مطارحات غرامشية (1) الدور التقليدي للمثقف العضوي

ثامر عباس
thamir_abbas@yahoo.com

2022 / 9 / 16

ليس من قبيل الاكتشاف القول إن فكريات الفيلسوف الايطالي الماركسي (أنطونيو غرامشي) استدعت ، منذ لحظة صدورها ولحد كتابة هذه السطور ، الكثير من النقاشات وأثارت العديد من الجدالات التي لم تكن تخلو من مظاهر التعصب أو التطرف في بعض الأحيان ، وذلك ليس فقط على صعيد الواقعين المحلي / الايطالي والإقليمي / الأوروبي فحسب ، وإنما على مستوى العالم بشرقه وبغربه بشماله وجنوبه كذلك . ذلك لأن مضامين تلك الفكريات تجرأت – وللمرة الأولى - على زحزحة التصورات وخلخلت اليقينيات وفكفكت الأفهومات ، لأشهر منظومة فكرية وفلسفية كانت سائدة في ذلك العصر ألا وهي (الماركسية) . ولهذا فقد وصف الفيلسوف الايطالي (كروتشي) إن غرامشي هو من (( أعظم مفكري أوروبا في هذا الوقت )) .
والحال ليست فقط تلك (الجرأة) العقلية و(المقدرة) المعرفية التي تمتع بها غرامشي ، هي ما أسبغ على أفكاره وطروحاته المستحدثة في حينها ذلك الصيت من الشهرة وذاك المدى من الانتشار فحسب ، وإنما لكونها صدرت من داخل تلك المنظومة التي ظن أنها محكمة الصياغة ومتينة البنيان ليس ميسورا"لأي كان نقد مقولاتها أو التشكيك في استنتاجاتها ، فضلا"عن أن من قام بهذه البادرة / المغامرة هو أحد أبرز قادتها السياسيين وألمع منظريها الإيديولوجيين كذلك . وهو الأمر الذي خلق له (غرامشي) الكثير من الخصوم والمناوئين سواء من داخل الحركة الشيوعية أو من خارجها ، دون أن يحظى بقدر مماثل من المساندين لطروحاته والمؤيدين لتوجهاته ، بحيث تسببت له تلك الأنشطة الخطرة والمواقف المتطرفة العديد من المشاكل السياسية المتراكمة والمعاناة النفسية المتفاقمة ، والتي لم يبرأ من عواقبها أو ينجو من تداعياتها حتى لحظة وفاته في سجون الفاشية الايطالية .
ولعل من أبرز تلك الابتكارات المفاهيمية ، والاستنباطات الابستمولوجية ، والتحليلات السوسيولوجية التي اجترحها غرامشي ، يمكن عدّ مفاهيم (المثقف العضوي) ونظيره (المثقف التقليدي) أكثرها شهرة في مجال الايديولوجيا وأشدها جاذبية في مجال السوسيولوجيا ، نظرا" لكونها سمحت للعوامل الجغرافية والثقافية والنفسية أن تكون موازية في الأهمية ، مقارنة بدور العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشكيل البنى وتكوين الظواهر . ولكن بقدر ما أفضت تلك المفاهيم إلى تعميق معارفنا وتوسيع مداركنا لجدليات وديناميات تلك البنى والظواهر ، بقدر ما تسببت في ارتكابنا العديد من الإخفاقات ليس فقط في تحديد ماهية (المثقف) فحسب ، وإنما في التباس دور ووظيفة هذا الأخير وفقا"لأنماط تصنيفه بين (العضوية) و(التقليدية) كذلك .
وبما أن المثقفون العضويين – كما لاحظ الباحث المتخصص في حياة غرامشي وأعماله (جون كاميت) – (( الذين هم جزء من طبقة مسيطرة ، يقدمون الأشخاص اللازمين لأجهزة الإكراه في المجتمع السياسي )) ، فان ذلك كفيل بتغيير دورهم واستبدال وظيفتهم ونزع صفتهم (العضوية) وترشيحهم ، من ثم ، لاكتساب صفة (التقليدية) . أي بمعنى أن المثقف (العضوي) حين يقوم بدوره (الطبقي) ويمارس وظيفته (الإيديولوجية) ، سيكون مضطرا"إلى مراعاة مصالح الجماعة التي ينتمي إليها ويمثل توجهاتها ويحمل رسالتها ، بصرف النظر عن طبيعة الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تبشر بها تلك الجماعة ، حتى ولو كان هذا الموقف (الدفاعي) لا يمثل أو لا ينسجم مع مصالح الجماعات الأخرى في المجتمع .
ولأن دور المثقف (العضوي) – كما تنص أطروحة غرامنشي - ينصب على تمثيل مصالح الجماعة (المسيطرة) سياسيا"والمهيمنة (إيديولوجيا") ، الأمر الذي يترتب عليه استنفار طاقاته المادية وتعبئة قدراته الذهنية ، ليس فقط لتبرير مواقف جماعته وتسويغ تصوراتها وشرعنة سياساتها فحسب ، وإنما الحيلولة دون حصول تغييرات بنيوية تمس موقعها الاجتماعي ، وتهدد مصالحها الاقتصادية ، وتعرض دورها التاريخي للخطر . من هنا تشرع بدايات انسلاخه عن (عضويته) وتمظهر استحالته إلى مثقف (تقليدي) ، من حيث كونه أصبح مدافعا"عن ثبات الأوضاع الاجتماعية واستقرار النظام السياسي وداعية للهيمنة الإيديولوجية .
والمفارقة إن هذا التحول / الانقلاب (الكيفي) في الدور والوظيفة ، لا يشترط بالمثقف (العضوي) أن يكون (واعيا") به أو مخططا"له ، وإنما يحدث الأمر تلقائيا"ودونما شعور مسبق ، لاسيما وان الصلة أو العلاقة ما بين المثقف (العضوي) ونظيره (التقليدي) لم تنقطع تماما"كما أكد على ذلك غرامشي . ولهذا فإن صفة (العضوية) تحتم على المثقف الأول أن يكون ، ليس فقط مدافعا"عن مختلف الممارسات الخشنة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لجماعته فحسب ، وإنما لإنجاح شتى محاولات الهيمنة الناعمة (الإيديولوجية والسيكولوجية والبيداغوجية) كذلك على بقية الجماعات الأخرى ، سواء تلك المشاركة لجماعته في الاستحواذ على السلطة أو تلك المقصية عنها في المعارضة ، ناهيك عن السعي لاستمالة بقايا المثقفين (التقليديين) الذين يسميهم غرامشي (حطام الطبقات) المهزومة تاريخيا".
ولعل سؤال يطرح نفسه ؛ إذا كان احتمال فقدان المثقف (العضوي) لصفته هذه قائما ، فهل يا ترى توقع احتمال أن يكتسب نظيره التقليدي صفة (العضوية) ، وعلى أي أساس ؟! . هذا ما سنعرف الجواب عنه في الموضوع القادم .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن