الشخصية العربية وإعادة انتاج الاستبداد

خالد كاظم أبو دوح
kazomaa2010@yahoo.com

2006 / 12 / 15

تمهيـد :
نحاول من خلال هذه الدراسة التعرض لجانب هام من جوانب الاستبداد كعملية اجتماعية، وهذه المحاولة تستند إلى فرضية نظرية مؤداها أن الشخصية العربية المعاصرة بسماتها وخصائصها تمثل فى حد ذاتها آلية من آليات إنتاج وإعادة إنتاج الاستبداد فى الواقع العربى.
ونحن نتعامل هنا فى سياق هذه الورقة البحثية مع الشخصية على أساس أنها:
أولاً : محصلة لظروف تاريخية واجتماعية معينة.
ثانياً : أن الشخصية العربية هى آلية وسبب لإعادة إنتاج العديد من مظاهر التخلف الاجتماعى والتى منها الاستبداد. وفيما يلى محاولة لبحث مدى مصداقية هذه الفرضية النظرية.
أولاً : قراءة سوسيولوجية فى المفاهيم :
مفهوم الشخصية : Personality
يمثل مفهوم الشخصية أحد المفاهيم العديدة، التى يستخدمها المشتغلون بالعلوم الاجتماعية للإشارة إلى الفرد، والمصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية Persona وتعنى "القناع"، ويشير مفهوم الشخصية فى معناه العام إلى مجموع السمات والخصائص التى تتسم بقدر من الاستقرار، يقدرها ويحكم عليها الآخرون، والتى تميز فرداً عن آخر. ويعتقد أن تلك السمات لديها القدرة على الاستمرار عبر الزمان والمكان، وهى تمثل أساساً للسلوك الصادر عن صاحبها(1 ).
والشخصية العربية فى هذا السياق، تمثل بنية سيكولوجية ذات خصائص وملامح وسمات معينة؛ هذه الشخصية هى محصلة تكوين اجتماعى يحوى أنماطاً للإنتاج، وطبقات اجتماعية، وأيديولوجيات، وأطر ثقافية، وهذا يتسق مع ما أشار إليه كل من "جيرث وميلز" ومؤداه : " أن الإنسان مخلوق تاريخى، ويمكن أن يدرس فى ضوء الأدوار التى يقوم بها ويندمج فيها. وتتحدد هذه الأدوار من خلال نوعية النظم الاجتماعية التى ينتمى إليها الفرد والتى ينشأ داخلها. فذاكرة الفرد وإحساسه بالزمان والمكان وإدراكه ودوافعه وصورته عن ذاته .. ووظائفه السيكولوجية تتشكل وتصقل بفعل مجموعة الأدوار التى يتعلمها من مجتمعه "(2).
مفهوم الاستبداد : Despotism
يشير مفهوم الاستبداد إلى أحد أشكال الحكم، والذى تتركز فيه القوة فى أيدى شخص واحد، أو حزب واحد، أو جماعة واحدة، وتتميز النظم الاستبدادية بأنها على درجة عالية من تمركز السلطة(3).
والاستبداد فى هذا السياق، يشير إلى ممارسة القوة والسلطة على الآخر بشكل مطلق، وبشكل يتم من خلاله نفى الآخر كبنية سيكولوجية واجتماعية، والعمل على قهره من خلال شتى صور القهر، وذلك بداية من قهر الطبيعة للإنسان، وقهر الإنسان أمام القوة والسلطة التى يفرضهما السيد عليه، أو المتسلط، أو الحاكم المستبد، أو رجل البوليس، أو المالك الذى يتحكم بقوته، أو الموظف الذى يبدو وكأنه يملك العطاء والمنع، أو المستعمر الذى يفرض احتلاله. وبالطبع هذه السلسلة تترابط حلقاتها لما تقوم بينها من مصالح، كى تقيد الآخر وتفقده السيطرة على مصيره، فارضة عليه قانونها، وبذلك يصبح الآخر الذى لا حق له، ولا مكانة، ولا قيمة، إلا ما شاء الطرف المتسلط أن يتكرم به عليه(4).
ثانياً : التكوينات الاجتماعية فى الوطن العربى ونمط الشخصية العربية :
التكوين الاجتماعى لمجتمعات العالم الثالث بصفة عامة، والوطن العربى بصفة خاصة، هو عبارة عن مركب ينطوى على أساليب إنتاجية متعددة مختلفة الأصول التاريخية، هذه الأساليب تتداخل وتتمفصل تحت سيطرة أسلوب إنتاجى رأسمالى، سيطر نتيجة لاندماج معظم دول الوطن العربى فى السوق الرأسمالية العالمية فى عصور الاستعمار وما بعد الاستعمار، وهذا بدوره أفرز عدد متنوع متداخل ومتمفصل من المجموعات الاجتماعية والطبقية، والتى جاءت كإفراز لتلك الأساليب الإنتاجية(5).
مما سبق فإن معظم مجتمعات الوطن العربى شهدت أشكالاً من اللاتجانس البنائى، سواء كان ذلك على الصعيد الاقتصادى، أو على الصعيد الاجتماعى، يضاف لما سبق تأثير الفروق القبلية والعشائرية والعائلية والعرقية والدينية، وهى عوامل ذات أهمية بالغة فى الحياة الاجتماعية والسياسية لمختلف بلدان العالم العربى.
ورغم مجموعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتى شهدتها معظم دول العالم العربى فى الآونة الأخيرة، واندماج معظم هذه الدول فى منظومة النظام الرأسمالى، إلا أن هذه التطورات والتحولات لم تقض على أشكال الإنتاج السابقة على الرأسمالية، ولكن تعايشاً سوياً، وهذا ما خلق صوراً عديدة من التشوهات لمجمل هذه الأساليب، لأن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة –دول المركز الرأسمالى- والتى أنتجت الحداثة وصدرتها لدول الأطراف، كانت دوماً حريصة على إخضاع دول الأطراف بأبنيتها التقليدية تحت ظروف ضبط وسيطرة وتحكم منها، وفى إطار هذا المشروع الحداثى حاولت دول المركز الرأسمالى استغلال دول الأطراف اقتصادياً والسيطرة على مواردها البشرية والطبيعية، واستخدام ذلك فى إعادة إنتاج النظم الحديثة، وظل هذا الإخضاع ينمو ويتخذ صوراً عديدة بحيث صارت الحداثة مشروعاً كونياً، ولكن هذا المشروع الكونى لا يتجلى فى كل مكان بنفس الطريقة، بل أنه يعمل على مزيد من تراكم رأس المال واندماج وتوحد فى دول المركز، بينما يعمل على مزيد من الاستقلال والتفكك والتشظى فى دول الأطراف(6).
وهذه السمات السابقة التى اتسم بها التكوين الاجتماعى والاقتصادى لدول الأطراف تكاملت مع ما شهده التكوين الثقافى العربى، حيث بدت البنية الثقافية لمعظم مجتمعات الوطن العربى مغايرة –إلى حد كبير- عما سبق، فقد زاد حجم تغلغل الثقافة الرأسمالية، وانتشار أنماط الاستهلاك الترفيهى، وسيادة تيار استهلاكى طفيلى، وفرضت الحداثة أنماطاً ثقافية جديدة، وتداخلت هذه الأنماط الجديدة فى تكوين مشاهد الحياة اليومية(7).
مما سبق، يلاحظ أن الدولة فى الوطن العربى قد تشكلت وفق نمط قام على خصوصية لا سبيل لإنكارها، وذلك فى ضوء نمط الحداثة الذى شهدته معظم دول العالم العربى فى تاريخها الحديث، وتنحصر هذه الخصوصية فى تأسيس الدولة والعلاقات السياسية والخطاب السياسى على أصول موروثة من النظم الإمبراطورية، تبدت بشكل واضح فى مضمون العلاقات السياسية ونمط الأداء السياسى والخطاب السياسى، وبناء عليه يمكن افتراض أن بناء الثقافة السياسية الحديثة وما تفرزه من أنماط للسلوك السياسى تمحور حول مفهوم "البيعة" الذى عرفته الخلافة الإسلامية، وخاصة بعد صورتها النقية الأولى فى عهد الخلفاء الراشدين(8).
مما سبق، يمكن التأكيد على أن التكوينات الاجتماعية المختلفة لمعظم دول العالم العربى تتسم بأنها تكوينات لا هى حداثية ولا هى تقليدية، ولكنها عبارة عن تكوينات متخلفة ومشوهة، تحمل فى طياتها سمات حداثية وأخرى تقليدية ويتداخلاً معاً لينتجا فى النهاية شكل مخالف يتعايش فيه الموروث التاريخى مع الوافد الحداثى فى صياغة ثالثة مشوهة.
وفى ظل هذه التكوينات الاجتماعية وما تحمله من خصائص، يعيش الإنسان العربى ويحمل معه نمط شخصية يمثل فى ذاته محصلة وإفراز هذه التكوينات يتشابه فى وجوده مع وجود الإنسان المتخلف، والذى يعيش فى وضعية مأزومة، يحاول فى سلوكه وتوجهاته وقيمه ومواقفه مجابهتها، ومحاولة السيطرة عليها بشكل يحفظ له بعض التوازن النفسى، الذى لا يمكن الاستمرار فى العيش بدونه، هذه الوضعية المأزقية هى أساساً وضعية القهر الذى تفرضه عليه الطبيعة التى تفلت من سيطرته وتمارس عليه استبدادها، والممسكون بزمام السلطة فى مجتمعه الذين يفرضون عليه الرضوخ(9).
ومع هذه الوضعية المأزومة للشخصية العربية، يلاحظ أن الإنسان العربى تماهى فى وضعية القهر والرضوخ، وأفرز ذلك صوراً من السلبية واللامبالاة، وانتظر الآخرون لكى يصنعوا له كل شئ.
وفى إطار ذلك فقد الوطن العربى شكل هام من أشكال رأس المال، والتى يمكن الركون عليها فى مقاومة الاستبداد، وهو رأس المال البشرى وهذا الأخير هو من يتحمل تبعات الاستبداد بكل صنوفه، فرأس المال البشرى فى معظم بلاد الوطن العربى، ومن خلال موقفه السلبى من الاستبداد فإنه بشكل مباشر أو غير مباشر يعمل على تدعيم بنية الاستبداد وقبول أشكاله المتغيرة، بشئ من الرضوخ، وهذا الموقف ذاته يمثل آلية من آليات إعادة إنتاج الاستبداد.
ومن هنا، يكون السؤال فى النهاية، هل يمكن مقاومة الاستبداد فى معظم مجتمعات الوطن العربى بدون الجزء الأكبر من رأس المال البشرى فى هذه المجتمعات ؟.
مراجع الدراسة:
( ) جوردون مارشال، موسوعة علم الاجتماع، المجلد الثانى، ترجمة محمد الجوهرى وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م، ص 848.
(2) انظر فى ذلك :
- محمود عودة، التكيف والمقاومة .. الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995م، ص 12.
- أحمد زايد، المصرى المعاصر، المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة، 1995م، ص ص 25-26.
(3) شارلوت سيمور، موسوعة علم الإنسان، ترجمة محمد الجوهرى وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1992م، ص ص 83-84.
(4) انظر فى ذلك :
- مصطفى حجازى، التخلف الاجتماعى .. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، معهد الإنماء العربى، بيروت، 1986م، ص 36.
(5) انظر فى ذلك :
- محمود عودة، التكيف والمقاومة، مرجع سابق، ص 25.
- أحمد زايد، حول دراسة البناء الاجتماعى لمصر فى مرحلة ما قبل الرأسمالية، الكتاب السنوى لعلم الاجتماع، العدد الأول، دار المعارف، القاهرة، أكتوبر 1980م، ص ص 111-127.
(6) انظر فى ذلك :
- أحمد زايد، حول تشكل الذات فى سياق التخلف،ضمن أعمال ندوة "الذات والمجتمع فى مصر"، الندوة السنوية الثالثة لقسم اجتماع، القاهرة، 1996م، ص ص 131-132.
(7) لمزيد من التفاصيل حول العولمة وتداعياتها على التكوينات الاجتماعية فى البلدان العربية، انظر:
- خالد كاظم أبو دوح، التحولات العالمية الجديدة والديمقراطية فى المجتمع المصرى، رسالة ماجستير، غير منشورة، قسم الاجتماع، سوهاج، 2004م، ص ص 134-205.
(8) أحمد زايد، تناقضات الحداثة فى مصر، عين للدراسات والبحوث الإنسانية، القاهرة، 2005م، ص96.
(9) مصطفى حجازى، التخلف الاجتماعى، مرجع سابق، ص 8.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن