صعود اليسار الليبرالي وأفول الماركسي ..قراءة نقدية

لبيب سلطان
labib@solaropia.com

2022 / 9 / 19

يمكن اعتباراليسار، بمفهومه العام،تيارا فكريا يتمثل في مواقف فردية او لحركات ومؤسسات سياسية أوأجتماعية أوفكرية ، في الوقوف الى جانب الحقوق والحريات سواء الشخصية منها ، أو العامة للمجتمع ، وأهمها حرية الفكر والرأي والصحافة والمعتقد ، والحق في المساواة في المواطنة والحق في احترام الخصوصية والكرامة الأنسانية والحق في العيش حياة كريمة. فالموقف اليساري هو الوقوف الى جانب الحقوق والحريات للمواطن وللمجتمع ورفض الديكتاتوريات والتمييز وانتهاك الحقوق والحريات من اية سلطة كانت.
لقد تنوع الفكر الأنساني وعلى مدى التاريخ بمدارسه ومذاهبه ومحاوره، الا انه بدأ التركيزعلى الحقوق والحريات منذ عصر التنويرفي اوروبا ومنذ القرن السابع عشر ، بدأها في دعوته لتحرير العقل ووضع الدين داخل المعبد وليس خارجه ، وانهاء حكم وتحكم السلطة على مواطنيها بصورة مطلقة، و قوّضت أفكار عصر التنويرتدريجيا السلطات الملكية المطلقة وسلطة الكنيسة في اوروبا معا، ومهدت الطريق أمام الثورات الفكرية والسياسية الأصلاحية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي ادت الى نشوء قيم ونظم الحقوق والحريات ، أو ماندعوه اليوم بالليبرالية . انها نمت كتيار فكري واجتماعي وسياسي يضع الأنسان وحقوقه وحرياته وكرامته اساسا لمنهج عمل الدولة والسلطات والتي حولها الى نظم ديمقراطية دستورية انتخابية مقيدة بمبادئ تحقيق المساواة في المواطنة و ضمان الحريات الفردية والعامة، وفصل السلطات وانتخاب الشعب لممثليه لتشريع قوانينه واقامة حكومات لأدارة خدماته وتنمية رفاهه. ان الليبرالية السياسية نشأت على اعتاب مائتي عام من النضال التنويري الفكري والأجتماعي والسياسي لترسيخ مفهوم الأنسان المواطن الفرد وحقوقه وحرياته كأساس لأنظمة الحكم وأدارة المجتمعات ، وشكلت محور الصراع الأساس نحو تغيير شكل ووظائف ممارسة السلطة والدولة لتكون في خدمة المواطن فقط ، لا لحكمه او قهره اوالتحكم بمصيره.
واتت انتصارات الليبرالية السياسية والأجتماعية تباعا وبصورة تدريجية وتراكمية ومتوازية مع تطورالمعرفة والعلوم و التعليم والنشاط الأقتصادي ومنها تمكن الأنسان من استخدام العلوم في تطويرمصادر الثروة من خلال التصنيع و الأنتاج والخدمات والسير بالتطور الحضاري والأقتصادي المضطرد للمجتمعات التي باتت تحكمها انظمة تنتخبها وتقيدها على اسس احترام حقوق وحريات المواطنة ، وتحقيق الرفاه العام والعدالة الأجتماعية كأهم اسس وواجبات الحكومة والسلطة التي ينتخبها الشعب. فالليبرالية في الواقع هي نتاج عصر النهضة والتنوير وتعود بأصولها الفكرية إلى التراكم الفكري والسياسي والأجتماعي الذي بدء بدء منذ عصر التنوير الذي بدء بالتركيز على سيادة العقل والدليل التجريبي بوصفهما مصدرًا أساسيًا للمعرفة، وعلى المثل العليا كالحرية والرقي والتسامح والإخاء والحكومة الدستورية وفصل الدين عن الدولة والأعتراف بالحريات الفردية والأجتماعية واشاعة التسامح الديني والوقوف ضد السلطان المطلق والعقائد الدينية الثابتة والوضعية المؤدلجة التي تفرض على الفرد وعلى المجتمع . ولعل اهم قضية تواجهها الليبرالية هو الوقوف بوجه الديكتاتوريات التي تقوم على اساس قومي او ديني او ايديولوجي ، فهي تدافع عن الحقوق والحريات الفردية ، ومن هنا يساريتها ، فهي تنطلق حماية الحقوق والحريات التي تعمل هذه الديكتاتوريات على الغائها بانظمة القهر والتحكم والتسلط. فهي يسارية التوجه كونها تقف ضد التسلط ،على الفرد أوعلى المجتمع، وبكل اشكاله الديني او العنصري او القومي أو الأيديولوجي الفكري ، انها حصيلة قرنين من التطور الفكري والحضاري الأصلاحي لأنظمة الحكم بوضعها الحقوق والحريات اساسا للحكم وادارة المجتمعات.
اتت الماركسية كمكمل لليبرالية في منتصف القرن التاسع عشر بدعوتها لأضافة الحق في العدالة الأجتماعية ، والماركسية كفلسفة اقتصادية دعت للعدالة الأجتماعية وطرحت مبادئ الأشتراكية لأنهاء التفاوت الطبقي في المجتمعات الصناعية ودعت الى الغاء تركيز الثروة بيد الصناعيين والرأسماليين واعادة توزيعها الأجتماعي لصالح الطبقة العاملة التي كان ماركس يعتبرها القوة المنتجة للثروات في دورة الأنتاج الصناعي في القرن التاسع عشر(أي قبل الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين، والتي اصبحت التكنولوجيا تساهم بشكل اكبر في العملية الأنتاجية وفي خلق الثروات في المجتمع ). فالماركسية هي فكر يساري يقف الى جانب حق المساواة بين المواطنين اقتصاديا وهو حق يدخل ضمن الحقوق العامة في مفهوم المساواة التي نادت بها الثورة الفرنسية والليبرالية ، ومنه يمكن تحديد نقطة لقاءهما باعتبار ان الليبرالية التي تسعى لتوسيع الحقوق الفردية والأجتماعية والسياسية للمواطنين ، تضيف لها الماركسية ، الحقوق الأقتصادية لتحقيق العدالة الأجتماعية.
هكذا كان فهم الحركات والأحزاب الأشتراكية الديمقراطية الماركسية التي قامت مطلع القرن العشرين لتتبنى تحقيق العدالة الأجتماعية الأقتصادية من خلال المؤسسات والنظم التي انجزتها الليبرالية على مدى مائة عام منذ الثورة الفرنسية واهمها اقامة حكومات ديمقراطية تنتخب من الشعب مقيدة بدساتير وقوانين تضمن الحريات الفردية والعامة للمواطنين، وتعمل على خدمة مواطنيها وليس لحكمهم. ونجحت الأحزاب الأشتراكية الديمقراطية ( التي هي ماركسية ليبرالية ) في بلدان اوربا الصناعية في الوصول للسلطة من خلال البرلمان وادخلت فرض ضرائب باهضة على الرأسمال والشركات لتعيد توظيفها في خدمات اجتماعية في تطوير التعليم والسكن وتمويل الضمان الصحي والأجتماعي والأقتصادي للعاملين، أي تحقيق برامج للعدالة الأجتماعية ضمن نظم ديمقراطية ليبرالية تضمن الحقوق والحريات في ادارة الدولة والسلطة والمجتمع.
تاريخيا نشأت منطقة الخلاف بين الليبرالية والماركسية في فترة لاحقة عند تبني بعض الأحزاب الماركسية المتطرفة النهج الأنقلابي للوصول الى السلطة لتحقيق الأشتراكية، والتي تحولت الى تسميتها الى الأحزاب الشيوعية بعد انتصار ثورة اكتوبر في روسيا عام 1917، لتمييزها عن الأحزاب الأشتراكية الليبرالية التوجه. وبأسم تحقيق الأشتراكية و العدالة الأجتماعية قامت بالغاء النظم البرلمانية التعددية وأقامت بديلا نظام الحزب الواحد، والغت الحريات الشخصية والعامة مثل حرية الفكر والرأي والصحافة، وأحلت محلها المجتمع المؤدلج ذو الفكر الواحد، وحولت الماركسية من فكريدعو للعدالة الأقتصادية ، الى فكر يغطي كل مناحي وتناجي الأنسان والمجتمعات سواء في الفن والفكر والثقافة والعلاقات العامة ، تماما كالفكر الديني في المجتمعات الدينية المتزمتة تاريخيا ، حيث لاتسمح لأي فكر خارج منظومة التدين وتعتبره بدعا من أعداء الدين تمهيدا لقمعه. لقد رافق تطبيق الماركسية المتطرفة انشاء انظمة في النصف الثاني من القرن العشرين في تسعة بلدان اوربية واخرى في جنوب شرق اسيا والصين مارست جميعها القهر المجتمعي والعنف والتصفية لفرض سيطرتها وافكارحكامها والغت كافة اشكال الحريات شأنها كبقية الأنظمة الديكتاتورية القومية او الدينية التي شهدها العالم سابقا، وبه بدء افول الماركسية من فكر انساني يساري يدعو للعدالة الأجتماعية الى فكر لأدلجة المجتمع واقامة نظم ديكتاتورية الغت التعددية الفكرية والحريات العامة والخاصة، وبها بدأت الماركسية بالتراجع تدريجيا وانتهت عدم التقبل لدى الشعوب والمجتمعات التي تحرص على حقوقها وحرياتها ، ووصلت الماركسية اليوم لمرحلة شبه الأنقراض الفكري. ربما كان تطبيقها القسري سببا او تطرف الماركسيين بالغاء نظم الحقوق والحريات في المجتمعات التي حكموها، او ربما لسوء حظ الماركسية انها طبقت في بلدان كانت غير مهيأة حضاريا لتقبل الليبرالية وعلى يد قادة خارج فهم الحقوق والحريات ، كما يرى الكثير من النقاد .
ان الدرس الذي يمكن استخلاصه واستخلصته الشعوب والمجتمعات من افول الماركسية اليوم ان اي اصلاح اجتماعي لا يأتي من عملية تراكمية بل من خلال عمل انقلابي والغائي يؤدي لعكس مفعوله، والأصلاح في المجتمع يجب ان يقام على اساس صلب من تثبيت الحقوق والحريات الفردية والأجتماعية العامة في المجتمع ليقام عليه الأصلاح القادم ، وهو المنهج الذي تسيرعليه اليوم انظمة الحكم الليبرالية ، فهي تأتي بحكومات خدمية للمواطن وليس لحكمه وفق اهواء حكامها وأحزابهم وايديولوجياتهم ذات البعد الواحد تحت يافطات كانت دينية او قومية او ماركسية، فعهد الديكتاتوريات قد ولى ، وتعلمت الشعوب ان حرياتها وحقوقها الأساسية هي الأساس الذي تبني عليه مستقبلها واصلاح نظم حكمها لتقيم نظما ليبرالية تحترم مواطنها وتعمل على تلبية حقوقه وتطلعاته.
ان الماركسية رغم افولها تبقى فكرا انسانيا للعدالة الأجتماعيىة ولكن التجربة التاريخية اثبتت انها غير قابلة للتطبيق خارج الأنظمة الليبرالية وليست من خلال الأنظمة الديكتاتورية التي شهدها العالم . ووصل الحال اليوم لو قلت إنك يساري فيفهم السامع انك ليبرالي متفتح (اي لست قوميا يمينيا اودينيا متزمتا ) ، ولكنك لو قلت انك ماركسي فيفهم منه انك يساري متطرف لاتعترف بالديمقراطية والحريات ومؤدلج جامد لم تتعلم من تجارب ستالين وماو وبول بوت وتشاجيسكو وشي جين بنغ وكيم ايل سونغ الحفيد ،وهذا بالطبع ليس منصفا للماركسية كفكر ولكنه ايضا واقعا لايمكن انكاره، فالعالم يرى مستقبله في الليبرالية لمواجهة الديكتاتوريات القومية والدينية ولمواجهة التسلط بكل اشكاله ولتحسين ظروف عيشه واصلاح نظام حكمه، وليس في الماركسية.
د. لبيب سلطان



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن