بين غاندي وجيفارا، أيكون الحل مستحيلاً في العراق إلا باستخدام العنف؟

عباس منعثر
abbasmuna1971@gmail.com

2022 / 9 / 29

ثمة نظرية في التغيير السلمي رائدها غاندي، وأخرى ثورية رائدها جيفارا. يبدو أن الخطوات الشعبية قد تتجه باتجاه أحد الطريقين أكثر من الآخر اعتماداَ على متغيرات الوضع العراقي غير القابل للتكهن.

بعد سقوط ديكتاتورية صدام حسين 2003، اتضح الاتجاه العنفي في المجتمع العراقي، وخاصة في التيار الصدري عبر جيش المهدي إضافة للفروع العسكرية للجهات القادمة من ايران. وبعد تراخي القبضة الامريكية أقدمت جهات معينة على اللجوء الى السلاح لحماية مغانمها في النظام الجديد. ظلت حتى ظهور داعش تمارسه سراً، وإن ارتدت في العلن زيّ الأحزاب السياسية. بعد سقوط الموصل، تشكل الحشد الشعبي الذي صرّح مؤسسه المالكي أنه أراده على غرار الحرس الثوري الإيراني في التسريبات.

تهيكل الحرس الثوري العراقي من متطوعي الفتوى السيستانية من جهة، ومن مقاتلين مدربين ومهيئين حتى قبل الفتوى من جهة أخرى. مع انضواء أجزاء من المليشيات العراقية اليه، صار بالإمكان إيجاد مورد حكومي هائل إضافة لما يمكن ان تجلبه القوة العسكرية من موارد إضافية. وجه حيدر العبادي أصابع الاتهام لقادة الحشد بالثراء الفاحش واستغلال موارد الدولة. بالموازاة، توّسعت دائرة ممارسة العنف، وصارت هذه الجهات داخل الحكومة وخارجها؛ لكنها لها وضعها الخاص مثل أمن الحشد، قد تأتمر –كما يلمح المنتقدون- بفتاوى الفقيه خامنئي؛ حتى إن احدى الفصائل المسلحة صرّحت علناً أنها لن تسلّم سلاحها إلا الى الامام المهدي (الامام الغائب عند الشيعة)، بمعنى استحالة تسليم سلاحها مطلقاً.

لم تعد هذه القوى مجرد تشكيلات بسيطة تدربها وتمولها ايران، بل أضحت ترسانتها العسكرية تتجاوز أحياناً ترسانة الحكومة بمسوح عقائدي لا وطني، وأصبحت منافع السلطة تديم وجودها. صار المجاهدون الذين كان فراشهم الأرض ولحافهم السماء يملكون الوجاهة والمزارع والقصور والسيارات الفارهة والفضائيات وملايين الدولارات في البنوك.

هذه القوى، والتي وجدت أنها قد كسبت الدنيا بالنعيم الدنيوي الحلال والآخرة بتنفيذ أوامر أولي الأمر، لا يمكن لها أن تترك الفردوس الأرضي مهما حصل. من بين الاختبارات العلنية: العنف المفرط المستخدم في تشرين 2019 وحملة الاغتيالات الواسعة والخطف والترهيب المبالغ فيه لا لسبب إلا لأن امبراطورية المليشيات قد تعرضت الى النقد، فما بالك إذا وصل الأمر الى إمكانية الازاحة الكاملة؟

بعد انتخابات 2021 أعلن الصدر انه لن يشكل حكومة توافقية مما أثار حفيظة قوى قد حكمت العراق منذ 2006 تحت مسميات مختلفة آخرها الاطار (تحالف من قادة شيعة تعلن دعمها للحشد والمقاومة والذي يشمل قوى مليشياوية وحزبية يرفضها الصدر تماماً). كان من أهداف الصدر التي أعلنها: محاسبة الفاسدين، ضبط السلاح المنفلت، تنظيم الحشد الشعبي، القضاء على المليشيات. فما كان من أحد قادة الاطار –كما صرّح الصدر نفسه- الا أن اعترض على محاربة الفساد متذرعاً أن السجون ستمتلئ بالعراقيين حينذاك. يعي الاطاريون إذن أن الصدر لو شكّل الحكومة فهو انتحارهم السياسي لذلك يمكن لهم أن يذهبوا بسفينة البلد الى القاع برفقة الجميع، ولن يكونوا كبش الفداء.

نجحت قوى اللادولة في الوقوف ضد مشروع الأغلبية، وقامت بحركات قانونية وتظاهرات وقصف لأربيل ومهاجمة السنة لردع التحالف عن حكومة قد تقضي على كل نفوذهم في الدولة، ونجحوا في ذلك.

هذا الفلسفة تحكمت بكل تحركات الاطار، وهي وراء تمسكهم بالتوافقية الى درجة أن الوضع كاد ينزلق الى حرب أهلية أثناء المواجهات في المنطقة الخضراء بين سرايا السلام وأمن الحشد.

على مدار 10 اشهر سار الصراع بين الطرفين (الاطار والتيار) في تعرجات غير منضبطة. فبعد أن يأس الصدر من تنفيذ رؤيته في الأغلبية، أمر نوابه بالاستقالة، في الحين تلقف الاطار الأمر وصادق على نوابه البدلاء. ثم وفي تحرك مضاد، أخرج الإطاريون تظاهرات مضادة لتظاهرات الصدر، فقتل ما لا يقل عن 50 متظاهراً صدرياً فيما سميّ (فتنة الخضراء). هذه الأفعال وغيرها كثير تدلل بما لا يقبل الشك أن من هيمن على القضاء وسيطر على مجلس النواب وامتلك سلاحاً متطوراً مدعوم دولياً لن يترك سلاحه بسهولة لمجرد أن فئة منافسة طالبت بذلك.

إن ما بدأ كحركة مقاومة انشأها مقتدى الصدر قد فرّخ عن فروع كتاكيت عديدة نبت عليها الريش، وما كان تابعاً قد تحول إلى سيّد قومه من أصحاب النفوذ الذين لا يتركون هذا التحول سلمياً لمهما حصل.

هل يمكن لمن وصل القمة أن يعود بإرادته الى الحضيض؟ وهل يستسلم المارد لمن يريد تكبيله، ومن يجعل تمويله وسرّ وجوده على المحك؟

وبعد غياب ضابط الإيقاع (أبو مهدي المهندس) والمبرمج الدولي (سليماني) بضربة أمريكية صار كل فرع مليشياوي رأساً له زعامة تريد أن تفرض نفسها على الواقع العراقي الجديد.

عند هذه النقطة، لديك بلد يسير الى الانهيار، وبين يديك قوى شعبية هائلة متمكنة من التغيير، ما هي الخيارات المتاحة أمامك؟

لنبدأ بخيار غاندي ونفرض أن التحرك الجماهيري بدأ سلمياً بمظاهرة ثم باعتصام ثم بعصيان. ما الضير في ذلك؟ ليتظاهر الصدر الى يوم القيامة. السلمية تستهلك نفسها. لقد هُزم الصدر حينما طالب أنصاره بالسلمية التامة. سابقاً، لجأت المليشيات إلى العنف والسلاح والقتل في اللحظة التي أعلن الشباب فيها عن مطالبه التغييرية، وظل يدفع الثمن حتى الآن. وما قام به الصدر – رغم قوته ووجود مليشيا تحميه- لا يختلف كثيراً عن استراتيجية تشرين المهلكة. فقد تعاملت معه المليشيات بأن أخرجت أولاً تظاهرات مضادة، ومن ثم لجأت الى وسيلتها المفضلة وهو استخدام العنف مما أوقع الضحايا من التيار الصدري وانتهى تحرك الصدر الى نتيجة مخزية وانتصار كامل للمليشيات.

ربما سيلجأ الصدر مستقبلاً الى التظاهرات السلمية لكن هل يفيد هذا النمط؟ فالفصائل متمسكة بمواقعها ولن تعطي شيئا من ممتلكاتها، ولن يحدث شيء سوى ابتعاد الناس عن المطالبات الصدرية والتململ وربما ينفضوا عنه نهائياً بحيث يصبح وحيداً ونشازاً، على اعتبار أنه يعطل الدولة ويقف في وجه مصلحة الجماهير بحكومة ترعى مصالحها.

الخيار الثاني صعب بسبب اشتماله على العنف والموت. معلوم أن معظم زعماء المليشيات المسلحة كانوا من أتباع الصدر. وهو يعلم قبل غيره طريقة تفكيرهم. هؤلاء- حسب بعض المحللين-لا يؤمنون إلا بالقوة وكسر الإرادات، ولا يمكن أن يعترفوا بالهزيمة فقط حين يُسلبوا سلاحهم وأموالهم. أي إنهم لا يقرون بالواقع إلا حينما يحسوا أنّ ثمة خطراً يستهدفهم هم بشكل مباشر. فحينما تحدث تصادمات يختبئ هؤلاء الزعماء عادةً او يهربوا الى جهة مجهولة تاركين أتباعهم في الميدان، أي في حالة احساسهم بالخطر الشخصي ستجدهم في ملاذ آمن، وبعد أن تهدأ الأمور يظهرون للجماهير وكأنهم صلاح الدين الايوبي.

إذا كانوا بهذه الطريقة من التفكير، كيف يمكن مواجهتهم؟

يرى بعض المراقبين أن على الصدر تغيير الأسلوب، إن أراد النجاح. يجب أن يكون هناك تعاون مع الدولة ومؤسساتها العسكرية خاصة الجيش ومكافحة الإرهاب بحيث يتمّ اللجوء الى تصفية كل من يُشكل خطراً على السلم المجتمعي من المليشيات المسلحة.
طبقاً لهذا التصور، العنف يبدو حتمياً.

ربما، طريق مقتدى الصدر سيمرّ من الثورة السلمية بطريقة غاندي إلى التغيير الثوري على نهج جيفارا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن