هل كانت ثورة اكتوبر خطأ ارتكبه لينين ام ضرورة تاريخية؟

حسقيل قوجمان
ykojaman@googlemail.com

2019 / 11 / 10

اود في بداية هذا المقال ان اشير الى حملة الحوارات المباشرة بين كاتب من كتاب الحوار المتمدن وبين قرائه. قبل بدء الحملة اتصل بي الاخ رزكار وسألني ان كنت مستعدا لخوض مثل هذا الحوار واجبته فورا باستعدادي للقيام بحوار كهذا. ولكن تتبعي لهذه الحوارات جعلني اشعر بعجزي التام عن قبول الاشتراك في مثل هذا الحوار. فمن النقاشات التي تتبعتها شعرت ان الشخص الذي يقوم بالحوار عليه ان يقضي جل يومه طوال فترة الحوار وبعدها امام الكومبيوتر لكي يستطيع تتبع التعليقات والاسئلة والانتقادات ان وجدت وهذا ما لا قبل لي على تحقيقه. فانا في التسعين من عمري لا استطيع الجلوس امام الكومبوتر اكثر من ثلاث ساعات في اليوم اخصص فيها ساعتين صباحا للكتابة اذا كان لدي موضوع للكتابة وانا بطيء جدا في الكتابة لاني اكرر قراءة الموضوع عدة مرات قبل ارساله للنشر واخصص الباقي مساء لقراءة مقالين او ثلاثة والرسائل الموجهة لي بالعشرات يوميا. ولو توجه الاخ رزكار الي حاليا بطلب ممارسة حوار كهذا فسأعتذر لاني لا استطيع تحقيق مثل هذا الدور تحقيقا مرضيا. سأكتفي بمناقشة بعض الاسئلة والامور التي يجري نقاشها في الحوارات بصورة مستقلة ابدي فيها رأيي في موضوع معين وهذا كل ما استطيع القيام به حاليا.
الموضوع الاول الذي اود مناقشته هو ان الماركسية تعتبر التطور البشري وليس التطور الالي مقياسا للتطور الاجتماعي. فالمادية التاريخية كما بحثها كارل ماركس في الراسمال وكتاباته الاخرى جميعها كان يتحدث فيها عن البشر، عن الطبقات، عن الصراع الطبقي، عن تأثير تطور الانتاج على العلاقات البشرية، عن قوى الانتاج، عن علاقات الانتاج. وكل هذه المواضيع تتحدث عن تطور البشر والعلاقات البشرية.
قوى الانتاج هي الانسان العامل والطبيعة. انها عمل الانسان على الطبيعة لاكتشاف بعض اسرارها وتعلمها وتعلم استخدامها لانتاج ما ينفعه منها. تتبع ماركس في الراسمال تطور قوى الانتاج منذ بداية تاريخ انفصال الانسان عن المجتمع الحيواني واحتراف الصيد وسيلة للحصول على لقمة العيش. ثم بحث تطور هذه العلاقة الانتاجية بين الانسان والطبيعة التي تحيط به ولا اعرف عدد القرون او ملايين السنين التي استغرقتها عملية التطور حتى وصلت الى ما يسمى اليوم التاريخ الانساني وكأن هذا التطور لم يكن تاريخا انسانيا. بين ماركس في الراسمال كيف ان تطور قوى الانتاج يؤدي حتما الى تغييرات معينة كظهور السلعة والتبادل ونشوء السلعة المعبرة عن قيمة السلع الاخرى وتحولها الى نقود ثم الى راسمال. فدراسة التاريخ عند كارل ماركس هي دراسة تاريخ تطور قوى الانتاج، تطور الانتاج البشري، التطور الذي اساسه هو الانسان العامل على الطبيعة. انه يبحث ادوات الانتاج والانتاج من حيث تأثيره على الانسان وعلى مستواه المعيشي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والنظري. الانسان هو موضوع البحث وليس الطبيعة او الالة. وبين كارل ماركس في الراسمال وجميع كتاباته ان تطور قوى الانتاج، الانسان العامل على الطبيعة، يؤدي حتما الى نشوء علاقات بين العاملين انفسهم. اي نشوء علاقات بينهم تتناسب مع تطور قوى الانتاج. واطلق على هذه العلاقات اسم علاقات الانتاج. وبين ان تطور قوى الانتاج وعلاقات الانتاج يؤثر بعضها على بعض وتتبع هذا التطور في قوى الانتاج وعلاقات الانتاج على مدى التاريخ البشري الى حين انقسام المجتمع الانساني الى طبقات ومزايا ظهور الانقسام الطبقي وفوائد علاقات الانتاج حين تكون عاملا مساعدا على تطور قوى الانتاج ومساوئ علاقات الانتاج حين تصبح عائقا في طريق تطور قوى الانتاج.
وحين نشأت المجتمعات الطبقية ركز ماركس ابحاثه على الصراع الطبقي. والصراع الطبقي هو الاخر صراع بين البشر وليس صراعا بين الانسان والالة. صراع بين طبقة تمتلك ادوات الانتاج والانتاج وطبقات تقوم بالانتاج ولا تملك شيئا منه او تملك فقط جزءا ضئيلا منه. وعلى اساس هذا الصراع الطبقي درس التحولات التي طرأت على المجتمع الطبقي نتيجة للتصادم بين الطبقات السائدة والطبقات المسودة كثورات العبيد والثورات البرجوازية. والثورات كما هو معلوم ثورات طبقات بشرية ضد طبقات بشرية اخرى لاسقاطها وتحقيق مجتمعات اكثر ملاءمة لتطور قوى الانتاج بالمستوى الذي وصلت اليه في تطورها.
كتبت هذه المقدمة لكي اصل الى موضوع بحثي في هذا المقال وهو تحليل ثورة اكتوبر. فالكثير من الكتاب سواء اكانوا ماركسيين لينينيين او اعداء للماركسية يجمعون على ان اعلان ثورة اكتوبر كان خاطئا لان روسيا في ذلك الحين كانت دولة ضعيفة راسماليا. وكون روسيا كانت ضعيفة راسماليا صحيح جدا. فقد كانت روسيا افقر واضعف دولة راسمالية صناعيا وزراعيا في اوروبا عند قيام الثورة. وكان ضعف روسيا من هذه الناحية يعني عدم نضوج النظام الراسمالي نضوجا مشابها لاوضاع بريطانيا وفرنسا والمانيا من الناحية الصناعية. حتى اغلب المشاريع الصناعية الكبرى التي وجدت في روسيا انذاك كانت اجنبية بريطانيه او فرنسية او غيرها. ويستند المحللون لثورة اكتوبر على هذا الاساس الى كارل ماركس ويتوصلون الى ان الثورة لم تكن صحيحة من الناحية الماركسية في ١٩١٧ وان لينين قد اخطأ باعلانها قبل الاوان وهذا كان سبب فشلها وانهيارها. ولم تنشأ هذه الاراء والانتقادات في ايامنا فقط بل كانت منتشرة في عهد لينين وقد كتب لينين ضدها وشرح الاسباب التي جعلت الثورة ضرورة واسباب نجاحها وتطورها ولا احتاج الى المزيد من الكتابة عن ذلك لان ردوده كانت واضحة وجلية وتصلح اليوم كما كانت في ايام لينين.
يستند المحللون في هذا على اساس ان عدد المصانع والمعامل والشركات الراسمالية هو القياس الذي يتحدد بموجبه نضوج الثورة او عدم نضوجها. وبما ان الصناعة الراسمالية في روسيا كانت ضعيفة فهذا يعني ان الثورة لم تكن ناضجة وان لينين كان خاطئا في اعلانها. واذا واصلنا بحث الامور في نفس هذا الاتجاه فاننا نرى ان الثورة كانت ناضجة في بريطانيا التي كانت اكثر الدول الراسمالية تطورا صناعيا او منافستها المانيا التي تطورت صناعتها بسرعة فاخذت تبحث عن مستعمرات لا تستطيع الحصول عليها الا باغتصابها من بريطانيا التي لم تكن الشمس تغيب عن علمها. فالمحللون يخطؤون لينين لاعلانه الثورة ولا يخطؤون الدول الامبريالية التي بلغت حسب هذا التحليل الى اعلى مستويات التطور الصناعي ولم تقم الثورات فيها. وها نحن نرى اليوم الثورة التكنولوجية والعلمية توصلت الى مستويات هائلة كغزو الفضاء وانتاج القنابل الذرية والهيدروجينية وقنابل اليورانيوم المنضب والفوسفور الابيض وافضع اسلحة الدمار الشامل والاسلحة الكيمياوية البيولوجية ومع كل ذلك لم يحن بعد وليس في الافق ما يشير الى نضوج الثورة فيها.
فما هو سبب فشل هذا التحليل؟ فشله ان هؤلاء المحللين بعكس كارل ماركس ولينين يعتبرون الالة هي مقياس النضوج الاجتماعي وليس الانسان. لذلك فانهم ينتقدون لينين على اعلان الثورة قبل نضوجها ولا يستطيعون ان يلوموا سائر الدول الراسمالية التي بلغت في تطورها مرحلة الراسمالية الكاملة او ما يسمونه مرحلة ما بعد الراسمالية ومع ذلك لم تجر فيها الثورات الاشتراكية.
ولكن ماركس ولينين يدرسون المجتمع وتطوره من جهة اخرى، من الانسان، من الصراع الطبقي الذي هو صراع بين طبقات تستغلها طبقات مستغلة لها تنهب انتاجها وتتركها للجوع والبطالة والمرض والجهل والفقر كما نراه اليوم في ارجاء العالم بما في ذلك شعوب الدول الامبريالية ذاتها. ولا يستطيع حتى حكام هذه الدول تجاهل هذه الامور بل حتى يبحثونها او يتظاهرون ببحثها في اجتماعات قممهم ويضعون البرامج للقضاء على الفقر وتقليص البطالة وغير ذلك من البرامج المكتوبة على الورق والمذاعة في وسائل الاعلام والتي لا ينجم عنها سوى تفاقم الفقر والعوز والبطالة والجوع والازمات الاقتصادية.
فماذا كان وضع الصراع الطبقي في روسيا عند اعلان ثورة اكتوبر؟ نجحت الثورة البرجوازية في شباط ١٩١٧ باسقاط القيصرية وتكوين دولة برجوازية. لم تنجح الثورة البرجوازية بقيادة الطبقة العاملة كما ارادها لينين ولكن الطبقة العاملة والفلاحين لعبوا دورا هاما في انجاح الثورة عن طريق السوفييتات. ولذلك نشأت لفترة قصيرة سلطة مزدوجة للبرجوازية وللسوفييتات الى ان استطاعت البرجوازية ان تجتذب قيادة السوفييتات المنشفية والاشتراكية الثورية الى جانبها وبذلك انتهت فترة السلطة المزدوجة.
كانت البرجوازية الروسية التي استولت على السلطة حديثة العهد بالسلطة ليست لها التجارب الكثيرة في كيفية القضاء على الحركة البروليتارية والفلاحية ولم تنجز الهدفين الاساسيين اللذين كانا اهم المطالب التي يريدها الشعب الروسي، السلام والارض، بل واصلت الحرب الامبريالية البريطانية الفرنسية ضد الامبريالية الالمانية. ولم تقض الحكومة البرجوازية على علاقات الانتاج الاقطاعية ولم تجر الاصلاح الزراعي وتحقق حلم الفلاحين بتوزيع الاراضي عليهم. ورغم ان قيادة السوفييتات تحولت الى جانب الحكومة البرجوازية الا ان السوفييتات بقيت منظمات قوية شديدة النفوذ في الجيش وبين جماهير العمال والفلاحين. وبعد فترة وجيزة انتخبت السوفييتات حزب لينين البلشفي قائدا لها باغلبية ضئيلة. كانت الحكومة البرجوازية الروسية في هذه اللحظة من تاريخ روسيا حكومة ضعيفة قليلة التجربة خاضعة لنفوذ الدول الامبريالية الاخرى متأخرة صناعيا وزراعيا وحتى اغلب الصناعات الموجودة فيها كانت اجنبية.
في مقابل ذلك كانت سوفييتات العمال والجنود التي تمثل وحدة الطبقة العاملة مع فقراء الفلاحين وحتى متوسطي الفلاحين بمدى معين منظمات قوية وحدت الشعب الروسي وفرضت نفسها على السلطة البرجوازية كقوة لا تستطيع البرجوازية التغلب عليها. وعلى سبيل المثال كانت سوفييتات الجنود هي التي تسيطر على حركة الجيش الروسي بحيث ان اي قائد عسكري لا يستطيع تحريك وحدة عسكرية او ينقل سلاحا من مكان الى اخر بدون موافقة سوفييتات الجنود. ان سوفييتات الجنود لم تكن منظمة لعدد من ضباط الجيش الروسي بل كانت قوة افراد الجيش الروسي، ابناء العمال والفلاحين، القوات المحاربة الحقيقية التي تتحمل اقسى ظروف الحرب والجوع والهلاك اثناء الحرب. وكانت قيادة هذه السوفييتات قيادة بلشفية حكيمة تعمل بكل جد على تحضير الظروف واعدادها للثورة الاشتراكية. فماذا كان واجب الحزب الشيوعي البلشفي وقائده لينين في مثل هذه الظروف؟
هل كانت روسيا بمفهوم قواها الشعبية الجماهيرية بلدا متأخرا؟ بالعكس كانت روسيا في هذا المجال اكثر شعوب العالم تطورا ليس في فترة ثورة اكتوبر فقط بل في ارجاء العالم حتى يومنا هذا. فبينما كان جزء الطبقة العاملة العالمية في روسيا ناضجا من حيث تنظيماته الشعبية للقيام بثورة اشتراكية عجزت كل اجزاء الطبقة العاملة في العالم وخاصة في الدولة الامبريالية العالية التطور طوال هذه الفترة عن بلوغ ما بلغته الطبقة العاملة الروسية وبلغه الشعب الروسي من التطور. ان الادعاء بتأخر روسيا اثناء ثورة اكتوبر يستند على عدد المعامل والمصانع الراسمالية اما الواقع الذي كان لدى الشعب الروسي هو انه اكثر شعوب العالم تطورا من حيث مستوى الصراع الطبقي.
منذ حصول الحزب البلشفي على اغلبية في قيادة السوفييتات بدأ في العمل المثابر في الاعداد للثورة. ولم يكن ذلك مستورا او خفيا او نشاطا سريا. بل كانت كل ادبيات الحزب وحركاته تدل على ذلك. وقد رأى الحزب في اكتوبر ان الشعب الروسي اصبح جاهزا للقيام بالثورة فماذا كان عليه ان يعمل؟ هل كان عليه ان يهدئ الشعب الروسي ويبعده عن الثورة انتظارا للراسمالية حتى تطور عدد معاملها ومشاريعها؟ ان التأخر عن القيام بالثورة وقيادتها عند نضوجها كان يعني ارتكاب جريمة كبرى في حق الشعب الروسي وفي حق الطبقة العاملة العالمية. وقد اثبت التاريخ ان الطبقة العاملة الروسية بحلفها مع فقراء الفلاحين والى حد ما متوسطي الفلاحين استطاعت لا ان تحقق الثورة فقط بل ان تدافع عن دولتها الفتية ضد كافة الدول الامبريالية في العالم اضافة الى الاعداء الداخليين وتنتصر عليهم رغم الجوع والحاجة والحصار الاقتصادي.
ماذا كانت ستفعل الراسمالية لو اعطي لها مجال التقدم قبل القيام بالثورة؟ كانت في احسن الظروف تتقدم باتجاه ان تصبح دولة راسمالية متطورة مثل بريطانيا او المانيا او غيرها. ولكن دولا مثل بريطانيا وفرنسا واسبانيا وهولندا استغرقت عدة قرون لكي تصل الى هذه الدرجة من التقدم الصناعي. وكيف استطاعت هذه الدول الراسمالية ان تطور صناعاتها خلال هذه القرون؟ استطاعت ان تفعل ذلك عن طريق ابادة شعوب قارات باكملها مثل استراليا واميركا وبعض البلدان الاخرى مثل نيوزيلندة. استطاعت ان تفعل ذلك عن طريق نهب ثروات الدول الاسيوية كالهند وغيرها وتحويل افريقيا السوداء الى مصدر لتجارة العبيد اضافة الى نهب ثرواتها. استطاعت ان تفعل ذلك عن طريق افظع استغلال للطبقة العاملة والمراتب الفلاحية وحتى المراتب الثقافية في بلدانها. ومع ذلك استغرق هذا التقدم كل هذه القرون العديدة.
ولكن ما استطاعت الراسمالية ان تحققه من تقدم صناعي وزراعي خلال هذه القرون تستطيع الطبقة العاملة ان تحققه. وقد اثبتت الطبقة العاملة الروسية وكامل الاتحاد السوفييتي انها قادرة على تحقيق ما حققته البرجوازية في عدة قرون بثلاثة مشاريع خمسية ولم تفعل ذلك عن طريق نهب ثروات شعوب اخرى ولا عن طريق القرصنة واستعمار جميع قارات العالم ولا عن طريق ابادة شعوب بكاملها وتحطيم حضاراتها. استطاعت الطبقة العاملة ان تحقق ما حققته البرجوازية من تقدم صناعي وزراعي وفاقتها بثرواتها الخاصة عن طريق القضاء على الاستغلال الطبقي. يستطيع اعداء الاتحاد السوفييتي الاشتراكي ان يلفقوا ويزيفوا التاريخ كيفما شاؤوا ولكنهم لا يستطيعون انكار ان الاتحاد السوفييتي حقق هذا التقدم الرائع بفترة لا يمكن قياسها مع فترة تقدم الراسمالية.
ان ثورة اكتوبر كانت ضرورة انتجها تطور قوى الانتاج الروسية ونفذها الحزب البلشفي بقيادة لينين بكل حكمة وفقا لقانون تطور قوى الانتاج وتحول علاقات الانتاج عائقا في سبيل مواصلة تطورها.
2010



https://www.ahewar.org/lc
مركز دراسات وابحاث الماركسية واليسار