طوفان المشاعر في قصائد عواطف عبد اللطيف

عواطف عبداللطيف
laym2402@yahoo.com

2022 / 9 / 21

قراءة في ديوان (أتقاطر منك) الدكتور عبدالمنعم ناصر

لم أتمكن من حضور تلك الأمسية الشعرية التي اقامتها جمعية الثقافة العربية النيوزلندية للشاعرة السيدة عواطف عبد اللطيف، لكني لم أبق بعيدا، فقد استعرضت أشعارها مسبقا وما أكتبه الآن هو انطباعات عن أبيات من قصائد ديوانها "أتقاطر منك،" أرجو أن أفيها حقها وأن يكون هذا البحث عوضا عن عدم حضوري.

وصف العرب الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى. وهذا الوصف بحد ذاته يهتم بالشكل لكنه لا يذكر شيئا عن المحتوى. غير أن الشعر الذي بقي من القدم احتوى من المعاني كثيرا، إلى جانب التزامه بالوزن والقافية. عندما كانت لغة الشعرالعربي القديم هي لغة الحياة اليومية للناس على الأغلب فإن الشعراء لم يجدوا صعوبة في نظم القصائد الموزونة والمقفاة، مع اهتاماهم بالمحتوى. وظهرت حركة الشعر الحر الحديثة فواجهت انتقادات كبيرة من الموالين للشعر الكلاسيكي الموزن المقفى، بدعوى أنه ليس شعرا بحسب المصطلح التقليدي، لكن ما كتبه رواد الشعر الحديث مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ومظفر النواب وعاتكة وهبي الخزرجي وغيرهم، ومنه الشعر الذي نحن بصدده هنا، يبطل حجة من ينكرون هذا النوع من الشعر، فهو ذو محتوى رصين ولا يفتقد الوزن كليا، لكنه تحرر من قيود القافية الواحدة في القصيدة، فإن فيه قوافي متعددة. ومع أن لا بد للشعر أن يكون ذا إيقاع موسيقي، فمن الإنصاف الاعتراف بأن كثيرا مما أصبح يسمى بالشعر الحر لم يخل من إيقاع عروضي، وإن تعددت الأوزان والقوافي في القصيدة الواحدة.

أما الشاعر فقد عرفه علماء الأدب بأنه الفنان الذي يتأثر بعمق بالحدث وبتجارب الحياة وبما تحمله من معانٍ، ويستوعب أبعادها بعمق أكثر مما يستطيع غيره من الناس، وفي الوقت نفسه يكون متمكنا من اللغة بدرجة يستطيع بكلماته وتعابيره أن يعمق إحساسات القاريء بما رآه وأحس به هو نفسه من أحداث ومعاناة، ويجعله مشاركا له فيما يتأثر به. فلا بد للشاعر من أن يكون مرهف الحس شديد التأثر بأبعاد ما يمر به من حدث وقادرا على أن يجعل القاريء يتفاعل معه في هذا الإحساس.

عندما قرأت أشعار السيدة عواطف شعرت بانها استطاعت أن تأخذني معها إلى حيث معاناتها ومشاعرها وتأثرها بما حدث لها. وهذه هو النجاح، حين جعلت القاريء يشاركها التجربة ويتأثر بنتائجها. ولابد من التأكيد على أنني في هذه الصفحات أتعامل فقط مع ديوانها : أتقاطر منك. وقد يكون لي كلام آخر عن الديوانين الآخرين بعدما أقرأهما بالتأني الذي كان لي مع الأول من دواوينها، إن نحجت هنا في إيفائها حقها من النقد الأدبي، فلابد للشعر من أن يقرأ ويقرأ مرات ومرات ليستوعب جيدا.

مما يحسب للشاعرة عواطف عبد اللطيف أنها رغم ما عانته من ظلم كبير من غدر همج رعاع فجعها في حبيبين: شريك عمرها ووطنها، لكنه لم يجعلها تنكفيء على نفسها، رغم خسارتها التي لن تعوض، وظلت تعيش حياة مفعمة بالعطاء، ولم تفارقها ابتسامتها، مع الحزن العميق الذي يتسامى من كل الحروف والكلمات التي تطرز أبيات قصائدها، ففاقت الخنساء في مراثيها. وفي الوقت نفسه فلقد فجرت هذه المعاناة في نفسها مشاعر عميقة وعنيفة عبرت عنها بكلمات فيها من الصراحة حدا يبهر القاري، والذي يلمسها من فوران حروف كلماتها وعباراتها، والتي تحمل معها التعبير عن آلام بمفردات متدفقة خارج حدود المكان والزمان.

تريد الشاعرة للزمن أن يتوقف، لكي تبقى مأساتها تتحدى الزمان وأن لا يطويها النسيان، وتبقى ظاهرة أمام الجميع تواسي من أصابتهم نكبة مثل نكبتها. تقول في بداية قصيدة "نبض الأرض": "تتعطل الشمس... والنجوم لم تعد تعرف المرور." وعندما يتوقف الوقت تتناثر محتوياته: "الروح يراودها نزف...والقلق يتناثر...والشوك ينخر أضلاعها...والحزن يكبر ويتناثر ...والياسمين يتلوى..." أي آلام ومعاناة؟ وتعيد التعبير عن توقف الزمن في قصيدة: "أحلام منكوبة" فتنشد متألمة: "يتوغل قلبي في أنفاس الزمن، عند الساعة الواقفة بتوقيت العمر"
وفي قصيدة "مدارت الحنين" يصبح البكاء زغردة، والحنين يشعلها، والعبرة تشاكسها. وفي قصيدة "حلم" يحترق النور...والأيام ترتبك. لكنها لا تيأس وتنشد تطرز الحياة: "ننثر الألوان في الأراضي التي غلفها الغبار...وتضج عيوننا بفرحة اللقاء، وننسى القهر." أي تفاؤل هذا الذي يصمد مع ضجيج هذه الأحزان الكثيفة. وفي قصيدة "أتقاطر منك" تتمرد الشاعرة على مصائبها وتصر على التحدي: "أرمم ما بقي مني...وأنا أنتظر على روافد أنهارك. أتناثر بين مساماتك! لأرى صورتي داخلك." إنها الغاية في التماهي والذوبان. فهي تتقاطر: "على سجادة الحلم." إن الحلم عوض للفاقدين، لا يريدون له انتهاء، فإن انتهى عادوا إلى مرارة الواقع. ولأسمح لنفسي أن أقتبس من مظفر النواب في قصيدته "ولا أزود" على لسان من تريد للحلم أن لا ينقضي، فالحلم حياة ثانية لها، كما هو لعواطف، مع أن الصباح موعد انقضاء الأحلام:
"من اتلّك بالحلم يا اسمر، يجي القداح بيديّة
وأعتّك وأطبج بحرﮔة، رفيف الريّة عل ريّة
واﮔلك وين هالغيبة، سنة وبالحلم منسيّة؟
"ياطيف شويّة عاشرنا...الصبح دنياك مـﮔضيّة!"
والحلم عند عواطف يحمل قناديل، فهي تريده مضيئا مليئا بالأمل، وأن لا ينتهي. ثم تعود كلماتها متفجرة تملأ السطور: "الشمس تحرق بقايا عشبي...والريح تخترق زجاج النوافذ وهي تولول...والصمت يهرول." غير أنها تبقى حالمة فتختم هذه القصيدة منشدة: "أتقاطر منك على سجادة الحلم."
وتعود في قصيدة: "احتضار" تشكو من الغربة : "في عتمة الليل...أبحث عن نفسي...أن الأشجار أيضا تحتضر، والورود البيضاء جثث تملأ الطرقات." لكنها لا تيأس وتتوكأ على الأمل وتقول: "لعل الليل يتحرك، ويقرع ناقوس اليقظة"
وفي قصيدة "بين نقطتين" تحاكم الشاعرة تناقضات الواقع ساخرة منها: "وجوهٌ نظرةٌ، ووجوهٌ كالحة." و: "نسيم يداعب وجوه الطيور...ورصاصات طائشة تغتال حمامات السلام." ثم تشكو الحيرة ونفاذ الصبر وتقول: "بين هذه النقطة وتلك، لم أعد أجيد الانتظار."
وفي قصيدة : "تمتمات العتاب" تهرب من خطر اليأس فتخاطب ضوءا رابضا في عتمة روحها يتأهب للانفجار: "لعلك تفجر بركاناً ثائراً وزمهريراً عاصفاً بوجه الظلم والظلام... وتُغلقُ أبواب الانتظار!" ثم تفيض خشيتها من صعوبة الانتظار وتنشد في قصيدة "ارتجاف الحقيقة" شاكية: "وشظايا قلبي تتناثر على رصيف الانتظار."
ثم تبهرنا مفردات أبياتها في قصيدة "من بقايا الليل" تنتفض وتنتشر مشحونة بالحركة العنيفة، حتى لهفتها نجدها تنام على "هدير الماء" فكيف يكون شكل النوم على صوت هادر؟ وفي ذكرى اليوم الذي تتحدث عنه في: "قطرات مطر" بأن في مثله كانت أول شهقة لها في الحياة، نراها تناشده: "...ليحطم قلاع الصبر فتولد من جديد على يديه وتسكنه في عينيها وتغطيه بأهداب روحها...ليطفيء جمر المسافات، ويعود الاخضرار إلى أراضيها." إن في هذه الكلمات تعبير مؤثر عن عطش لا يرتوي إلا "منه" ؛ مثلما قالت عروس لعيبي في قصيدة النواب "مامش مايل" وهي تعبر عن عطش لا يرتوي إلا "من وليفها":
"واشبع منك؟ كون الطيرة تشوف الماي وتشبع منّه!
كون الحلوة تفك ﮔذ لتها، وما تفتك بيبان الجنة."
وفي قصيدة "بوح بطعم الصمت" تصرخ مفرداتها وتئن في ذكرى "اليوم الذي تغيرت فيه حياتها" فتنشد: "...بين الأنين وغصة الذكرى...وطعنات غدر تقتل الحلم." تلك الطعنات التي تصفها: "...تعزف سمفونية ذكرى الرحيل، على وقع قطرات الدم." عميقة هي آلامها والكلمات قاصرة عن حمل ما بها من آلام، تتجاوب مع عنف حروفها وانفجارات معانيها كالبراكين.
إلا أن الأمل يبقى يطرق بابها في قصيدة: "ربما". تريد الشاعرة أن ترجع عقارب الزمن فتتمنى: "ولو لحظة إلى الوراء...ربما تجمعنا الأيام معاً من جديد." إنه الأمل حتى لو لن يتحقق، فبدون الأمل الضياع. إنها تريد: "أن يتقشع الضباب عن خيوط الفجر...ربما أعيش عمرا غير عمري." تعبر الشاعرة بكلمة ربما عن يقينها بأن الزمن لا يرجع إلى الخلف، وأن رجوعه وهم: "عواصف الصمت تصفعني، فتحيل أحلامي إلى غصة معلقة على أكتاف الوهم." لكنها تبقى معانقة للأمل فتقول في قصيدة: "اشتقتك". إنها تتحدى اليأس، رغم اعترافها في قصيدة "صهيل الوجع" منشدة: "وأنا ألهث خلف فرح من سراب."
وتبقى شاعرتنا تعيش الحلم، رغم طوفان الآلام والأحزان في قصيدتها: "آهات ألم"، تعددها ثم تتحداها، لتنشد آخر القصيدة: "وأتنفس بصمتٍ، قبل أن تتمدد خيوط الفجر، وتستفيق الحقيقة." وفي الحركة العاشرة من قصيدة: "خربشات من عمق الروح" تبقى متشبثة بالحلم فتنشد: "سأرخي جدائلي على ضفاف الحلم، قبل أن تركلني أقدام الريح." أي ريح سوداء تخاف الشاعرة منها؟ أهي التي ما زالت تنغص فرحة شعبنا بعد خلاصه من الشر والأشرار؟ ثم ترى في الحلم ملجأ لها يؤنس وحدتها، ومعه يتوهج عنائها. لكنها في "قناديل الرغبة" تعبر عن عجزها عن معاشرته طويلا لأنه كما تقول:"...ينفرط من بين أصابعي." ومع ذلك فهي تبقى تتشبث بالحلم في قصيدة "ليلة عارية الصدر"، متوسلة به "...ألمم رداء البرد، أتدثر بالحلم." لكنها تقر متألمة فتقول: "...ويتدحرج الحلم على عتبات الوهم." وفي قصيدة "شعور غريب" ينتابها الشعور الأغرب: "عندما أريد أن أجمع أشلاء حلم تكسّر على صفحات الفجر." وها هي تتألم لانتهاء الحلم عند الفجر! وكأني بها تريده أن يبقى. وتنشد في قصيدة "صوت الروح" متالمة : "لكني لم أعرف...أني سأعيش الحلم وحدي بين الأحزان."

وفي قصيدة: "أحلام منكوبة" تشكو الشاعرة نكبة أحلامها التي هي مأواها وسلوتها فتهطل متاعبها وشكاواها غزيرة كالطوفان ، فتكون "مسالك للوجع" كما تصفها، تملأ بها سطور هذه القصيدة، ولا يكاد القاريء يحصيها لكثافة آلامها هناك وتحشدها مالئة كل زوايا حياتها، فكل بيت بحاجة لوقفة طويلة، وذلك يجعلني اشعر بالتقصير في إيفاء حق الشاعرة عاجزا عن سبر أغوار مأساتها بكل الأبعاد التي تصفها كلماتها.

هناك محيطات عميقة من الشوق والألم والشكوى في كل قصائد عواطف. كل قصيدة منها بحاجة لصفحات وصفحات؛ وفي كل سطر منها ألم وآلام. ولكثرتها يقف قلم الشاعرة لاهثا يواجه الزحام عن كيف يمسك بشلالات من الخواطر الحزينة التي كثرت حتى تناثرت حولها فلا مكان يستوعبها كلها؛ فانبثقت مفردات الانفجار تملأ أبياتها بفوضوية رائعة: "تتشتت الأفكار...الأيام تتسرب من ثقوب العمر...يكبر الحزن يتناثر في أزقة أعصابي...أنثر قلقي وتعربد حروفي...تنثر عبير الطلح على اتساع المكان المعجون بآلامي...أتناثر بين مساماتك...أعماقي المشتتة..." هكذا تمتلأ الأبيات بمفردات يحمل معانيها تكرار حرفي الثاء والشين، كثرة كثيرة وشدة شديدة على امتداد قصائدها، تتحدى الإحصاء والعد.

وتجيد الشاعرة تسخير وظيفة حروف الصفير بجرسها العالي لتعبر عن سخونة وشدة جروحها الدامية التي أوقعتها سكاكين الغدر واللؤم والجاهلية. ها هي تنشد في قصيدة : "تداعيات غريب": "في سخونة الساعات، تتشتت الأفكار" و: "أزيز الرياح يكسر زجاج السكون." وفي قصيدة: "على جرف شاطيء غريب" تنشد: "كيف السبيل إليك وصداك يتناسل داخلي." وفي "أحلام تائهة": "وصدى همسك ما زال ينهال فوق صحراء قلبي." ثم تواصل: "فتتمرد الجراح: لتقذف بي في صميم الزاوية المنسية." وفي "ثورة حواس" تصرخ بأصوات ندية : "والصبح بلا شمس، والشمس تمسح دموعها"، وتعيد الصراخ: "أطلق صرخة تصيب كبد السماء".

يقرأ في تاريخ الشعر الانكليزي أن في أواخر القرن الثامن عشر حطم جيل من الشعراء الشباب قيود الشعر لذلك القرن، وأسسوا بدايات المدرسة الرومانسية في الشعر. عاد هؤلاء الشعراء إلى الطبيعة يحتظنوها بعنف وعبروا عن انطباعاتهم بوصف مشاعرهم الدقيقة ووصفوا الأشياء الصغيرة من حولهم وتحدوا التقاليد الشعرية التي كانت تتجنب ذكر المشاعر الشخصية، التي ندر فيها ذكر ضمير الشخص الأول: "أنا، و نحن".
ومن الواضح في شعر عواطف أنها، كما فعل شلي وكيتس وبايرن، تلتصق بالطبيعة في قصائدها بحاسة رومانسية في ديوان "أتقاطر منك" وقد سمحت لنفسي أن أحصي ضمن أول عشر قصائد فقط منه عدد المرات التي ذكرت فيها الشاعرة مفردات الطبيعة: الأرض (14 مرة) والسماء (9 مرات) والطيور (12 مرة) ثم يتكاثر ذكر كل خصائص الطبيعة الأخرى، فبلغ عدد مرات ما ذكرت منها 159 مرة. أما عن الأفعال بصيغة "أفعل" المتكلم فبلغت 75 مرة: "أريد وأنسى وأبحث وأنثر..." وغيرها، مؤكدة عمق تأثر ذاتها الشخصية بالحدث. كما أضافت إلى نفسها وأجزاء كيانها بصيغة التملك (...ي) 82 مرة، كان أكثرها ذكرا: "ذاكرتي ويدي وقلبي وعروقي ووجعي." وتخاطب المقابل بكاف الإضافة (...ك) عشرون مرة: "منك وعندك ومكانك واسمك وأنفاسك وعيونك وشرايينك وترابك...الخ" فيحس القاريء بوجهة معاناتها ومدى تأثيرها على مجرى حياتها.
أرجو أن لا أكون إحصائيا جامدا في هذه الجانب من دراستي لشعر عواطف، لكنني أريد أن أقول بأنها نجحت في أن "تنثر وتنشر" طوفان مشاعرها وآلامها وتجعل القاريء شريكها حتى لو كان بعيدا. إن الشاعرة احتضنت الطبيعة وما حولها بشكل عنيف عكس مدى معاناتها فجعلت مفرداتها خادمة لغرضها وشريكة لها في معاناتها، فبكي التراب معها، وحزنت الشمس لحزنها، وتألمت الطيور والزهور لآلامها، فانصرفت الفنانة تستحم على شواطيء الحركة الرومانسية العاطفية مكرسة أدواتها ببراعة لغاياتها إلى درجة مؤثرة تدفع من يعرف كيف يقرأ الشعر ليحزن لحزنها، ويتألم لألمها. لقد كسب الشعر الحديث إبداعات رائدة بشعر عواطف، وأرجو المعذرة أن كنت ضعيف التقييم لشعرها، وعذري هو عذرها نفسه من أن أفضل قول هو التعبير الصريح غير المتردد عن الانطباعات المباشرة عما يمر بنا ويحدث لنا.

الدكتور عبد المنعم الناصر
أوكلند آذار 2013



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن