الطبيب الذي تحول لضمير وحكيم الثورة(جورج حبش

سامي الاخرس
samyakras_64@hotmail.com

2006 / 11 / 18

في أحد أزقة المخيم ، وعلي أحد عتبات بيت جدرانه تصدعت من آلام القهر والمعاناة ، جلست هذه العجوز التي تكاد أن تقبل الأرض من انحناء ظهرها ، وهي تُمتم بعبارات لا يفهمها سوي من عشقوا نسمات الأرض ، وتجذروا بالأرض كأشجار الزيتون .... فدنوت منها وبدأت أستفز ذاكرتها لتقص لي ما تحمله ذاكرتها ، فنهمت بي بثقة أسمع يا بني ، لا تخشي علي وطن ما دام هناك رحم يلد ،فالأرض الولادة لا ينضب عطاءها ، وأرضنا رحمها مُبارك ، ينجب أبطال ويرضع قادة أشداء من لبانه ، فلا تحزن إن سقط قائدُ هنا أو غاب أخر هناك ، فالراية لا تسقط ... وكن واثق أن الرحم الذي يلد لا يموت أبنائه .
بهذه الكلمات تركتني هذه الأم العجوز أن أردد نعم صدقت ... فالرحم الذي يلد لا يموت ،والوطن الأخضر بأغصان الزيتون وأشجار البرتقال لا ينضب عن العطاء .
ومن أبناء هذا الوطن الذي رضعوا لبان الحب والعشق الفلسطيني ، ونجومه المتلألأه في السماء ، تعانق إيمانها بحتمية النصر وعدم الاستسلام أو الانكسار ، وكوكبا تسلح بإرادة القوة التي لا تعرف الانهزام ،ولا تستكين للخضوع ، حكيم الثورة ،والقائد القومي الذي مثل فكرا قوميا ثائرا سطر علي صفحات التاريخ بطوله ، وتركه لميدان القيادة ليقاتل بين صفوف أهله وشعبه ولأجل عشيقته فلسطين ... إنه أحد الرموز التي حملت فلسطين هماً وحباً وعشقاً في قلبه .
الدكتور جورج نقولا رزق حبش المناضل الفلسطيني الذي كرس جل حياته وعمله من أجل فلسطين القضية ،ومستقبل أمة ، مشرعاً لواء إيمانه بهويته العربية وحتمية الانتصار ....
طبيباً حمل هموم اللجوء مع أهله وشعبه ،فحمل البندقية مستبدلها بمبضع الطبيب ، وعاش فصول التشرد واللجوء ، ليدون من جراحه قصة أولئك الذين شدوا الرحال بعيداً عن الوطن ، فلم تغادره مدينته اللد التي حملها مع كل ذرة تراب من فلسطين وغادرها صوب أسفار التشتت ،والتهجير ، يخط ملامحها بين أزقة المخيم ، ويدون صرخات أطفالها بإصرار علي العودة والانتصار .
جورج حبش ... الطفل الذي ترعرع مع سبع أفراد ، بعائلة لوالد تاجر ، طفلا أكمل دراسته الابتدائية بمدارس اللد ، والثانوية بمدارس يافا والقدس ، وإمتهن التدريس في مدارسهما وهو لم يتجاوز السادسة عشر من العمر ، غادر فلسطين عام 1944 متجهاً لبيروت التي تخرج منها طبيباً عام 1951م .
جورج حبش..... توقف أمام قرار التقسيم قائلا " كيف لهذه الأمة الكبيرة أن تهزم من عصابات صهيونية " وفي نهاية حزيران 1948م وفي وهج الهجرة الفلسطينية ، عاد جورج حبش إلي مدينته اللد تحت مفاجأة أهله ووالديه من عودته ، لكنه أبي إلا العودة ليعمل بين أهله وشعبه ،وعمل طبيباً في مشفي اللد ، واشتدت الهجمة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني ، فلم يثنيه وفاة أخته التي دفنت بجوار المنزل لعدم مقدرتهم علي دفنها تحت وطأة الحصار والقتل الصهيوني ، لم يثنيه عن التثبت في الأرض والوطن ...
تناقلت أسرة القائد الفلسطيني بين اللد ويافا ورام الله وعمان .... وعمل طبيبا في مخيمات الأردن ، حتى خرج مع المقاتلين الفلسطينيين بعد أيلول الأسود إلي لبنان .
جورج حبش ... حكيم الثورة ... ومفكرها ، شكل مع زملائه ومنهم الشهيد وديع حداد مجموعة عمل طلابي ، حتى تم تشكيل كتائب الفداء العربي التي كان جل عملها ضرب المصالح الانجليزية والصهيونية والعملاء المتعاونين معهما .. ولكنها لم تحقق طموحات ورغبات هذا الثائر ، فبدأ يفكر بكيان سياسي يسعي لتحرير فلسطين ، فكان تأسيس حركة القوميين العرب التي شكلت نواة للعديد من الحركات القومية العربية ،ولعبت دورا مؤثرا في تأجيج المشاعر الوطنية لدي الشعوب العربية .
جورج حبش ... تغيب الشمس مع كل يوم ... ولم تغب فلسطين عنه ، ولم تهاجره لازمته كالهواء والماء ، حملتها دمائه ، ونبض بها قلبه .
فبعد خمس سنوات من ممارسة مهنة الطب في مخيمات الأردن ، أسس الجبهه الشعبية لتحرير فلسطين في كانون أول 1967م ، وتنحي طوعاً عن قيادتها عام 2000م . حيث لعب دوراً بارزاً وهاماً في النضال الفلسطيني والتحرري العربي ، لما تمتع به من شخصية ثورية قيادية أهلته لأن يقود مسيرة كفاح طويلة ، ويعلن ميلاد فجر قائد لم تلوث يده بدماء أو أموال أهله وشعبه وأمته ....
جورج حبش .... تزوج من يلدا حبش ابنة عمه التي شاركته حياته علي مدار نضاله ،وكانت جزءاً من ملحمة التصدي لكل المؤامرات التي دبرت وأحيكت للنيل منه ، ورزق منها لمولودتان هما ميسا ولمي .
قائد ومفكر سياسي ولد من رحم النكبة والألم ، جاء يحمل الوطن قوتا وهواءً وهماً من احدي الطوائف المسيحية الفلسطينية ، عانق فلسطين أرضاً وهوية وانتماء ، وجسد خيطاً من الوطنية التي امتزجت مع حركات التحرر العالمي ،وواجهت سطوة الامبريالية الرأسمالية الصهيونية التي حاولت النيل من هذا القائد ،فأحاكت المؤامرات المتمثلة بمحاولات الاغتيال والاختطاف ، فكانت تزيده قوة وإصرار وعنفوان مع رفاقه الذين سطروا ملاحم في البطولة والعطاء ، من خلال مئات الهجمات ضد المصالح الأمريكية ،وخطف الطائرات التي قادها الشهيد وديع حداد والمناضلة ليلي خالد ، حتى سطع نجم فلسطين والجبهة الشعبية وقائدها في سماء الوطن وشكلت عنوناً لأحرار العالم ،وقبله لثوار الحرية .
جورج حبش ... القائد ... المفكر ... الثائر..
أمضي الحكيم مسيرة نضالية طويلة وشاقة ، لم تخلِ من التناقضات والاختلافات علي الصعيد الداخلي ، وخاصة مع الشهيد ياسر عرفات الذي أطلق عليه حكيم الثورة لما يتمتع به من فكر وقدرة علي التحليل العلمي والسياسي ، وعطاء كفاحي بطولي ، اختلفا كثيراً ،وتناقضا كثيرا ، ولكنهما لم يتناحرا ، بل جمعتهما فلسطين الوطن ، ورغم ذلك كان الحكيم هو الشاهد علي عقد زواج الشهيد ياسر عرفات ، تجسيدا علي أن الاختلاق السياسي لا يعني تناحر عقائدي أو سياسي .
اختلفا نعم لكنهما لم يتناحرا ، اختلفا نعم لكن وحدهم الوطن ، وهذا ما ميز القائد جورج حبش الذي لم يشرع البندقية سوي لصدر العدو متجاوزا أي تناقضات داخلية ، وكيف لا وهو الذي جسد مبدأ الانضباط الوطني والتنظيمي من خلال رفضه لرفيق دربه والرجل الثاني بالجبهة الشهيد وديع حداد عندما جسدت الجبهه مبدئها "إما وديع وإما الانضباط" فأنتصر الانضباط من أجل فلسطين التي مثلت لدي حبش الأم التي لا يكبر حبها أحد.
كما مثل هذا القائد عشقه للوطن والثورة في سياق رده علي مناقشة أتفاق السلام مع العدو الذي قال عنه الشهيد ياسر عرفات "أن هذا الاتفاق هو الممكن " فرد عليه حبش "أن الثورة الفلسطينية قامت لتحقق المستحيل لا الممكن"
حكيم ... لكل ثورة حكيم ... وحكيم ثورتنا جورج حبش ....
استقال جورج حبش طوعيا من قيادة الجبهه الشعبية لتحرير فلسطين عام 2000م ، حيث بدأ في إدارة مركز دراسات لبحث نجاحات وفشل الحركة الفلسطينية ، واستلم الراية من بعده الشهيد أبو علي مصطفي (مصطفي الزبري) قيادة الجبهة الشعبية حتى استشهد صيف 2001م عندما أغارت علي مكتبه برام الله صواريخ الحقد الصهيوني ، ليستنهض أبناء الحكيم عزائم الرجال وقوة الشهداء والرد باغتيال الوزير الصهيوني (زئيفي) الذي مثل فكرا صهيونيا متطرفا ، وخلف الشهيد أبو علي القائد أحمد سعدات والذي بدوره أعتقل بسجن أريحا من قبل السلطة الوطنية مع رفاقه قتله زئيفي ، حتى قامت القوات الصهيونية بعمليتها الإجرامية وهجومها المتواطئ مع العديد من الأطراف الدولية ليتم اسر أحمد سعدات ورفاقه .
جورج حبش...يبلغ حكيم الثورة السبعون عاما من العمر ، ويعاني من اعتلال بالصحة ، ورغم ذلك لم يستكين ، ولم يخضع ، بل واصل مسيرة العطاء التي وهب نفسه لها ، هذه المسيرة التي يجهلها العديد من أبناء هذا الوطن ، كما يجهلها العديد من أبناء هذه الأمة .
وبأحدي البيانات السياسية بيوم الأرض بالمغرب الشقيق تم ورود ذكر اسم جورج حبش بين أسماء الشهداء ... وهذا ما يدلل علي جهلنا بتاريخ قادة وأبطال لم تغرهم الفضائيات ، ولم تغويهم كاميرات الصحافة وأقلام النفاق ... فإن ورد أسمه بين الشهداء فهو فعلا شهيد ثقافة التجهيل التي استشرت بهذه الأمة ، ثقافة جردتنا من قراءة تاريخنا الحقيقي ،ومعرفة مسيرة أبطالنا العظماء ......
جورج حبش .... مسيرة حب وعشق وإيمان لا زال يحمله قلب قائد أسمه جورج حبش ، مثل مدرسة فكرية وثورية ... ورسم تاريخ مشرق مع قادة تعملقوا نجوما في سماء الوطن ... لم يعشقوا سوي فلسطين الوطن والانتماء ، ترفعوا عن ثقافة التعصب والحقد ، وزرعوا أشجار الوطنية لتنبت في صحاري قاحلة قوافل الشهداء ....



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن