من المتناقضات في التاريخ الإسلامي 1

ياسر يونس
yasseryounes@hotmail.com

2007 / 1 / 29


يزخر التاريخ الإسلامي بالمتناقضات التي منها الروايات المتضاربة ومنها التضارب في المكان والزمان، أي نسبة حدث لفترة غير التي وقع فيها أو لمكان غير الذي وقع فيه ، وكذلك نسبة الحدث لأكثر من شخص.

وكانت النظرة النقدية غائبة إلا في ما ندر، وكان المؤرخ يكتفي في أحسن الأحوال بذكر ما إذا كان الراوية مجرحاً أي ( غير موثوق فيه) أو عدلاً ( أي موثوق فيه ). وحتى في هذا اختلفت الأقوال فأحياناً يكون الراوية نفسه مجرحاً عند قوم وعدلاً عند آخرين، ناهيك عن اختلاف رواة الشيعة الثقات عن رواة السنة الثقات ، فقد يكون أحدهم عدلاً لدى هؤلاء ومجرحاً لدى أولئك.

ولكن ما يهمنا هنا هو أن الناس يصدقون جميع الروايات وجميع الرواة طالماً أن ذلك من الماضي، وطالما أن صاحبها هو فلان ابن فلان ورواها فلان عن فلان.

ويقوم التوفيقيون بألاعيب الحواة فهم إن أرادوا نفي حادثة مخزية ارتكبها أحد المبجلين في تاريخنا بحثوا عما في الرواية من خلل وتظاهروا بعرض الحدث على العقل لنفيه أحياناً، والطريف أنهم أنفسهم يأخذون بنفس الروايات وبرواتها لتبجيل نفس الشخصية في حدث أخر، ولا عزاء للعقل.


وسأعرض هنا لنموذج لهذا التناقض يبين كيف يغيب العقل والمنطق والنقد ، محاولاً عدم الإطالة التي لايتسع لها
المجال في المقالات ومركزاً على أهم المحطات في حياته لتوضيح فكرة المقال.

عبد الله بن سعد أبي سرح
أورد أولاً نص الخبر المنقول في عدة كتب معتبرة في التاريخ الإسلامي.

" وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فإنه أسلم وكان يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيملي عليه الكافرين، فيجعلها الظالمين، ويملي عليه عزيز حكيم فيجعلها عليم حكيم، وأشباه هذا، فقال: أنا أقول كما يقول محمد وآتي بمثل ما يأتي به محمد. فأنزل الله فيه "ومن أظلمُ ممن افترى على اللّه كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء وَمن قال سأنزل مثلَ ما أنزل اللّه". وهرب إلى مكة مرتداً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاع، فطلب فيه أشد طلب حتى كف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أما كان فيكم من يقوم إلى هذا الكلب قبل أن أؤمنه فيقتله ؟ فقال عمر ويقال أبو اليسر لو أومأت إلينا، قتلناه. فقال: إني ما أقتل بإشارة، لأن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين. وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيسلم عليه. وولاه عثمان مصر، فابتنى بها دارا، ثم تحول إلى فلسطين فمات بها. وبعض الرواة يقول: مات بإفريقية. والأول أثبت ". ( انظر على سبيل المثال أنساب الأشراف للبلاذري ).


الرواية واضحة ولا تحتاج إلى تعليق فابن أبي سرح هذا أسلم وتقرب من الرسول واؤتمن على كتابة الوحي ولكنه خان هذه الأمانة وقال لقريش إنه يأتي بمثل ما يأتي به الرسول ، ونزلت فيه أية تثبت الحادثة بما لا يدع مجالاً لإنكارها واعتبر مرتداً وفر إلى مكة هارباً، ولم يذكر لنا الإخباريون مصير الصحائف التي دونها . وفي يوم فتح مكة شفع له عثمان بن عفان لأنه أخوه من الرضاعة فعفا عنه الرسول وهو كاره ولام أصحابه لعدم مبادرتهم إلى قتله قبل أن يأخذ بشفاعة عثمان لديه.
ولكن يظل ابن أبي سرح في نظر الناس صحابياً جليلاً وحاكماً إسلامياً وبطلاً فاتحاً لا لشيء إلا لأنه ابن أبي سرح، ويبقى عثمان على حق في شفاعته له لا لشيء إلا لأنه عثمان بن عفان.
إن الرؤوس الآن تطير والأشداق ترغي وتزبد والعيون تحمر والسباب ينهال ودعاوى الحسبة والتكفير ترفع لما لا يقاس البتة بما فعل ابن أبي سرح.

وبعد تولي عثمان الخلافة كانت لعمرو بن العاص ولاية مصر كلها إلا الصعيد فقد كان لابن أبي سرح فطلب عمرو من عثمان أن " يعزل له عبد الله بن سعد عن الصعيد " فقال له عثمان " ولاه عمر بن الخطاب الصعيد ، وليس بينه وبينه حرمة ولا خاصة........و قد علمت أنه أخي من الرضاعة فكيف أعزله عما ولاه غيري؟"" ( انظر ولاة مصر لمحمد بن يوسف الكندي على سبيل المثال ).

مرة أخرى يحقق ابن أبي سعد هدفه بفضل أُخوته لعثمان من الرضاعة فالرواية لم تذكر مثلاً أن عثمان رد على عمرو بأنه من أهل الكفاءة أو لأنه ممن يعرفون بنزاهة اليد، فالأمر كله مرده إلى تلك الأخوة.

فماذا حدث بعد ذلك؟
الإجابة في الخبر التالي:
" حدثني أبو أيوب الرقى عن عبد الغفار عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب قال: جبى عمرو خراج مصر وجزيتها ألفى ألف، وجباها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أربعة آلاف ألف، فقال عثمان لعمرو: إن اللقاح بمصر بعدك قد درت ألبانها. قال: ذاك لأنكم أعجفتم أولادها. " ( انظر على سبيل المثال فتوح البلدان للبلاذري وفتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم برواية الليث لن سعد ).

إن ابن أبي سرح هذا ضاعف جباية مصر بعد عمرو ولهذا لام الخليفة عمرواً. وعمرو لم يكن يُعرف بالتهاون في الجباية بل كان يُعرف بالعكس ( ولهذا حديث آخر ). وعمرو هنا يشهد بما لحق بمصر والمصريين من أذى ًنتيجة لمضاعفة ابن أبي سرح للجباية.
إن هذا الخبر يتسق تماماً مع سيرة ابن أبي سرح التي عرضنا لأهم محطاتها، والمتأمل لهذه السيرة لابد أنه سيخلص إلى أن بن أبي سرح كان رجلاً برجماتياً احترف التقرب من رأس السلطة والانقلاب عليه إن رأى مصلحة في ذلك وأمن العاقبة، كما أنه كان يحسن توظيف علاقاته وذوي قرباه، وكان قاسياً في معاملة الرعية إذ شق عليهم في الجباية ولا يخفى على أي قاريء للتاريخ كيف كانت تتم الجباية، فنحن نكاد نسمع صراخ العبيد والمستضعفين والجواري والأسرة يخرج لنا من طيات الكتب ولا يسألنا إلا أن نكون منصفين في الحكم على ما جرى.
إن تاريخنا يزخر بأمثال ابن أبي سرح وربما بمن هم أسوأ منه. ولكننا نبجل أمثال هؤلاء ونقتدي بهم رغم كل هذا التناقض مع ما نؤمن به، لذا فليس بغريب ما نراه من تناقض صارخ في سلوكنا مابين الحديث عن المثل العليا للدين وبين السلوك العملي الذي أفسد حياتنا وجعلنا في ذيل الأمم.
وللحديث بقية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن