خالد قطعني يمّا/قصة ليست قصيرة

ريتا عودة
easternsparrow@gmail.com

2022 / 11 / 20

تجمدتُ مكاني كسَمكة في ثلاجة لا أنبض، ولا يتحرك الدم في عروقي، وهي تنشج كغزالة شاردة:
- (خالد) قطَعْنِي يمَّا.
لم أصدّق ما سَمِعَتْهُ أذناي. لم أستوعب ما رأيته من دموع في عينيها، ومن تجاعيد أكلت نضارة وجهها، وأنين امرأة تحمل ضفيرة شائبة تحت منديلها ذي الغرز الفلسطينيّة الكالحة. لم أصدّق! تسمرتُ مكاني. حدقتُ بالسروال الأبيض المسجَّى بعناية فوق ذراعيّ، وفاضتْ صورٌ من الذاكرة.
* * *
قهقه (خالد) وهو يفتح خزانة ثيابه على مصراعيها كأنه يفتح مغارة (علي بابا). تناول السروال الأبيض وتمتم:
- تلبسه يوم عرسك، ثمّ تعيده لي. إنّه أمانة في عنقك.
ضمني إلى دفء صدره، فشعرت كأنّ السماء أطبقت على الأرض، وهمس في أُذني:
- مبروك زواجك حبيبي (باسم).
هرعتُ أحملُ حلمي على ذراعي لأُتـَمِّمَ مراسيم زواجي. رافقني صوته الحنون:
- السروال الأبيض أمانة في عنقك يا (باسم).
* * *
سقطتْ على صدري. بللتني دموعُها التي اختلطتْ بوابل دموعي. تُرَى هل أطبقتِ السماءُ على الأرض؟!
عادت تنشج بحرقة، ومفرداتها تتبعثرُ بين غصّة وأخرى:
- (خالد) قطعني يمّا يا (باسم). حبيبك قطعني.
فجأة انفلتت الآه من صدري. دوّت كخرير المياه في أرجاء المخيم، فأيقظتْ كلَّ العصافير الصغيرة عن أشجار الصبر:
- آ.....خ يمّا!
- (خالد) قطعني يا ناس.
حدقتُ في المرأة بمرارة، فقد تذكرتُ أنّي رأيت حلمًا هذا الصباح بعدما قررت ليلاً أن أعيد لـ(خالد) سرواله الأبيض. رأيتُني ألتقط عصفورًا عن الأرض. ضممته إلى صدري، فإذا به ميت. تحشرج صوتي:
- آآآخ يمّا!
ارتفع نشيجها بحدّة:
- أمس، كنّا في حالة منع تجوال، وكان (خالد) لدى أصدقائه، وفجأة أصابه وجعٌ حاد في صدره، فنزل الشباب به إلى الشارع يتوسلون العسكر أن يسمحوا لهم بنقله إلى المستشفى، لكنّ العسكر أصرّوا على منع التجوال.
على الحاجز، وفي انتظار الرحمة على الأرض، هبطت رحمة من السماء، وقضى (خالد).
* * *
دبّ الدَّمُ في عروقي وأنا أستعيدُ وصيةَ (خالد): "السروال الأبيض أمانة. أمانة. أمانة".
ارْتدَتْ الكلماتُ هالاتِها.
فجأةً، أدركتُ كُنه وصيةِ رجلٍ يدركُ حدسًا أنّ ساعته قد أزفَتْ. تصلبتْ يداي فوقَ كتفَيَّ هذي المرأة الشامخة كنخلة؛ هذي الأم الفلسطينيّة التي كانت وستبقى في ذاكرة كلّ أبناء المخيم حضنًا لكلّ موجوع، ومنديلاً لكلّ دمعة، وطلقةً لكلّ يد تتحدى القهر.
* * *
هتفتُ بإصرار:
- عودي يمّا.
تعلقتْ نظراتها بعينيّ كتائهٍ عثرَ لتوِّهِ على قطرة ماء.
- وكوني قريرة العين.
استكانتْ أمواجُها وهي تبللُ شواطئَ أحلامي.
جفَّ ينبوعُ أوجاعِها.
فجأةً، ابتسمتْ بصمتٍ وأنا أرددُ الجملةَ الأخيرةَ القاطعة:
- هنالك من سيرتدي السروال الأبيض من بعد (خالد).


(2005)
من المجموعة القصصيّة أنا جنونك، 2016



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن