي التاريخ والتمييز بين الدور التاريخي الكبير الذي لعبه ستالين في الانتصار على الفاشية وبين إمكانياته النظرية)، ومن ناحية ثانية ونتيجة لخشيته من المفكرين ـ على العكس من لينين ـ أخذ يصفيهم واحداً تلو الآخر، وبنى نظاماً حزبياً حكومياً جعله مرجعية لجميع المفكرين الاشتراكيين في العالم، يحصلون منه على "بركات الأشقاء السوفيت الكبار" الذين عدوا أنفسهم والأحزاب الشيوعية العالمية المبنية على نمطهم والتي تدور في فلكهم، الورثة الشرعيين الوحيدين للفكر الاشتراكي، وكل رأي لا ينسجم مع آرائهم ومصالحهم وصف بالتحريفية. هكذا انتقل مركز الفكر الاشتراكي من أوربا الصناعية المتطورة إلى روسيا الإقطاعية المتخلفة، وكان لذلك أثره الكبير على تشويه الفكر الاشتراكي.
ورأى (ورثة) الفكر الاشتراكي من الشيوعيين السوفيت ومن دار في فلكهم أنّ مقررات مؤتمرات الحزب الشيوعي السوفيتي ومؤتمرات الأحزاب الشيوعية العالمية هي تطوير للفكر الاشتراكي، ونادت تلك لمقررات إلى النضال ضد أي فكر لا يتطابق مع وجهة نظرها في الحركة الشيوعية وفي خارجها، ونعتته بالتحريفية... (لمزيد من المعلومات يمكن العودة إلى "الموسوعة الفلسفية السوفيتية" ترجمة سمير كرم ـ دار الطليعة ـ بيروت).
على هذا النحو وبمثل هذه العبارات الصاخبة وغير المؤثرة في كل زمان ومكان، والتي رددتها جميع الأحزاب الشيوعية العالمية (التي كانت تتبع للمركز الموسكوفي) و ما تزال أحزاب كثيرة تردد مثيلاتها، على هذا النحو تم تطوير الفكر الاشتراكي، من قبل هذه الأحزاب على حد زعمها!
وتبين مراجعة برامج تلك الأحزاب على مر عقود طويلة من الزمن تكرار برنامج أي حزب لبرامج الأحزاب الأخرى، وخاصة السوفيتي والبرامج السابقة بشكل عقيم، مع فقدانها وخسارتها لسلاحها الأقوى ـ المنهج الديالكتيكي، على الرغم من زعمها تبني ذلك المنهج!
هكذا أخذ الفكر الاشتراكي يخسر مفكريه ومبدعيه، وأخذ يتلقى الضربات من الفكر البرجوازي، وبعض هذه الضربات وجهها لنفسه بنفسه، أو أعطى الفكر البرجوازي كل مبررات ومسببات القوة ليوجهها ضده... وإذا كان انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917، وانتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، قد ساعد في نشر الفكر الاشتراكي في العالم، فإنّ الإخفاقات الاقتصادية، والتشويه الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الاشتراكية، والانعزالية والجمود الفكري الذي عاشته الأحزاب الشيوعية قد ساهم في خسارة البلدان الاشتراكية الحرب التي شنتها الرأسمالية العالمية ضدها مدعومة من رساميل صهيونية وعربية إسلامية... وترافق ذلك مع فراغ في الفكر في البلدان الاشتراكية، مما أدى إلى توجيه ضربة قاسية للفكر الاشتراكي، وأصبح يحتاج إلى تضافر جهود كبيرة وكثيرة لإخراجه منها...
أين نحن من كل ما يجري؟
بينا آنفاً غنى الفكر العربي بمبادئ العدالة المنافية للاستغلال والاضطهاد. كما أنّ المسار التاريخي العربي والإسلامي غني بمثل العدالة والدعوات لبناء مجتمع قوي سليم يتكافأ أعضاؤه ويتعاضدون. وقد نهل المفكرون العرب من هذه المناهل، واهتموا بمعالجة المسائل الاجتماعية وكيفية بناء مجتمعات تسودها العدالة والتعاون.
وأيقظ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 في روسيا شعوب الشرق التي كانت قد بهرت مفكريها أيضاً مبادئ الثورة الفرنسية. وأخذت مثل العدالة والأفكار الاشتراكية تنتشر بين المثقفين ورجال التنوير. وقامت عدة تجارب لنشر الفكر الاشتراكي بل ومحاولة تطبيقه في الواقع، كان من أوسعها تجربة المفكرين القوميين العرب الذين حاولوا بشكل جاد إيجاد القواسم المشتركة بين مصير الأمة العربية والاشتراكية المنسجمة مع التاريخ والخصائص المحلية. وحقق هذا التيار انتشاراً واسعاً في العديد من البلدان العربية.
وساهمت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية في نشر الفكر الاشتراكي، وتأثر الكثيرون من الكتاب والأدباء بالمدرسة الشيوعية، إلاّ أنّ هذه الأحزاب لم تستطع الخروج عن التوجهات المحددة من قبل المركز الذي نوهنا عنها سابقاً، مما تسبب في وقوعها تحت تأثير الأمراض نفسها التي ذكرناها... لو تمعنا في تجربة الحزب الشيوعي السوري الفكرية، على سبيل المثال، لوجدناها باهتة تمتاز بتكرار عبارات عامة تعلن أنّ الماركسية ـ اللينينية هي المصدر الفكري للحزب. وأعلن في المؤتمر السابع للحزب الشيوعي السوري عن تطوير ذلك الفكر على النحو التالي: "إنّ أفكار ماركس وانجلس ولينين تشكل المصدر الرئيسي لفكرنا، كما نعتمد كل منجزات الفكر التقدمي الإنساني، وكل ما هو تقدمي في تراثنا القومي".
هل تغني هذه العبارة عن جوع؟!
هل يوجد في صفوف هذا الحزب أو ذاك أو في إطار قيادييه مفكرون معروفون؟! ألا تصنف أغلب هذه الأحزاب المفكرين في عداد التحريفيين؟
هل نجد في المكتبات العربية دراسات ملموسة للقضايا العربية صادرة عن الأحزاب الشيوعية؟ أم نجدها مليئة بالمقالات والأبحاث حول الأوضاع في دول العالم الأخرى باستثناء العربية؟!
هل هناك مفكرون شيوعيون، أو اشتراكيون يقومون بنشر الفكر الاشتراكي بلغة مفهومة ومنسجمة مع الواقع العربي؟ وإن وجدوا، فكيف تعاملت أحزابهم معهم؟! وما مدى تأثيرهم في المجتمع؟
لم تكن البلدان العربية خارج الحرب التي شنتها الاحتكارات الرأسمالية العالمية وحلفاؤها ضد الاشتراكية، بل كانت في مواقع متقدمة منها، بحكم موقعها الجغرافي ومواردها الغنية وكفاحها ضد الأطماع والمشاريع الصهيونية... ووجهت القوى المعادية كل إمكانياتها لإجهاض أية تجربة تقود إلى تقدم العرب.
إنّ الصدمة الكبيرة التي أصابت التيارات الاشتراكية في البلدان العربية، وخاصة الأحزاب الشيوعية، بعد حصول الكارثة العالمية بانهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي والدول التي كانت تسير في فلكه، تبين مدى الضعف النظري الكبير عند المفكرين العرب، وفي هذه الأحزاب، واعتمادها اللامعقول على الترجمة غير الإبداعية للفكر. فنجد من يلقي تبعات ما يجري على اللينينة ويدعو للتنصل منها. ونجد من يخلص إلى استنتاجات مفادها أنّ "الماركسية لا يمكن أن تكون نظرية، كون النظرية هي فرضية تثبت بالبرهان كما تشير المعجمات"(7) وفي حقيقة الأمر، معنى (النظرية) في المعجمات أوسع من ذلك. ففي معجم الرائد لجبران المسعودي، مثلاً، نجد أنّ نظرية ج. نظريات هي: 1 ـ رأي أو اجتهاد يدلي به أحد العلماء ويحاول إثباته بالبراهين "نظرية النشوء والارتقاء لدارون، نظرية النسبية لأنشتاين، 2 ـ في الهندسة قضية تحتاج إلى برهان لإثبات صحتها . ومن المفيد التنويه إلى أنّ كلمة نظرية في اللغة العربية تقابلها كلمتان في اللغات الأجنبية:
الأولى: Theorem بالإنكليزية أو Teorema بالروسية وتعني نظرية تتطلب الإثبات بالبرهان؛ والثانية: Theory بالإنكليزية أو Teoruia بالروسية، ولها معنى واسع؛ فهي نظرية بمعنى:
1 ـ الأفكار والأحكام المتكونة عند شخص ما، رأي بقضية ما، في هذا المجال لديه نظرته في مجال حرفة ما (نظرية الاحتمال كجزء من الرياضيات ـ نظرية لعبة الشطرنج).
2 ـ مجموعة من القضايا الشاملة المشكلة لمذهب علمي، جزء من علم ما، وكذلك مجموعة القواعد.
3 ـ التعاليم ومنظومة المبادئ العلمية والأفكار الشاملة للتجربة العلمية والعاكسة لقوانين الطبيعة والمجتمع (النظرية الماركسية، نظرية المعرفة، النظرية النسبية).
كما نجد من دعا إلى "الاتزان في استخلاص الاستنتاجات حول ما (جرى) والتمسك بالعلم وبأدوات المعرفة وبأدوات التحليل التي تقترحها الماركسية، والانفتاح في الوقت ذاته على الأفكار الأخرى وتحصين الوعي من خطر التشويش الذي تحدثه التغيرات المتعاقبة والسريعة والعميقة."(8) وهناك من (وهم ليسوا قلة) ينطبق عليهم قول لينين: "... مضى قرن من الزمان ولم يفهم ماركس واحد من الماركسيين، لأنّه يستحيل استحالة قاطعة أن نفهم "رأس المال" لماركس ما لم ندرس منطق هيغل دراسة عميقة ونفهمه بأكله".(9)
ترخي قضايا التمزق والتباعد والخصام والظلامية السائدة في العالم العربي بظلالها على جميع مناحي الحياة، وينجم عن ذلك الشعور باليأس والإحباط، وينتقل ذلك إلى المستوى الفكري الذي جعلته شدة الصدمة يصاب بردة فعل من الأفكار القومية والتقدمية "ليجد مكاناً دافئاً في الرحم" السلفي، ولكنّه لا يستطيع هناك التخلص من رائحة الظواهر المتخلفة والعشائرية والطائفية.
ولم تجد التيارات السلفية، ولا القومية ولا الشيوعية المخرج الذي يستقطب القوى الفاعلة المقررة، ويؤسس لمستقبل مضيء.. ويبقى باب البحث والتجربة مفتوحاً أمام الجميع للتأسيس للفكر المنقذ والمستقبل الواعد... ذلك الفكر الذي يستند إلى كل ما أنتجه الفكر البشري من مدارس وتصورات وبنى فلسفية ومنهجية...
إعلان انتصار الفكر الليبرالي البرجوازي؛ ولكن..!!!
بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا عام 1917، ومع بدء تجربة عملية تطبيق الفكر الاشتراكي في الحياة، شددت الاحتكارات الرأسمالية العالمية محاربتها الاشتراكية على الصعيدين الفكري والعملي، عن طريق محاصرة روسيا الاشتراكية لإركاعها. وتجسد هذا الحقد في مرحلة لاحقة بالفاشية (وهي أحد مفرزات الرأسمالية) وتجاوزت التجربة الاشتراكية المحنتين، وبين انتصارها الإمكانيات الكبيرة التي يمكن أن تتفتح وتحشد في النظام الاشتراكي... فبدأت الحرب (العالمية الثالثة) الباردة ضد الاشتراكية من قبل حلف عسكري واقتصادي وسياسي وأيديولوجي وإعلامي للاحتكارات الرأسمالية العالمية وأذنابها، غايته محاصرة الاشتراكية واستنزاف قواها، لإسقاطها، والاستفادة إلى أقصى حد من الثغرات في بنيتها الداخلية السياسية والاقتصادية، ونهجها الأيديولوجي الخارجي المستنزف لخيرات البلدان الاشتراكية لصالح مشاريع تهدف لنهضة الدول المتخلفة... واعتمد المعسكر الرأسمالي في معركته على استنزاف الخيرات المادية لبلدان العالم الثالث، لمعالجة أزماته وتسعير المعركة وسباق التسلح مع الاتحاد السوفيتي. وترافق ذلك كله مع بنية داخلية راكدة على كافة الصعد في الدول الاشتراكية، ومسدودة الأفق، مما ساعد في خسارتها الحرب العالمية الثالثة التي خيضت ضدها.
ها هي البرجوازية ـ وحتى قبل سقوط موسكو بأيدي حكومة وصفتها المعارضة الروسية بجميع تياراتها بأنّها موالية للغرب ـ تعلن أنّها دفنت الاشتراكية، وتحتفل بانتصار الفكر الليبرالي البرجوازي بشكل استعراضي، كبير جعل بعض حاملي الفكر الاشتراكي يرددون السيمفونية نفسها. ولعل خير مثال لإعلان انتصار الفكر الليبرالي البرجوازي آراء البروفيسور الأمريكي من أصل ياباني "فرانس فوكوياما" التي نشرها في مقال تحت عنوان "نهاية التاريخ" يؤكد فيه "وجود كل الثقة بأنّ الليبرالية ـ هي المثال الذي سيحكم العالم المادي في نهاية المطاف"(10) ولعل ترجمة هذا المقال إلى العديد من لغات العالم، ونشره بشكل واسع تعبير عن تطلعات الاحتكارات الرأسمالية، ومفكريها في القضاء على الفكر الاشتراكي.
لكن، كاتب المقال، ممثل الفكر الليبرالي البرجوازي المعاصر، لم يستطع (على الرغم من إعلانه الانتصار النهائي للرأسمالية) أن يلغي جميع التناقضات في المجتمع الليبرالي، وبين وجود تناقضين محتملين في إطار الليبرالية؛ هما المسألة القومية وأشكال الوعي العرقي الأخرى، والمشاكل الدينية.
أما فيما يخص تناقضات العالم الثالث فهي لا تهمه، وتجاهلها ببساطة، إذ يقول: "طبعاً الجزء الأعظم من "العالم الثالث" لازال موغلاً في مستنقع التاريخ ويخدم كتربة مناسبة للصدامات. لكن دعونا لفترة محدد نقصر، ونحدد تفكيرنا بالدول المتطورة من العالم التي تصنع المناخ في السياسة العالمية في نهاية المطاف".(11) إنّ الفكر الليبرالي البرجوازي يخدم مصالح الاحتكارات، ويعبر عن رغباتها التي تتناقض مع وعي ونشاط الكادحين في بلدانها وبلداننا معاً.
وعلى الرغم من عدائه الشديد للماركسية، فإنّ فوكوياما لم يستطع إلاّ الاعتراف بصحتها وأهميتها، وحتى الادعاء بأنّ المجتمع الأمريكي ينسجم مع تصورات ماركس، إذ يقول: "أكد ماركس وهو يتحدث بلسان هيغل أنّ المجتمع الليبرالي يحوي في أحشائه تناقضات أساسية لا يمكن حلّها في إطاره ـ التناقض بين العمل ورأس المال ـ يبقى هذا التناقض منذ ذلك الحين الاتهام الرئيسي الموجه إلى الليبرالية. ولكن ومهما تكن الظروف فإنّ المسألة الطبقية لاقت حلاً لها في الغرب، إذ يعد المجتمع الأمريكي إنجازاً ملموساً للمجتمع اللاطبقي الذي تصوره ماركس."(12)
من كل ما تقدم يتبين أنّ الادعاء بانتصار الفكر الليبرالي، وأنّه والرأسمالية نهاية التاريخ مسألة غير ناجزة بل مثيرة للشك!
أي فكر نتبنى؟!
ما هي مصادر الفكر النهضوي والتحرري؟!
أدت عملية تطور الأحداث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة التابعة له إلى ترديد استنتاجات متسرعة تقول بـ (سقوط الأيدولوجيا). ونتيجة للنجاحات التي حققتها الاحتكارات الرأسمالية في حربها ضد الاشتراكية زعمت بسقوط الفكر الاشتراكي، وانتصار الفكر الليبرالي، وتصويره وكأنّه الفكر الأوحد الصحيح.. إلاّ أنّ تاريخ البشرية حافل بالحروب التي انتصر فيها طرف معين على آخر، واحتلت دول واستعبدت شعوب، وفاز الباطل أحياناً. إلاّ أنّ الشعوب المقهورة تستيقظ، وتزيل النير عن كاهلها. ولا يعني الانتصار في معركة إلغاء الطرف الآخر نهائياً. عندما اجتاحت جيوش هتلر أوربا اعتقد البعض أنّ الفاشية انتصرت إلى الأبد، لكن الإنسانية انتصرت في آخر المطاف على هذا المرض.
ولا يستطيع المفكرون الناضجون الناطقون باسم الاحتكارات الرأسمالية، وعلى رأسهم فوكوياما تجاهل هذه الحقيقة، فهذا فوكوياما يقول: "أنا ألاحظ شخصياً لدى الناس المحيطين بي حنيناً إلى تلك الأوقات عندما وجد التاريخ. سيلهب هذا الحنين بالذات المنافسة والنزاعات لوقت ولزمن آخر، حتى فيما بعد التاريخ. من المحتمل أنّ هذا الأفق المضطرب سيحتم بدء التاريخ ثانية في نهاية التاريخ."(13) ألا تنسف هذه الفقرة فكرته برمتها، هل التاريخ خارج الزمن؛ كي تبدأ نزاعات فيما بعد التاريخ؟! ألا يدل قوله بحتمية بدء التاريخ بعد نهاية التاريخ، بأنّ هذه ليست نهاية التاريخ، كما يزعم، ولا يمكن أن تكون نهاية التاريخ... إنّ من يعلن سقوط الفكر على أعتاب القرن الواحد والعشرين، كمن ردد ما قاله نيتشه على أعتاب القرن العشرين: "لم يعد هناك شيء أؤمن به." وكما استغلت الفاشية فكر نيتشه، فإنّ من يردد نظيره الآن يساهم في خلق فكر جديد ليس بعيداً عن الفكر الفاشي، وأفكار سيادة وزعامة العرق القوي، أو الدولة القوية، أو المليار الذهبي، وهذا ما أخذنا نلمسه على الساحة الدولية.
إنّ مسيرة الفكر البشري مستمرة، وستنتج باستمرار مفكرين وأفكاراً جديدة، إلاّ أنّها لن تكون منفصلة عمّا سبقها، وهي تستوعب كل ما أنجزته البشرية، وفي صالح الفكر الاشتراكي الاستفادة من كل ما أبدعه المفكرون، بمن فيهم المفكرون البرجوازيون والليبراليون بجميع مدارسهم التي ذكرناها.
لقد حاولنا التعرف على ما أنتجه الفكر البشري بغرض المقارنة والبحث، وسردنا خطوطاً عريضة، لنقول: هذا ما أنتجه الفكر البشري، هذا هو زادنا الذي يمكننا الاستفادة منه!
هل أبدعت البشرية فكراً آخر؟ وفي إطار تطوير الفكر الاشتراكي من الضروري السؤال: ماذا نأخذ، وكيف نأخذ، وماذا وكيف نضيف، ونتجاوز، ونغني هذا الزاد الفكري لنخلق وعياً متحرراً من شعوذات أعداء الإنسانية، وعياً فكرياً يساهم في تقدم شعوبنا والبشرية؟
دور التنظيمات الحزبية في نشر الفكر:
إذا حاولنا إسقاط هذه العملية الفكرية الكبيرة على عمل التنظيمات الحزبية والسياسية، لقلنا إنّه من الضروري معالجة المسائل الفكرية باستمرار للاهتداء إلى البوصلة المناسبة والصحيحة التي تساعدنا في رسم الخطى السليمة... هناك علاقة متبادلة بين الفكر والأسس والآلية التنظيمية في أي تنظيم لأنّه "تنظيم اجتماعي طوعي، وتحالف بين أناس يعتنقون أفكاراً معينة ويؤسس من قبل البشر ويعمل عن وعي لتحقيق أهداف معينة". ويبقى للفكر دور مقرر في الانتماء لأي تنظيم، بالتالي لا يمكن تأجيل البت بالمسائل الفكرية ريثما تعالج المسائل التنظيمية وبالعكس.
وتعلّم التجربة أنّه ينبغي الحكم على الوجه الحقيقي لأي تنظيم لا من خلال تسميته، ولا حتى من خلال برامجه المعلنة فحسب، بل من خلال أعماله الملموسة.
ولا تنحصر قوة أي تنظيم بالمكاتب والسيارات والأموال التي يحصل عليها، من هذه الجهة أو تلك، بل تكمن في التنظيم، والفكر، والإمكانيات المادية، وأجهزة الصحافة، والإعلام، وأساليب الإقناع التي يتبعها لحشد الأنصار والمؤيدين. وكي يستطيع أي تنظيم القيام بدوره لا بدّ له من اقناع الناس بفكره، ومن البديهي أن يقنع في البداية أعضاءه ذاتهم بهذا الفكر، كي يستطيعوا نشره وإقناع الآخرين به.
إنّ عملية الانتقال من آلية عمل قديمة بالية، تستند على النظريات الجاهزة، وانتظار آراء وملاحظات "الأشقاء السوفييت الكبار" السحرية، إلى آلية عمل جديدة تنسجم مع الواقع العملي الملموس، تتطلب جهداً وعملاً دءوباً لا يستطيع الكثيرون القيام به لأسباب مختلفة، منها ذاتية وفيزيولوجية وحياتية، ولذلك يحاولون طلاء القديم بألوان براقة جديدة، وهزّ العربة للإيحاء بأنّ القافلة تسير، مما يعرقل عملية التطور ويترك آثاراً قاتلة على مستقبل التنظيم، إن لم يتم تخطيها بسرعة.
بعض الاستنتاجات:
* ـ إن مجمل المدارس الفكرية، والنظريات الفلسفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عرفتها البشرية على مر العصور، بما فيها الاشتراكية والليبرالية هي إرث إنساني عام، ولا يمكن لأي فكر سليم أن يتطور بمعزل عنها جميعاً، والفكر الاشتراكي فكر ديموقراطي في جوهره وفي البنى التي يدعو إليها، وهو بحاجة للتعرف والاستفادة من جميع المدارس التي سبقته ورافقته.. ومن الضروري عند خط أي فكر، بادئ ذي بدء، امتلاك منهج سليم في التفكير. وتقر مختلف التيارات الفكرية بصحة وشمولية المنهج الجدلي، ولم يطالعنا أحد بمنهج أكثر حقيقية من المنهج الديالكتيكي، منذ أن وضع هيغل صيغته المتطورة حتى الآن.
* ـ من الضروري تحرير الفكر من جميع أنواع وأشكال الاستبداد والدوغمات، لبناء فكر وثقافة مستفيدة من الجوانب المضيئة في التراث الغني، بعيداً عن النسخ والتكرار، مستوعبة لمتطلبات الحاضر والمستقبل. فالتراث والفكر الإنساني يشكل الضلع المباشر في مثلث الجدل للوصول إلى صيرورة حقة، ويتطلب ذلك أجواء ديموقراطية حقيقية.
* ـ إنّ الاشتراكية كفكر وممارسة ليست حكراً على شعب أو تنظيم أو تيار فكري، بل هي حلم البشرية منذ ما قبل الماركسية، وستبقى أفضل غد للبشرية. وفي هذا المجال من الضروري التأكيد على أنّ كل من الثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر الاشتراكية في روسيا غيرتا العالم، الذي يعد موضوعياً وريث هاتين الثورتين، والمنجزات الديموقراطية الاجتماعية للبشرية. ولا يمكن شطب أية من هاتين الثورتين من التاريخ العالمي.
إنّ المؤسسات الاجتماعية كالديموقراطية، ودولة القانون، والعلاقات النقدية، والسوق، والفكر الليبرالي، والفكر الاشتراكي، والحرية وحق تقرير المصير... وغيرها، مكاسب إنسانية عامة، وهي من منجزات البشرية خلال تاريخها العالمي بمجمله، وهي ملك البشرية ككل. كما أنّ العديد من الحقوق والمكاسب الاجتماعية العامة التي حققها الكادحون في العالم، من خلال نضالهم الطويل، والتي يسجلها البعض باسم الحضارة الغربية (مثل حق النساء في الاقتراع، حق الشعوب في تقرير المصير، حق العمل والإجازة والتعليم، والضمان الصحي، والتأمين على المعاش والشيخوخة) أعلن عنها لأول مرة وجرى تطبيقها في بلد ثورة أكتوبر الاشتراكية (الاتحاد السوفيتي) ومن ثم طبقت في الغرب، خلال حربه ضد الاشتراكية، ولامتصاص نقمة الكادحين...
بالتالي ليس منطقياً التشهير بالماركسية، التي أتت لتحول الاشتراكية الطوباوية إلى اشتراكية علمية يمكن تطبقها في الواقع باعتماد الأسس العلمية... وليس منطقياً القول بعدم واقعية الاشتراكية، في الوقت الذي جرى فيه تبني العديد من الأفكار والمبادئ الاشتراكية في العالم أجمع. ولم تبدع البشرية نظاماً اجتماعياً يمكن أن تتحقق فيه العدالة الاجتماعية أفضل من الاشتراكية الديموقراطية المتحضرة. ولكل شعب طريقه الخاص إلى مجتمع العدالة الذي ينسجم مع خصوصياته الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية... مع التأكيد على ضرورة تلازم الاشتراكية والديموقراطية، إنّهما متطابقتان بالمعنى القانوني والدلالة، لا وجود لاشتراكية بمعزل عن الديموقراطية، ولكي تحقق الديموقراطية الحرية وتكافؤ الفرص من الضروري أن تقترن بالعدالة الاجتماعية التي هي أحد أوجه الاشتراكية...
* ـ يلعب الدين دوراً أخلاقياً هاماً، وتساهم المثل، والقيم الأخلاقية الداعية إلى المحبة والقضاء على الظلم واستغلال الإنسان للإنسان، التي ينادي بها الدين، تساهم في تربية أفراد المجتمع تربية قويمة صالحة، فهي مصدر روحي يترك الابتعاد عنها آثاراً خطيرة وفراغأ في المجتمع... ويتفق الفكر الاشتراكي بما يدعو إليه من إزالة استغلال الإنسان للإنسان، وتحقيق إنسانية الإنسان، وبناء جنة الله على الأرض، يتفق مع المثل الأخلاقية وقيم العدالة والمحبة التي يدعو الدين إليها، والفرق بينهما يكمن في أنّ الاشتراكية تدعو لتطبيق هذه القيم في الواقع العملي وتطرح حلولاً ومنهجاً ملموساً لتطبيقها عملياً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إنّ القيم الإنسانية لا تشيخ وهي ضرورية ليسمو الإنسان نحو إنسانيته الحقة. ومن الضروري التمييز بين الدين الحق الذي يدعو إلى عبادة الله وإلى القضاء على الاستغلال ونشر الحب والعدالة والأخلاق المثلى، وبين التيارات التي تعلن تبنيها للدين، وتتستر وراءه لتحقيق غايات بعيدة عن المثل الدينية الحقة، مستخدمة أساليب وأدوات تتنافى مع الدين.
يلعب تخلف الوعي الاجتماعي دوراً كبيراً في خلق واستفحال العديد من الأمراض الاجتماعية. ولمعالجة هذه الأمراض التي تنوخ بظلالها المظلمة على الجميع، ولتفادي الآثار الوخيمة المترتبة على استفحالها من الضروري رفع سوية الوعي الاجتماعي، والقيام بعملية تنويرية واسعة وعميقة. من هنا تأتي ضرورة وأهمية البحث المستمر عن أساليب جديدة لنشر الوعي الاجتماعي البناء، وبناء الأسس السليمة للسير بعملية التقدم الاجتماعي. ومن يتخلف عن ركب الحضارة تلفظه محكمة التاريخ التي لا يستطيع أحد أن يمنعها من إصدار حكمها، مهما أمهلت، ومهما كثر شاهدو الزور والباطل.
* ـ تؤكد تجارب المجتمعات البشرية، على مر العصور أهمية الدور الذي يلعبه القادة، ورؤساء الدول في مستقبل الشعوب. فمنهم من ساهم في رقي شعبه، وآخرون لعبوا دوراً في تفتيت واندثار حضارات إنسانية عملاقة، ولم يقتصر دور بعضهم السلبي على شعوب بلدانهم والبلدان المجاورة، فحسب، بل شمل العالم أجمع، وهذا يطرح أمام الفكر البشري، وأمام الشعوب والبشرية جمعاء مهمة التفكير في مسألة قيادة الشعوب، وطرق الوصول إليها، وضرورة البحث عن معايير وأساليب وأسس، وقوانين تنظم هذه العملية على المستوى الدولي، مع احترام سيادة الدول، تلك المعايير والقوانين والآليات التي تمنع إقامة الدول وتشكيل لحكومات على أسس عنصرية، وتمنع وصول أولئك الذين لا تنطبق عليهم المواصفات الإنسانية العامة، والذين ستسبب قيادتهم للشعوب كوارث إنسانية عامة.. وعدم الاعتراف بأولئك الرؤساء غير الشرعيين... منعاً لوصول أمثال هتلر، وشارون، وبينوتشيت، وبوكاسا، وصدام ومن شابههم، وغيرهم إلى الحكم... لما في ذلك من مخاطر وتشويه للفكر الإنساني والبشرية ككل.
* ـ من الضروري أن تنسجم عملية نشر الفكر الاشتراكي مع الواقع الاجتماعي الملموس لتساهم في رقيه، والتجديد المستمر للوسائل الناجعة لنشره في صفوف الشعب والكادحين، مع الاستفادة من الموروث الثقافي التقدمي لكل شعب، والاستفادة من الثقافات والمناهج العالمية...
* ـ لا يمكن فصل التطور الفكري في أي مجتمع عن تطور العلم والتطبيق العملي للعلم فيه. وتترك الفجوات بين تطور العلم من ناحية والتطبيق العملي للنظريات العلمية من ناحية ثانية، تترك أثرها على المستوى الفكري، ممهدة الطريق لنمو التفكير النظري المثالي والسفسطائية. إنّ موقع الفكر الاشتراكي الهامشي من الثورة التكنيكية العلمية والثورة المعلوماتية والاتصالات يترك أثره السلبي على هذا الفكر. مهما بلغ الفكر من الصحة فلن يغير الواقع ما لم يترافق مع التطور العلمي والتطبيق العملي في الحياة. فالتطور العلمي والتكنولوجي في المجتمع يخلق الأساس السليم لمجاراة ركب الحضارة الإنسانية... أي لا يكفي طرح شعارات العلمنة والعقلنة في الفراغ (مع التأكيد على أهميتها وضرورتها)، بل لا بد من أن يترافق ذلك مع إيلاء عملية التقدم العلمي وتطبيقاته التقنية أهمية خاصة... من غير تطوير البنى الاقتصادية بالشكل السليم، يبقة الحديث عن العلمنة حديثاً نظرياً.
ويبقى العمل والممارسة المحك الحقيقي لأي فكر، والأداة المثمرة التي تقدم الأجوبة المتواصلة لما تطرحه الحياة، والصيرورة المتغيرة أبدياً، التي لا يوجد من يملك القدرة على التمترس في وجهها أو كبح تيارها المتدفق. ويعد الفكر الاشتراكي العقلاني الإنساني المتحضر السليم أحد أهم مصادر الوعي والتوازن في المجتمعات البشرية، والذي يلعب غيابه دوراً في تشوش الرؤية، وتزعزع الاستقرار في المجتمعات البشرية، وهيمنة النزعات الاحتكارية الجشعة واللاعقلانية، وازدياد حدة التناقضات التناحرية والأمراض الاجتماعية، فتسود المجتمعات حالة من الاضطراب والصراعات الحادة وتقربها من حالة فقدان البوصلة والوعي، وتسعر النزاعات داخلها وفيما بينها، تلك النزاعات التي لا تعرف عقباها، كما هو حال البشرية في بداية القرن الواحد والعشرين.. ويقودنا ذلك كله إلى استنتاج، يقول: أعيدوا الاعتبار للفكر الاشتراكي الحضاري الديموقراطي المتجدد، تعود البشرية إلى رشدها!!
المهندس: شاهر أحمد نصر [email protected]
المصادر والهوامش:
(*) نشر أصل هذا المقال تحت عنوان: مسيرة الفكر البشري ـ إلى أين؟ في مجلة دراسات اشتراكية ـ العدد 145-146 (3-4) 1994 ـ دمشق.
(1) مذكرات كازانتزاكي ـ تقرير إلى غريكو ـ ج2 ـ ص179
(2) مواقف إنسانية في الشعر العربي ـ عبد المعين الملوحي ـ ص24
(3) نقد العقل العربي ـ تكوين العقل العربي ـ محمد عابد الجابري ص448
(4) ـ هيغل Hegl: Gestates Logic P-Z
(5) ـ نيتشه. المؤلفات الكاملة ـ المجلد9 موسكو 1919 ص3
(6) ـ نيتشه. المؤلفات الكاملة. المجلد 7 لايبزغ ـ 1901 ص250
(7) ـ دراسات اشتراكية ـ العدد 129 أيلول 1992 ـ عطية مسوح
(8) ـ كريم مروة ـ دراسات اشتراكية
(9) ـ ف. إ. لينين ـ المؤلفات الكاملة المجلد 38 ص108
(10) ـ فرانس فوكوياما ـ نهاية التاريخ (عن صحيفة زاروبيجوم الروسية) العدد 51 عام 1989
(11) نفس المصدر.
(12) نفس المصدر.
(13) ـ نفس المصدر.