من المتناقضات في التاريخ الإسلامي 4

ياسر يونس
yasseryounes@hotmail.com

2007 / 2 / 9


أعرض اليوم لحدث جلل في التاريخ الإسلامي، ألا وهو مقتل الخليفة عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي. وأهمية هذا الحدث لا تحتاج إلى تأكيد، ولكنني أود تسليط الضوء على ما جرى فور مقتله إذ إن له من الدلالات ما يفيد ما نحن بصدده . وأركز هنا على ما كان من عبيد الله بن عمر. ففور مقتل عمر ذهب ابنه عبيد الله وقتل ثلاثة هم بنت أبي لؤلؤة، وكانت طفلة، وجفينة والهرمزان. وأبو لؤلؤة هذا من أسرى الفرس القلائل الذين سمح لهم عمر بالدخول إلى المدينة إذ كان يخشى انتقامهم. ولكنه رضخ لإلحاح مولى أبي لؤلؤة عليه في ذلك. وجفينة كان نصرانياً من أهل الحيرة. أما الهرمزان فهو قائد الفرس الشهير الذي أُسر وأمنه عمر بعد أن كان يريد قتله، وكان ذلك بحيلة تكرر ذكرها في كتب الأخبار والتاريخ ولا فائدة من تكرارها هنا. وللإيضاح أقتبس النص التالي:

" ثم جلس عثمان في جانب المسجد؛ ودعا بعبيد الله بن عمر - وكان محبوساً في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة، وكان يقول: والله لأقتلنّ رجالاً ممن شرك في دم أبي - يعرّض بالمهاجرين والأنصار - فقام إليه سعد، فنزع السيف من يده؛ وجذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض، وحبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه؛ فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا عليّ في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق، فقال عليّ: أرى أن تقتله، فقال بعض المهاجرين: قٌتل عمر أمس ويقتل ابنة اليوم! فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين؛ إنّ الله قد أعفاك من أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان؛ إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك؛ قال عثمان: أنا وليّهم، وقد جعلتها ديةً، واحتملتها في مالي.
( انظر تاريخ الرسل والملوك للطبري )


وهنا أمامنا أربعة مواقف:
أولاً- موقف عبيد الله بن عمر: وهو موقف ثأري وانتقامي لم يميز فيه بين الرجال والأطفال، ولم يكن لديه أي دليل على تورط من قتلهم بيده دون محاكمة ولم يكن لديه شهود فعليون . وهو موقف تغلبه فيه الغضب على العقل والثورة على التأني والعاطفة على الإنصاف. فاجتماع أبي لؤلؤة وجفينة والهرمزان ليس وحده بدليل كافٍ، وحتى إن جاز ذلك فهو من سلطة الدولة لا سلطة عبيد الله بن عمر. ولو فعل كل مثله لسادت الفوضى واختفت سلطة الدولة تماماً، ناهيك عن قتله لطفلة لا تعي.

ثانياًـ موقف الخليفة الجديد عثمان: وهو موقف غلبت عليه الحيرة فلم يدر ما يفعل ، وهو موقف متسق مع ما كان يعرف به من لين. والواضح أن عثمان لم يقتنع كلية بالمخرج الذي أوجده عمرو لذا فقد حكم بدية القتل وتحملها هو بنفسه مما يشي بأن المخرج الذي وجده له عمرو لم يرض ضميره بالفعل.

ثالثاًـ موقف عمرو بن العاص: إن عمرواً هنا لم يخرج عن كونه أحد دهاة العرب المعروفين وإن كان الحدث لم يترك لدهائه مجالاً واسعاً. وكان المخرج هنا لا يستند إلى شريعة ولا فقه، فلا نعرف في الشريعة ولا الفقه ولا في أية قوانين ما ينجي من فعلة كهذه، وخصوصاً أن الفاعل اغتال، فيمن اغتال، طفلة لا تدرك ولا تميز ولا ذنب لها البتة شأنها شأن غيرها من الأطفال، فهو لا يزيد على كونه تلاعباً بالألفاظ دون سند من منطق ولا شرع.

رابعاًـ موقف على بن أبي طالب: وهو موقف متسق مع ما نعهده منه دائماً، فقد أصر على العدالة وتطبيق الحد وقال: "أرى أن تقتله" أي أن تقتل عبيد الله بن عمر.


وعمرو كما نلاحظ لم يستشهد بقرآن ولا حديث لأنه لا يوجد ما قد يقره على الإطلاق مهما لويت أعناق الآيات وفُسرت الأحاديث على الهوى. لذا فقد اكتفي بما قال على سبيل حفظ ماء الوجه فقط. ولو أخذ الناس بما قال لجاز الخروج على سلطة الدولة والانقلاب عليها فضلاً عن السرقة والقتل والنهب والسلب ما دام الخليفة الجديد لم يعين بعد، وما هذا إلا الفوضى العارمة بعينها، لا أكثر ولا أقل. والجدير بالذكر أن عمرواً لم يكن يعرف عنه الإفتاء وإنما كان يعرف بالدهاء أما علي بن أبي طالب فهو الذي كان يعرف بالفقه والفتوى ، ومع هذا فقد كان الخليفة أميل إلى رأي عمرو.


إن إعمال العقل في هذا الحدث بموضوعية يجعلنا نخلص إلى أن كلاً من الأشخاص المذكورين فعل ما يتسق مع ما هو معروف عنه ومع سيرة حياته حسبما نقلها إلينا الإخباريون.

وثمة مسألة أخرى ذات أهمية قصوى، وهي أن عبيد الله بن عمر من رواة الحديث الذين أخذ عنهم كل من جمع الحديث، وإن كان ذلك بعد قرن ونصف من هذه الأحداث تقريباً. وهو من الرواة المعتمدين في الصحيحين. وقد روي أن البخاري، مثلاً كان يعتمد معايير صارمة للرواية وقيل إنه تحمل مشقة السفر إلى أحد من كانوا يروون الحديث ولكنه حينما وصل رأى غنمه ترعى في أرض جاره فلم يأخذ عنه ورحل دون تدوين ما لديه من أحاديث . وهذا في حد ذاته أمر حسن، ولكن اللافت للانتباه هو عدم تطبيقه هذه المعايير على كامل سلسة الرواية ( والعنعنة: أي رواه فلان عن فلان ).

والسؤال المطروح في هذا الصدد هو هل يمكن أخذ الحديث عن رجل نسبت إليه حادثة كتلك، حيث صير نفسه قاضياً وجلاداً فقتل رجلين و "طفلة" ؟. إن التناقض الذي ننبه إليه في هذه الواقعة لا يقتصر عليها فقط وإنما يتسع ليشمل مجالاً أوسع بكثير مما نظن.
وأخيراً، وللتدليل على أن من القدامى من كان يعلم بأنه لم ترو أحاديث عن عبيد الله بن عمر نورد هذا النص من نهاية الأرب للنويري:

" وعبيد الله بن عمر ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه روى عنه، ولاسمع منه، وهو الذي حده عمر في شرب الخمر، وهو الذي وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه نصرانياً اسمه جفينة من أهل الحيرة، وقد ‎اتهمهما بأنهما أغريا أبا لؤلؤة بقتل عمر. وقتل أيضا ابنة لأبي لؤلؤة طفلة ".

ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب نفسه حده على شرب الخمر وأن النويري عن قصد أو غير قصد أورد قصة قتله لأبي لؤلؤة وطفلته وجفينة والهرمزان.

وتبقى كلمة أخيرة هي أن الخليفة وعبيد الله بن عمر ومن شهدوا تلك الواقعة ، و كل من رووا الأحاديث ودونوها ، لم يكونوا ليجهلوا الحديث النبوي التالي:
" إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ".

إن التناقض الذي نعنيه في هذه الوقعة له عدة أبعاد أولها التبجيل الذي يحظى به عبيد الله بن عمر في التاريخ الإسلامي، وثانيهما عدم تطبيق ثالث الخلفاء الراشدين للحد عليه، وثالثهما رواية الحديث عنه رغم كل ما ذكرناه.

وللحديث بقية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن