-يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ-

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2022 / 9 / 15

هذا الخبر كما ورد في سورة الصافات كجزء من نص حواري دار بين إبراهيم ونجله الأكبر دون تحديد اسم أو صفة له، غير أننا من سياق الترتيب القصصي في القرأن نستوضح أن المقصود بهذا الكلام هو إسماعيل، أول بشارة إبراهيم من ربه بعد أن بلغ من العمر عتيا وصارت زوجه عاقرا ليست من ذوات الأمل في الحمل والولادة، النص وما قبله أيضا وخلافا للتوراة لم يحدد عمر الأبن لا بالسنين ولا بالترتيب الذي تصر عليه التوراة أنه أسحق وليس إسماعيل، معللة ذلك بأنه وحسب الرواية التوراتية عندما عزم إبراهيم أن ينحر ولده عند المحرقة بناء على طلب الرب منه «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ" (سفر التكوين 22)، كانت معه زوجته سارة، وبحسب الرواية التوراتية ومنها أنتقلت إلى الإنجيل فإسحق هو الولد الوحيد لسارة وليس لإبراهيم بأعتبار إن إسماعيل ابن هاجر العبدة ولا يعتبر إبنا لها أو له.
وكما قلنا بأن عدم التسمية واضح في النص القرآني على العكس من النص التوراتي المحدد بالاسم والصفة وحيدك وأسحق، مما يعني شيئا واحدا هو أن الإصرار على ذكر الاسم والصفة معا جاء أما لقطع الشك باليقين أو هناك قضية أخرى يراد لها أن تحضر، فقد ورد عن عيسى ع قولين يناقضان قول التوراة ويضعان الاسم والصفة محل شك كبير لا بقوم له تبرير ولا تعليل، الأول قوله مخاطبا بني إسرائيل (قال لهم يسوعُ : أما قرأتم في الكتب: الحجر الذي رفضهُ البناؤون هو قد صار رأس الزواية من قِبَل الرب لذلك أقولُ لكم: إن ملكوت الله يُنزعُ منكم ويُعطى لأمةٍ تعملُ ثمارهُ) إنجيل متى 21: 42، السؤال هنا عن أمرين الأول ما هو الحجر الذي رفضه البناؤون هل هو حجر سارة لأبنها إسماعيل؟ بأعتبار أن بني إسرائيل وقبل أن توجد اليهودية في عهد موسى كانوا يميلون لأسحق جدهم الأعلى كما يزعمون، بأعتبارهم أبناء بعقوب وهم ليسوا أبناء يعقوب بالتأكيد ولكنهم أولاد أسحق من فرع أخر.
فعداوتهم التقليدية لإسماعيل وأبناءه جعلتهم يتخذون هذا الموقف وهم يعلمون علم اليفين أن ملكوت الله ليس فيهم وإنما في يعقوب وفي ذرية إسماعيل، لذا أخترعوا قصة الجارية هاجر وما تفرع منها وعنها من نفس حاسد وعنصري يفرق بين الأخوة الأشقاء، نعود للسؤال الثاني ما هو ملكوت الله؟ الجواب في الفكر التوراتي كما نقرأ لا نجد لهذا المصطلح وجودا إلا متأخرا إلى زمن الدولة الإسرائلية أو مملكة إسرائيل الأولى وتوجه أنظار بني إسرائيل إلى حدود أملاك ما يسمونهم الوثنيين، بأعتبار أن الله وعدهم بها وسلطهم عليه ليكون كل شيء مباحا لهم بموجب وعد الرب، فملكوت الله هو كل ما يمكن أن يعتبره الإسرائيليون ملكا من الله متاحا ومباحا لهم، فهم يربطون الملكية الأرضية بالمذهب المادي لهم دون غيره، لذا فقول عيسى الوارد أنفا أو ما يزعم أنه قاله أما أنه يخالف عقيدة بني إسرائيل في الملكوت حيث أن مفهوم الملكوت في الكلام أعلاه يتعدى حدود المكان، أو أنه يشير لقضية التحكم والسلطة والجبروت الرباني أو المنسوب للرب بخلاصة النبوة، فالملكوت إذا كما ورد في حديث عيسى مخاطبا بني إسرائيل بعد أن تغلبوا على اليهودية اليعقوبية وجيروها لأنفسهم بأن النبوة ستنتزع منكم إلى الحجر الأخر، إلى الفرع الثاني من السلالة الإبراهيمية إسماعيل من سارة.
أما معنى الملكوت في الفكر الإسلامي والمستمد من قراءة أصولية للنص فهي تتجاوز كل الدلالات المعنوية والقصدية عند التوراتيين وأصحاب الإنجيل، أولا من ناحية اللغة الدلالة تعني "المُلْك والمالك، وهو الله عز وجل وحسب ابن منظور في كتابه لسان العرب، هو مُلك الله وملكوته: أي سلطانه وعظمته، وكلمة ملكوت صيغة مبالغة من المُلك" مثلها مثل الكثير من المصطلحات التي جاءت في صيغة المبالغة المطلقة كجبر ومنها جبروت وما يخص الإله وهو اللاهوت، وايضا أطلق على الرجل الطويل طالوت وشبيها منها الجوال الذي لا يتوقف جالوت، والملكوت إذا بهذا المعنى ورد في النص القرآني ﴿ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ يَرد في سياق حديثِ إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ الأنعام: 74، وفي نص أخر من عديد من النصوص (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، كلها تشير إلى معنى القدرة المطلقة لله في تيسير وتسير عمل الوجود وقوانينه، ولا تعني المكان ولا الزمان وحدهما، فالملكوت هو عرض للقدرة الربانية من غير حدود ممكنة أو متوقعة.
نعود للنص الذي قدمناه منسوبا للسيد المسيح حينما أخبر بني إسرائيل بزوال الملكوت عنهم، فهو يتحدث حسب ما أورده كاتبه أو ناقله وفقا للمعنى السائد عندهم، فهو يبشر بزوال حكم وسلطة ومقدرة بني إسرائيل الواقعية والفعلية التي كانوا عليها، وأنتقالها من الحجر الذي كانوا يرونه الأصلح والأحق إلى الحجر الذي أنكروه وغيروه والسبب أن الحجر الثاني هو من يعمل لأن يتاج الملكوت ثماره، فالقضية هي ربط الملكوت بالحجر الذي يعني الفره الأخر من سلالة إبراهيم، كما أن هناك ملاحظة لم ندرجها في أول الكلام وهي جزء من الوضع والمغالطات التي وردت في أساسيات النسب الإبراهيمي في التوراة، هو أن أسحق ليس وحيد إبراهيم مطلقا والله يعرف ذلك، فلو كان الله فعلا يعتبر كما يعتبر الإسرائيليون المحرفون أن إسماعيل ليس أبنا لإبراهيم لما ورد في نصوصهم (وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا. اثني عشر رئيسا يلد، وأجعله أمة كبيرة) سفر التكوين 17: 20.
فالتوراة لا تنكر إسماعيل أنه ابن إبراهيم ولا أحد يستطيع أن بقول خلاف ذلك، وبالتالي فقول إبراهيم المزعوم على لسان التوراة فيما يخص أسحق هو قوله لإسماعيل حيث تشير الأحداث التاريخية أن الفارق الزمني بيم إسماعيل ولإسحق هو بيم عشرة إلى ستة عشر عاما، بتعبير القرآن لما بلغ معه السعي، والسعي في لغة العرب طلب العمل والسعي له، في هذا الوقت لم يكن إسحق قد ولد بعد والمفترض وحسب الوقائع الفعلية أن إسماعيل كان وحيده (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) لتستمر الحكاية حتى يرى في المنام القصة التي حدثها لأبنه وليس كلاما مباشرا ولا حتى خطاب وحي، إنها رؤية مناميه فسرها إبراهيم على أنها أمر وشاور بها فتاه الحليم (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)، الفتى الحليم أجاب أبيه وفق ما يرى (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
كل هذه الوقائع جرت وإسحق لم يولد ولم يكن له حضور في النص القرآني، إنما ورد النص بالحكاية إنما الهدف منها ترتيب أحكام تتعلق بالإيمان بالله وأسسه ولا تتعلق بأحكام وقوانين وضعية، فمثلا (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) كان جواب الله لهما أو تحديد لإبراهيم (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، هنا نتساءل عن ورود كلمة المحسنين تحديدا ولماذا لم يقل مثلا المصدقين أو المؤمنين، الإحسان هنا يرد على معنيين قبلي وبعدي، فالقبلي أن إبراهيم بتنفيذه الرؤيا وتصديقها أحسن لنفسه مع عظيم التضحية بالأبن الذي من الله به عليه بعد البأس وتشتت الأمل، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، أما في المعنى البعدي فالله مقابل إحسان إبراهيم سيضاعف له الإحسان بما لا يصدق عقل أحد مبتدئا أولا (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، هذا ليس إحسانا منفردا من سلسلة، بل تبعه الكثير ومنه (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ* سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ).
لم تتوقف سلسلة الإحسان الرباني على إبراهيم نتيجة ما صدق وعزم على تنفيذ ما رأى، فقد منه الله عليه بالتكريم والإحسان المضاعف (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، ويعلل النص هذا الإحسان المتتالي بقوله (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) هنا ربط النص حسن الإحسان بحسن العبادة والجزاء الدنيوي قبل الأخروي، فجاء الجواب الذي ينفي رواية التوراة جملة وتفصيلا (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)، إذا أن ولادة إسحق كان من نتائج فعل الرؤيا ولم يكن من قبله، ولم يكن وحيده الذي زعمته التوراة وسار على نهجها كتاب وفكر الأناجيل المحرفة والمكتوبة المنسوبة لعيسى بعده، من ملخص الآية إذا نستشف ونتأكد أن من كان المعبر عنه بالذبيح هو إسماعيل الذي باركه الله كما بارك إسحق وكلاهما جعلناه نبيا (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ).
المستفاد من النص محكم وليس كخبر يتضمن نقاط عدة منها تصحيح فكرة فاسدة ومحرفة دون أستخدام أسلوب النفي المباشر، معتمدا على عرض الحدث كما هو ليستطيع القارئ والمطلع والدارس من أن يجد الحقيقية من بيانات النص، النقطة الأخرى تتعلق بطبيعة التعامل الصادق والمصدق لجوهر الإيمان بالله على أن الله لا بد أن يتدخل لمصلحة الإنسان بالشكل الإيجابي حينما يكون التوجه جاد ومخلص له، فيزيد من إحسانه للمحسنين ويضاعف لهم الأجر ويعطي حتى الغير متوقع تأكيدا على القدرة والفعل بلا حد ولكن ضمن الناموس والسنن الربانية، الأمر الثالث هو تفاعل إسماعيل مع الحدث كان تفاعلا إيجابيا فلم يقل إلا كلمة في غاية التعبير الدلالي للتسليم لأمر الله (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) وهو يعلم أن الصبر على أمر الله يعني في أضعف الأحتمالات النجاة من موضع التهلكة (وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).
يبقى أمر مهم متعلق بالحياة اليومية للإنسان وكيفية التعامل مع مفردات متداولة قد تشكل في أجزاء منها قضية مصيرية، فمثلا ما قيمة الرؤيا بأعتبارها كحكم رباني يجب التعامل به كنوع من الإيحاء أو التنبيه لفعل أو أمتناع عن فعل، هذا الموضوع شكل مساحة واسعة من الجدال بين أصحاب العقائد والمتكلمين والفقهاء والفلاسفة المسلمين وغيرهم، ولم يتفق على معيار نهائي على الأخذ أو عدم الأخذ بأتجاه محدد، لكن المنطق العقلي يقول أنه لا بد من التفريق بين الرؤيا الواضحة الصريحة بالدلالات والمقاصد وطبيعة الرائي وإخلاصه وإيمانه وصدق معتقده، وبين الأحلام التي نراها جميعا دون تحديد أو شرط مسبق، فالرؤيا الصالحة كما يقولون جزء من أربعين جزء من الوحي أو النبوة، وبالتالي فليس من المؤكد دوما أنها حكم بمنزلة الإيحاء حتى تثبت دلائل ووقائه الحدث لذلك، مع التسليم مقدما أن كل ما يمكن أن يحتاجه المؤمن موجود حكمه ودليله في كتاب الله الذي لم يترك شيئا إلا وذكره.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن