من المتناقضات في التاريخ الإسلامي 6

ياسر يونس
yasseryounes@hotmail.com

2007 / 3 / 4

قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عـــبادة
ورميناه بسهمــين فلم نخطي فؤاده

إن مؤرخينا القدامى ومن لف لفهم من المحدثين ، وهم كثر، فضلاً عن المتخصصين في الأدب العربي يعرفون جميعا هذين البيتين. ولكن قلة قليلة منهم هي التي تطرح الأسئلة المنطقية عنهما، والتي باتت تعد أسئلة جريئة وممنوعة في هذه الأيام الغبراء . فكلما زاد تأخر قوم وزاد انغلاقهم ازداد رفضهم لأية محاولة لطرح الأسئلة المنطقية عن سبب هوان الحال والتأخر والانغلاق.

وهذا هو الحل السهل أن نقول لا عيب فينا وأن ننحى باللائمة على الآخر المخالف ومؤامرته المفترضة علينا ولا بأس أن نذم الزمان أيضاً لأنه لا يسير على هوانا، ولكن الصعب يبقى دائما البحث عن حل والسعي إلى التقدم والانعتاق من أسر الماضي لأن الماضي لا ينبغي أن يكون تابوتاً نتحنط فيه جميعا فلا نحن من الأحياء ولا نحن من الموتى وإنما هو بكل بساطة ينبغي أن يكون كما نسميه " ماضياً ".

ولنعد إلى سعد بن عبادة، فما هي الحكاية ؟

إن البيتين ببساطة منسوبان إلى الجن! أي والله إلى الجن فقد قٌتل سعد بن عبادة في حوران من أرض الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب وقيل إن الجن قتلته وقالت هذين البيتين.

ولكن لنعد بسرعة إلى أهم معالم سيرة سعد بن عبادة في كتاب سير أعلام النبلاء فهو:
" السيد الكبير الشريف أبو قيس الأنصاري الخزرجي الساعدي المدني النقيب سيد الخزرج.... وكان عقبياً نقيباً سيداً جواداً...... ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يبعث إليه كل يوم جفنةً من ثريد اللحم أو ثريد بلبن أو غيره فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه......... وكان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصفة يعشيهم. "




لقد كان سعد سيد قومه وصحابياً مقرباً إلى الرسول أكثر من كثيرين غيره وكان كريماً يعشي ثمانين من أهل الصفة كل ليلة. لقد كانت لسعد سيادة الملك والشرف مما يذكرنا بسيادة عبد المطلب وأبي طالب قي قريش إلا أنه كان ذا مال على ما يبدو ولم يكن لهما حظ من مال. وبعد موت الرسول اختاره الأنصار ليخلفه نظراً لسيادته فيهم وقربه من الرسول فاجتمعوا في السقيفة ودارت الأحداث على النحو لتالي:

"حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ومعهم سعد بن عبادة فتشاوروا في البيعة له وبلغ الخبر أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فخرجا حتى أتياهم ومعهما ناس من المهاجرين فجرى بينهم وبين الأنصار كلام ومحاورة في بيعة سعد بن عبادة فقام خطيب الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات فقال عمر فقلت لأبي بكر ابسط يدك فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة وكان مزملا بين ظهرانيهم فقلت ما له فقالوا وجع قال قائل منهم قتلتم سعدا فقلت قتل الله سعدا." ( طبقت بن سعد )

لقد كان لدى سعد عنصر قوة هو أنهم في المدينة وليس في مكة على عكس عمر وأبي بكر ولكنه لسوء حظه كان مريضاً في ذلك اليوم حتى إن عمر نزا عليه فضربه حتى كاد يقتله بل أن عمر قال " قتل الله سعداً " حين ظن أحد الأنصار أن سعداً قتل وليس مريضاً ومن الواضح أن الأنصار مجتمعين كانوا أقل إصراراً من عمر وأبي بكر وحدهما. وهذا يٌعتبر خذلاناً من الأنصار لسعد، فاجتماع السقيفة على أرضهم وسعد من أسيادهم وله بينهم مكانة عالية وكان من المقربين إلى الرسول ولكنهم مع ذلك أخفقوا في مسعاهم بل لم يبذلوا من الجهد ما يبرر أصلاً أن يفلحوا فيه. كما أن قول الأنصار في البداية "منا أمير ومنكم أمير " يعد خطأ في التفاوض حيث هو بداية التنازل على العكس من أبي بكر وعمر اللذين أظهرا إصراراً وحنكة يشيان بأنهما كانا يعلمان ما كان يجب أن يفعلاه في موقف كهذا. وبعد ذلك رفض سعد أن يبايع حتى بعد موافقة الأنصار على خلافة أبي بكر حيث تخبرنا الرواية بما يلي:

" أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني محمد بن صالح عن الزبير بن المنذر بن أبي أسيد الساعدي أن أبا بكر بعث إلى سعد بن عبادة أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك فقال لا والله لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي فلما جاء الخبر إلى أبي بكر قال بشير بن سعد يا خليفة رسول الله إنه قد أبى ولج وليس بمبايعكم أو يقتل ولن يقتل حتى يقتل معه ولده وعشيرته ولن يقتلوا حتى تقتل الخزرج ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس فلا تحركوه فقد استقام لكم الأمر فإنه ليس بضاركم إنما هو رجل وحده ما ترك فقبل أبو بكر نصيحة بشير فترك سعدا. " ( طبقت بن سعد )

ومن الواضح هنا بعد نظر أبي بكر وفهمه لنفسية الأنصار وتجنبه الدخول معهم في حرب لا يعرف ما ستسفر عنه. كما أنه لا شك أن أخبار ردة بعض القبائل وأخبار منع الزكاة بعد وفاة الرسول كانت تتناهى إليه فلم يكن من الحصافة الدخول في حرب مع الأنصار في ظروف كتلك. وقد تحقق ما ظنه أبو بكر فلم يضرهم سعد بن عبادة ولم يحاربهم أتباعه.

وسارت الأمور على هذا النحو حتى لقي عمر سعداً بعد أصبح عمر هو الخليفة فكان مايلي:

" فلما ولي عمر لقيه ذات يوم في طريق المدينة فقال إيه يا سعد فقال سعد إيه يا عمر فقال عمر أنت صاحب ما أنت صاحبه فقال سعد نعم أنا ذاك وقد أفضى إليك هذا الأمر كان والله صاحبك أحب إلينا منك وقد والله أصبحت كارها لجوارك فقال عمر إنه من كره جوار جاره تحول عنه فقال سعد أما أني غير مستنسىء بذلك وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك قال فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج مهاجرا إلى الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب فمات بحوران أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه قال توفي سعد بن عبادة بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر قال محمد بن عمر كأنه مات سنة خمس عشرة. " ( طبقات بن سعد )


وهنا نرى صحابياً ينفي بشكل غير مباشر صحابياً آخر من المدينة, والطريف أن سعداً حسب الرواية " خرج مهاجراً" بعد أن كان من الأنصار!!!!!!!.
والبقية معروفة فقد مات سعد مقتولاً وقبل إن الجن قتلته ولم تكتف بقتله بل قالت ذلك شعراً. ولاحظ هنا عبارة عمر في السقيفة " قتله الله" وقارن بينهما وبين عبارة " قتلته الجن " ونحن عموماً لا ندري ماذا قصد سعد بقوله " أنا متحول إلى جوار من هو خير منك " ولا ما كان يخطط له.

ولكن الواضح أننا نستطيع أن نعقد مقارنة بين علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة فكلاهما طالب بالخلافة ومنعها. وإن كان علي نالها بعد زمن وصبر ولم ينلها سعد, وكلاهما كان ذا مكانة وأتباع وكلاهما عانى بشكل أو بأخر من خذلانهم إياه. وقد مات كلاهما مقتولاً.

إلا أن علياً بايع على كره وسعداً لم يبايع كما أن علياًً حارب من أجل الخلافة وسعداً لم يحارب وعلي كانت مكانته بين شيعته أعلى لأنه من بيت النبوة وآمن طفلاً بالرسالة وتزوج فاطمة بنت الرسول, وتلك ميزات لم يحظ بها سعد. ويبدوا أن سعداً كان شريف النفس عالي الهمة ويتضح ذلك من الرواية التالية:

" حدثنا سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن بن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "من جاء بأسير فله سلبه" فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال سعد بن عبادة يا رسول الله حرسناك مخافةً عليك فنزلت "يسألونك عن الأنفال". " ( سير أعلام النبلاء )

فسعد كان همه حراسة الرسول لا الأنفال ولا الأسلاب.

ومن الأمور الجديرة بالاهتمام أن معظم الروايات يجمع على أن جلده اخضر بعد موته ولم تذكر الروايات وجود سهمي " الجن " في جسمه بعد موته. فهل تعرض مثلاً للسم وهو ما غير لون جلده وأشاع من سمه أن الجن قتلة بسهمين لينفي التهمة عن نفسه تماماً؟
لا نعرف. كما أن هناك اختلافات في زمن ومكان موته فبعض الروايات تقول إنه مات في خلافة أبي بكر في مدينة بصرى بالشام.
وتبقى إشارة إلى أن وعد " منا الأمراء ومنكم الوزراء " الذي أعطاه أبو بكر للأنصار لم يتم الوفاء به على الإطلاق وسارت الأمور بعد ذلك في إطار خلاف القرشيين على الخلافة فيما بينهم فالراشدون قرشيون والأمويون قرشيون والعباسيون أيضاً والعلويون دون شك.
ولا نكاد نجد كاتباً إلا ويبجل الأنصار ولكن عندما يتحدث عن الخلافة يتجاهلهم تماماً ولا يكاد يعطي رأياً بل هو ينقل آراء القدامى المكررة إلى حد السأم في أمهات كتبنا. وهذا أمر معتاد ومتكرر في تاريخنا الذي لم يخضع بعد لتمحيص ونقد علميين إلا في حالات محدودة للغاية لأن التعرض للتاريخ بالنقد أصبح أمراً شائكاً فكأن التاريخ تحول إلى مقدس لا يجوز المساس به ولا تحليله ولا التفكير فيه. والأمر الوحيد المسموح به في تناول تاريخنا هو ترديده كالببغاوات.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن