البيض الأمارة - نظرة ثقافية

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
abdelmagid_ismail@yahoo.com

2022 / 9 / 20

هم يتدثرون في ثيابهم البيضاء النواصع ككائنات فضاء ملائكية تطهرية تتهيب من أن تعلق بها ذرة غبار سوداء متطايرة من طين الأرض السمراء تحت أقدامهم؛ يولون البياض رمزية ترفعه إلى مصاف الملائكية والقداسة، والسواد على الوجه النقيض. الله نور، كما يرددون. وربما هم في هيئة المصابيح البيضاء المنيرة تلك ينشدون التشبه بالنور الإلهي. لكنهم هم أنفسهم أيضاً يلبسون نسائهم السواد المطبق لتتحولن إلى خيم سوداء تمشي على قدمين من دون ملمح بشري ظاهر. فبينما هم يبدون في هيئاتهم البيضاء قبضة من نور السماء غير مرئية لمن هم حولهم يمشون فوق تراب الأرض، تبدو نسائهن في هيئاتهن السوداء القح كنتئ من طين الأرض قد لا يميزه المار فيتعثر به. لماذا اختاروا لأنفسهم الأبيض ولكن الأسود لنسائهم؟! ولماذا عالمهم أبيض وأسود فقط إلى حد استبعاد الألوان الأخرى وكأنها غير موجودة رغم وجودها فعلياً؟!

هذه الفئة من المسلمين المتدينين ليسوا وحدهم من يتدثرون باللباس الأبيض لهم والأسود لنسائهم ولا يمكنهم الادعاء بابتكار أو احتكار هذا التقليد. عبر عصور وثقافات شديدة التباعد والتباين سنجد ثوب العروس كذلك أبيض اللون، منذ الأزل حتي اللحظة؛ وثوب الحداد أسود. لكن اللافت في الحالتين أن هذين اللونين في هاتين المناسبتين تحديداً حكر على نساء الأرض وحدهن من دون الرجال. فلا حرج في أن يرتدي الرجل لون آخر في أي من المناسبتين أو كلاهما. ربما الظاهرة أكثر عمقاً مما قد يبدو للوهلة الأولى وأكبر حتى من معتقد جماعة الإسلاميين النورانية المتطهرة.

ربما يعود الأمر ببساطة إلى الظاهرة الفلكية المتمثلة في دورة الأرض حول نفسها دورة كاملة كل 24 ساعة، ليضيء شطرها المواجه لأشعة الشمس نهاراً أبيضاً ويظلم الآخر المحتجب في ليل أسود حالك. وكان عالم الإنسان القديم في الحالتين شديد الاختلاف والتناقض، حيث اليقظة والنشاط والحيوية بمجرد أن تشرق الشمس وتنور الأرض بأشعتها، في مقابل السكون والانزواء والتقيد بمجرد أن تغرب الشمس ويخيم الظلام. من هنا ارتبط الشروق والضياء في مخيلة الإنسان القديم بالحياة، وارتبط الغروب والظلام بالموت والقبر. فوق ذلك، ربط الإنسان القديم بين الشمس وضيائها الأبيض وبين الأرواح الخيرة المحبة له والمعينة له في معاشه ومماته، ليوشحها ويصفها دائماً بالنور والبياض؛ وفي المقابل، خص الشر دائماً باللون الأسود. وهكذا كانت الأرواح والآلهة الشريرة، وكل ساكني العالم السفلي، حتى الأعداء والكارهين من بني جنسه، متشحين دائماً بالسواد. حين نشاهد الدراما التلفزيونية تصور الحقبة الإسلامية الأولى، سنجد الشاشة منقسمة إلى شطرين. في جهة المسلمون الأوائل كلهم يكتسون باللون الأبيض، حتى النساء منهم، وفي الجهة المقابلة المشركون والكفار كلهم متشحون بالأسود، حتى نسائهم. هي رمزية ظاهرة، لكنها بالغة القدم والانتشار، وربما أكثر قدماً من كافة الأديان والثقافات الحية في عالم اليوم.

ليس كل الإسلاميين المتطرفين يلبسون الأبيض. فبينما كان رمزان بارزان- أسامة بن لادن وأيمن الظواهري- يفعلون، سنلاحظ أن أخرون أكثر تطوراً من أمثال أبو بكر البغدادي يتعمدون اختيار اللون الأسود لأنفسهم لباساً. كانت راية الخلافة العباسية سوداء، وكذلك راية الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). لكنهم في الحالتين كانوا لا يخفون أن تعمدهم اللون الأسود راية لهم هو بغرض بث الرعب في قلوب أعدائهم. في قول آخر، هم بذلك يؤكدون اعتقادهم في الشر الكامن في اللون الأسود، ولأنهم في حالة حرب ضد أعداء فإنهم يتعمدون اختيار الراية السوداء لإنذار كل من يعترضهم من شرهم. اللون الأسود هو لون الشر، وهم ينشدون من إشهار هذا الشر المستطير إرهاب أعدائهم. وهم لا يجدون عيباً ولا تناقضاً في ذلك، لأن الشر ضد الأعداء جهاد.

قد يقال أن استمرار هيمنة الثوب الأبيض وسط سكان الجزيرة العربية والإسلاميين المتطرفين في مناطق أخرى حول العالم مرده ببساطة إلى غرض نفعي- أن اللون الأبيض يعكس أشعة الشمس في هذه المنطقة الحارة ويلطف من أثرها الحارق على الجسم. لكن ماذا عن نساء الجزيرة العربية، ألا يحق لهن تلطيف حرارة الشمس عن أجسادهن كذلك؟! قد يقال أن هذا الثياب الأسود يساعد في إخفائهن عن أنظار الذئاب البشرية المفترسة أثناء تنقلهن تحت جنح الليل في الظلام، وربما تكون هذه المنفعة، من وجهة نظرهم، أكبر وأعظم من تلطيف أشعة الشمس الحارقة نهاراً عن جلود أجسادهن الرقيقة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن