الإسلام السياسي والاستعمار، مشروع واحد.

عزالدين بوغانمي
Ezdine.bough@gmail.com

2022 / 8 / 6

لا يوجد فارق نوعيّ بين الاحتلال الأجنبي، وتمكّن جماعات الإسلام السياسي من الدولة والمجتمع.

يتجاهل رموز الطابور الخامس حقيقة حركة النهضة. وأحيانا يُصنّفونها على أنها جزء من الديمقراطية. بل يحاولون إقناع التوانسة بأن مشروع الديمقراطية غير ممكن دون هذه الحركة.

ونحن، على خلاف جوهري مع هؤلاء، نرى أن كل جماعات الإسلام السياسي الإخوانية والوهابية، تتّفق في التّأويل الأسوأ على الإطلاق لمفهوم "الجهاد"، انطلاقا من استنباط محمد بن عبد الوهاب لنواقض الإسلام العشرة، من خلال فهمه لفكرة الجهاد عند بن تيميّة، وانطلاقا من تفسير أبو الأعلى المودودي لمحمد بن عبد الوهاب وتأكيده على الحاكمية. ثمّ حُسِم موضوع التكفير والقتل في كتاب السيد قطب "معالم في الطريق". هذا الكتاب المكتوب بأسلوب متين ولغة مثيرة، يمثّل الأساس التّبريري للإرهاب في العصر الحديث. ففي مقدمة طويلة يعتبر أن الغرب الفارغ من القيم فشل في قيادة الحضارة الإنساية، والإسلام هو الوحيد المُرشّح لهذه المهمة. وفي الفصل الأول يتحدث عن ضرورة إحياء جيل الصحابة كجيل قرآني فريد، بتأسيس الجماعة. والفصل الثاني خصّصه لضرورة التزام المسلمين بالمنهج القرآني. ويختم بفصل نشأة المجتمع المسلم.
وإذ نقول هذا الكلام، لسنا في وارد اتهام حركة النهضة اتهاما مجانيا. بل من منطلق المعرفة الدقيقة بالأسس التي قامت عليها هذه الحركة، وشكلت معالمها، وحددت، ولا تزال تحدد فهمها للإسلام، وغاياتها وسياساتها تجاه التوانسة وتجاه الدولة التونسية. "معالم في الطريق"، هو المرجع الرئيسي لراشد الغنوشى. وقد أكد السيد قطب في هذا الكتاب على أن الحاكمية أصل من أصول الدين، وعلى بلورة فكرة الجماعة المقاتلة ومواجهة جاهلية القرن العشرين. ولذلك اشتركت جميع هذه الحركات في الأركان التكفيرية التالية:
1/ الجاهلية في القرن العشرين، وهذا ما برّر اعتناق فكرة الجهاد عند الإخوان المسلمين وما حولهم من جماعات.
2/ الحاكمية أصل من أصول الدين. وهذا أساس تكفير الحكام ومن والاهم واشتغل في مؤساتهم.
3/ لا بدّ من طائفة تُقاتل وعُصبة من المؤمنين تمثل فرض الشّوكة. وهذا مُقتضى وُجود جهاز سرّي خاص بالجماعة.
4/ لابدّ من هدم المجتمع. وهذا ما يُفسّر تخريب الدولة وتخريب القيم والرموز الثقافية والدينية، بما في ذلك أضرحة الصوفية والأولياء الصالحين، وأعلام البلاد.
5/ الجماعة هي الأُمّة، ولو كانت فردًا واحدا، لأنّ الجماعة هي نواة الأمّة.

هذه هي الأسس النظرية الصلبة لفلسفة جميع حركات الإسلام السياسي بلا استثناء، ومنها حركة النهضة، التي تتظاهر بكونها "ديمقراطية وتونسية ومدينة..." وقد تختلف هذه الحركات فيما بينها حول بعض القضايا الفرعية، ولكن المختصين في دراسة الجماعات التكفيرية، يعرفون جيدا أن هذه الأركان هي القاسم المشترك بينها جميعا.
والحقيقة أن كتاب "إدارة التوحش" لصاحبه المُكنّى ب"أبي بكر ناجي"، والذي أردتُ الإضاءة عليه في هذه الورقة، هو مجرّد نقل لهذه الأركان التي ثبّتها السيد قطب، ونقلها من حيّز النظري إلى سلسلة من الخطط الحربية التفصيلية، التي تشمل مجالات القتل والترويع ونشر الرعب وهدم المؤسسات والدعاية والإعلام والمال والتجارة ... الخ. ويمكن وصفه ب"ما العمل؟" بالمصطلح اللنيني. ففي بابه الأول يُعرّف الكتاب معنى إدارة التوحش. وفي الثاني يتحدّث عن طريق التمكين. وفي الباب الثالث يشرح أهم القواعد والسياسات التي تُيَسِّرُ للتنظيم عمله، ويركز على الإدارة العسكرية، واتخاذ القرارات. وفي المبحث الرابع يتكلم عن أهم المشاكل والعوائق التي يمكن أن تعترض الجماعة..
باختصار هذا الكتاب يمثل الرّؤية الجيوسياسية للتيار الجهادي الذي اعتمد عليه تنظيم القاعدة ومن بعده تنظيم "داعش" علنًا، وتعتمد عليه حركة النهضة أيضا، ولكن بشكل سرّي ما دامت بلغت مرحلة التمكين دون قتال. فمن حيث العمق والاتجاه العام، كتاب "إدارة التوحش" لو حذفنا منه التفاصيل والمستجدات، لحصلنا على نسخة من "معالم في الطريق". يقول مؤلف الكتاب ابو بكر ناجي: "إدارة التوحش هي السيطرة في المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة، وتُعد أخطر مرحلة. فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة - بإذن الله - هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة. وإذا أخفقنا -أعاذنا الله من ذلك- لا يعني ذلك انتهاء الأمر ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش".
إنه كتاب تكفير آخر. تكفير الأنظمة الحاكمة والحكومات ورجال الأمن. بل وحتى المدنيين الموالين لهذه الحكومات. فهم أيضا كَفَرَة في نظر هؤلاء الناس. وأنا شخصيا لم يُفاجئني وصف راشد الغنّوشي لرجال الأمن بالطواغيت، أو اعتباره "الجيش غير مضمون"، فهذا الرّجل وفيّ لهذه الأفكار.

ينقل الكتاب الصورة التي يجب أن يكون عليها العالم. وهي تلك التي عاشتها المنطقة في السنوات الماضية. وما زلنا نشهد نتائج ويلاتها، ونتجرّع مرارتها في سوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس، حيث اشتعلت الحرائق في كل مكان. وتتطايرت جُثث الأبرياء. وسالت أنهار من الدماء، من إدلب في الشام إلى شارع محمد الخامس في تونس العاصمة. ولعل الشعار الذي يرفعه الكتاب، هو نفسه الذي رفعه الإخوان في الخمسينات: (الدّم الدّم الهدم الهدم) ...وهو نفس الشعار الذي كثيرا ما ردده أسامة بن لادن في تسجيلاته الموجهة الى "أعداء الله". وفي سياق حديثه عن سرّ قوّة الجماعات التكفيرية، جاء في كتاب إدارة التوحش: "ففي وجود موالاة إيمانية بين كل هذه المجموعات تتمثل في عقد مكتوب بالدماء أهم بنوده (الدم الدم والهدم الهدم) تتحقق شوكة كبرى يعجز العدو عن مواجهتها". ويظيف "أي فرد أو مجموعة أو جماعة ثبت لها حكم الإسلام. ودخلت في الجهاد. وتبادلت معنا الولاء على أساس (الدم الدم والهدم الهدم)، فهي جزء من الحركة المجاهدة حتى لو خالفت المنهج الصواب في أمور علمية أو عملية ما دام اجتهادًا لا تعمُّدا.."
إذن هذا الشعار هو المنطلق والوسيلة التي لا بديل عنها في هذه المرحلة الّتي تتطلب من يديرها. تلك الحالة من الفوضى التي ستَدُبُّ في أوصال الدولة أو المنطقة. والغاية هي بلوغ درجة التّوحش، حيث يتحوّل المجتمع الذي كان خاضعا لنواميس وقوانين تضبط حالة الحيوانية فيه، إلى وضع تَعُمُّهُ الفوضى والتمرّد. وضعٌ هو أقرب ما يكون الى الغاب. ذلك أن هذه الحالة من الفوضى ال"متوحشة"، سيعاني منها السكان المحليون، في ظلّ انهيار الدولة. وحينئذ، يتعيّن على الجماعة أن تحُلّ محلّ السّلطات الحاكمة، وأن تُحسن "إدارة التوحش" إلى أن تستقرّ الأمور. بمعنى أنّ قانون الغاب الذي يعمّ حتما سوف ينهك المواطنين. وهذا سيجعلهم يتعطّشون إلى أي قوة لها القدرة على اعادة تنظيم الحياة، وتخليصهم من الرّعب وفقدان الإحساس بالأمان .. ولا يهُمّ إن كانت هذه القوة أخيارا أو أشرارا، خونة أو وطنيين، غزاة أو حماة... المهم أن يحسّ الفرد بأنه في حماية قوة تذود عنه، وتحميه من مخالب الوحوش البشرية المنفلتة من قيودها... المهم أن ينام المواطن مطمئنّا، دون أن يخشى اقتحام المجرمين والمعتدين بيته، وسرقته، أو اغتصاب زوجته وابنته أو قتله وقتلهم ....المهم أن تكون هناك قوة قادرة على تسيير شؤونه وتحمي مصالحه المادية والمعنوية.

إن أهم ما يمكننا استخلاصه ممّا ورد في كتاب "إدارة التّوحّش" هو المراحل التي يجب أن يمرّ بها المجتمع، حتى يتسنّى للجماعة المجاهدة الإمساك بزمام الأمور وإقامة دولة الخلافة المنشودة:
1/ "شوكة النكاية والإنهاك"، والمقصود بشوكة النِّكاية والإنهاك هو مرحلة إنهاك قوات العدو الكافر. ويكون الإنهاك عبر تشتيت جهود الدولة بطريقة تصبح فيها غير قادرة على التقاط أنفاسها. فمن أهم الأساليب والوسائل التي يتمّ استعمالها للإنهاك، يؤكد الكتاب على ضرورة توسيع ضربات النّكاية حتى يسهُل استنزاف العدو بأكثر قدر ممكن. فإذا تم ّضرب منتجع سياحي يرتاده الكفّار، سوف يوجه العدو، أي السلطة الحاكمة الاهتمام نحو تأمين جميع المنتجعات السياحية، وزيادة كبيرة في الإنفاق لحمايتها من خطر الضّربات الإرهابية. إضافة الى الضّرر الاقتصادي الذي تُلحِقُه هذه الضّربات بميزانيّة الحكومة عبر ضرب السياحة. وإذا ضُرِب بنك ربوي تابع للحكومة الكافرة، فسوف تنصرف أيضا الى تأمين جميع البنوك التابعة لها في جميع البلاد. وإذا تم تصفية اثنين من الكتاب أو الفنّانين المرتدِّين في عملية متزامنة، فسيستوجب ذلك عليهم تأمين مئات من الكُتّاب والفنّانين، إضافة إلى ما تُحقِّقُهُ من بثّ الرُّعب والخوف في نفوس أصحاب الأقلام المرتدة، والذين يُسخِّرُون أقلامهم لمهاجمة الجماعة ونشر الكفر. وضربات النِّكاية تنفذها عادة مجموعات صغيرة ومنفصلة، مع تكرار نوع الهدف مرتين أو ثلاثاً ليتأكّد للعدو أن ذلك النوع سيظل مستهدفاً "فهي خطة لتشتيت قوى النظم السياسية الحاكمة، وإجبارها على توزيع قوى الأمن لديها. ومن هنا ييبدأ التراخي وخلوّ الأطراف والمناطق المزدحمة والشعبية من القوات العسكرية، أو وجود أعداد من الجنود فيها بقيادة هشة وضعيفة، غير كافية العدد من الضباط. فأجهزة الأمن ستتورط وتتشتت جهودها. فتفقد بذلك كثافتها وترابطها. ولأن القادة الأمنيون سيضعون الأكفّاء لحماية الأهداف الاقتصادية ولحماية الرؤساء والملوك، ومن ثم تكون هذه القوات الكثيرة الأعداد، هشة البنيان، سهلة المهاجمة، والحصول على ما في أيديها من سلاح بكميات جيدة. وستشاهد الجماهير كيف يفرُّ الجنود، لا يقوون على شيء، ومن هنا، يبدأ التوحش والفوضى"!

الخطة الإرهاية بهذا المعنى تقوم على:
-ضرورة الاعتماد على إستراتيجية عسكرية تعمل على تشتيت جهود وقوات العدو وإنهاك واستنزاف قدراته المالية والعسكرية.
-إستراتيجية إعلامية تستهدف وتركز على فئتين، فئة الشعب بحيث تدفع أكبر عدد منهم للانضمام ل"الجهاد"، والتعاطي السلبي ممن لا يلتحق بالصف. الفئة الثانية جنود العدو أصحاب الرواتب الدنيا لدفعهم إلى الانضمام لصف "المجاهدين" أو على الأقل الفرار من خدمة "العدو". ومن ثمّة يصبح إخراج مناطق مختارة عن سيطرة السلط الحاكمة، ودخولها في مرحلة التوحش الذي حين يذوق سكان المناطق المصابة عذاباته، يخضعون ويصبحون متعطشين الى أي قبضة قوية تعيد لهم الأمان وتنقذهم من غابة الوحوش المنفلتة ولا يهم هوية هذا المنقذ أو خلفياته. المهم أن يوفر لهم الحماية ومن هنا تبدأ المرحلة الثانية أي مرحلة إدارة التّوحش.

المثير هو أن مفهوم "التوحش" لم يقع تداوله سابقا في الأدبيات الإسلامية. وحسب مؤلّف الكتاب أن هذه التسمية تنطبق على الطبيعة البشرية التي يسود فيها قانون الغاب بمجرد انهيار السلطة. وهذا ما جعله يختار هذا المسمى ويفضله عن "إدارة الفوضى" مثلا. وقد يكون لهذا الاختيار أهداف إعلامية، وهي تقديم صورة مُرعبة، يمكن أن تؤثر في الأتباع. وتوحي لهم بصلابة وجبروت أفراد الجماعة. وهذا لاحظناه كثيرا في السنوات الماضية، من خلال الأفلام التي بثّتها داعش مثلا، من ذبح وحرق وتنكيل ....هي فعلا أفلام أقرب ما تكون إلى الكوابيس.

أما بخصوص الوطن، فيعتبر صاحب الكتاب مفهوم الوطنية مفهوما لا يتبناه الا الكفرة! ويعود إلى "عمر محمود أبو عمر" المعروف بـ"أبي قتادة الفلسطيني" كمرجع إذ ينقل عنه قوله "وهنا لا بد من التنبيه على ضلالة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات وبنائها" و هذا الموقف من الوطنية يعبّر بوضوح عن سذاجة رؤية هذه الجماعات الى المستقبل فاذا كان هذا موقفها من الوطنية فكيف لها أن تنشيء وطنا في المستقبل.

2-مرحلة ادارة التّوحش
بعد مرحلة "النكاية والإنهاك" تأتي مرحلة "إدارة التوحش" وهي مرحلة الفوضى وسقوط الحكومات. وفي هذه المرحلة تستعد الجماعة لإدارة المناطق الخالية من السلطة. ففيما يخص الفترات الأولى حيث النقص في الكوادر الادارية يرى المؤلف بأنه "ينبغي أن تُدار بأيدينا وأيدي الناس الذين يعيشون فيها... وأن نقترب من الناس، وقد نُعين منهم في إدارة المنطقة التي نديرها أفراداً لإدارة بعض الأعمال..."
في الفصل الثاني من الكتاب يضع المؤلّف قواعد لادارة التّوحش وهذه القواعد أوردها في شكل وصايا منها :
*/ إتقان الإدارة.
*/ اعتماد القواعد العسكرية المجربة.
*/ العمل دون كلل على تصاعد العمليات العسكرية.
*/ الضرب بأقصى قوة في أضعف نقاط العدو.
*/ اعتماد الشدة واتباع سياسة تقنع العدو بأنه لن يفلت من أي فعل يقوم به دون “دفع الثمن”.
*/ فهم بواعث الفكر والسلوك السياسي سواء للأعداء أو المجاورين (المقصود بالمجاورين الحركات الإسلامية الأخرى).
*/ فهم السياسة الإعلامية للعدو والرد عليها.
ويذكر مؤلف الكتاب أن مرحلة إدارة التّوحش هذه سوف يواجه خلالها الجهاديون مشكلات وتحديات، بسبب مقاومة العدو الكافر. لذلك يجب وضع تحصينات دفاعية لمواجهة غارات وهجومات العدوّ المرتد. كما أنه يجب اتّباع سياسة ردّ الفعل و"دفع الثمن" في مواجهة إجرام العدو. يقول صاحب الكتاب حول سياسة دفع الثمن : "إن أفضل من يقوم بعمليات دفع الثمن هم المجموعات الأخرى في المناطق الأخرى، والتي لم يقع عليها العدوان، وفي ذلك فوائد عدة... من أهمها أن العدو لن يجد مجالاً جيداً للرد عليها، وستعمل تلك العملية كذلك على رفع معنويات من وقع عليهم العدوان، وإيصال رسالة عملية للمسلمين في كل مكان بأننا أمة واحدة وأن واجب النصرة لا ينقطع بحدود".
ويضيف: "... فعلى سبيل المثال إذا قام النظام المصري المرتد بعمل قام فيه بقتل وأسر مجموعة من المجاهدين، يمكن أن يقوم شباب الجهاد في الجزيرة أو المغرب بتوجيه ضربة للسفارة المصرية مع بيان تبريري لها أو القيام بخطف دبلوماسيين مصريين كرهائن حتى يتم الإفراج عن مجموعة من المجاهدين مثلاً ونحو ذلك".

يؤكد صاحب الكتاب على أهمية الاستقطاب في هذه المرحلة فيقول يجب "جرّ الشّعب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس استقطاب، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق وفريق إلى جانب أهل الباطل. ويتبقى فريق ثالث محايد ينتظر نتيجة المعركة لينضم للمنتصر.... وعلينا جذب تعاطف هذا الفريق، وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، خاصة أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المعركة. ويكون الاستقطاب برفع الحالة الإيمانية، والمخاطبة المباشرة، والتأليف بالمال".

أما بالنسبة للجانب التربوي فان تأثير سيد قطب وابن تيمية يبدو جليا على صاحب كتاب ادارة التوحش. ويبرز ذلك من خلال استشهاده بهما واعتمادهما كمرجع اذ يقول: "رحم الله سيد قطب القائل: "إن هذا القرآن لا يكشف أسراره إلا للذين يخوضون به المعارك، والذين يعيشون في الجو الذي تنزل فيه أول مرة"، لذلك تنبه علماء السلف وأهل النظر الثاقب من المعاصرين إلى هذه القضية، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "من كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد".

هذا باختصار أهم ما تعرّض له صاحب كتاب إدارة التوحش، للوصول إلى مرحلة التمكين، مُعترفًا بطول المعركة وصعوبة تحقيق مشروع (إقامة الدولة الإسلامية)، وهذا لا يعنى فقدان الأمل بالنسبة إليه، بل شكل من أشكال الواقعية التي تسم رؤيته، ولهذا يقول: "ظواهر الأحداث وتطورها ينبئ بطول المعركة، وطولها يتيح فرصة لاختراق الخصوم والمجاورين وتأسيس جهاز أمني قوي يكون أكبر دعامة لتأمين الحركة الآن، والدولة فيما بعد"
الكاتب هنا، كما هو واضح، يكشف عن استراتيجية متبعة لدى هذه الحركات، وتستعملها وسيلة لتأمين الحركة. ونحن نلاحظ اليوم أن هذه الحركات تعتمد بشكل كبير على أسلوب الاختراق، سواء في اختراقها للأحزاب المختلفة والمعادية لها، أو في اختراقها للحكومة والتظاهر بالموالاة، بهدف تدميرها من الداخل، وتسريب أسرارها. بل إن التجسُّس يوصي به المؤلف حتى على الجماعات الاسلامية الأخرى. وعن حرمة التجسُّس على المسلمين يقول: "أعتقد بجواز ذلك تجاه الحركات التي تؤذي المجاهدين أو تتعامل مع الطواغيت، أما اختراق الحركات التي لا تؤذي المجاهدين فلا يتم الاختراق لجمع المعلومات، ولكن لدعوتهم والتقرّب منهم والاستفادة من تحويل مواقفهم في صالح الجهاد حيال الأوضاع والمواقف الحاسمة.

ما طُرح في الكتاب، هو تنظير لم يقف عند حدود الورق والحبر. بل تجاوزه الى التنفيذ والنتيجة هي هذا الكابوس الذي يجثو على صدورنا ونعيشه يوميا في صحونا ومنامنا. "الدّم الدّم الهدم الهدم". هذا هو الشعار الذي أفسد حياتنا باغتيال شكري والبراهمي. وهو الذي دفع تونس إلى عداد الدول الفاشلة بفراغ خزائنها وتدمير اقتصادها، ووضعها في قاع الهاوية. إنها جريمة في حق تونس، وفي حق الانسان والانسانية، توجهها عقول مريضة لا يُستهان بقدرتها على التخطيط والتّدبير. فهل يكفي القلم الداعي إلى الانسانية وحرية المعتقد واحترام حق الاختلاف لمواجهة القلم الدّاعي الى الدم والهدم ونبذ الاخر؟

الآن نأتي إلى الموضوع الأخطر على الإطلاق. وهو الالتقاء الموضوعي بين الإسلام السياسي وبين القوى الاستعمارية.
رأينا كيف أن الأمريكي أيضا، بعد غزو العراق، في إطار هيمنة القطب الواحد، وبالتالي فرض النموذج الواحد، والتفرد بالقيادة والسيطرة على العالم، وإخضاع الشعوب، دفع نحو التخريب الأقصى ، إلى أن انهارت الدولة العراقية وتفكك المجتمع تفكّكا لا مثيل له، إلى درجة سقوط المجتمع برمته في حالة من الاقتتال الهووي المجنون. وهنا تتقاطع الخطة الاستعمارية مع الجماعات الإسلامية المتطرفة في كسر الهويات الوطنية الجامعة، وإحلال الفوضى، وهدم بنية المجتمع، على نحو يسهل معه إعادة تشكيلها وقولبتها على المقاس. فالخراب الذي خلفه انهيار الدولةوالمجتمع، هو المجال الحيوي الذي يعمل فيه الأميركي لبسط سيطرته، من خلال براعته في إدارة "الفوضى الخلاقة". وإدارة الفوضى الخلاقة هي توأم "إدارة التوحش" في استراتيجية جماعات التكفير. وبالرغم من الاختلاف الكبير بين مظاهر المدنية والتحرر الليبيرالي الأمريكي، وبين نموذج الخلافة السلطانية التي يُنشدها الإسلاميون، فالاستراتيجيتان، الأمريكية والداعشية، يحكمهما نمط تفكير رجعي واحد، وعقل أصولي واحد، لا يقبل الشراكة ولا الاختلاف، وينزع نحو الفتك والتدمير، وكسر الحدود، وتفكيك الهوية الجامعة، ونسف الذاكرة الوطنية، وإخضاع الأمم، وقتل المخالف، واسترقاق المختلف.

معنى ذلك أن واشنطن تتقاطع موضوعيا مع الإسلام السياسي في افتعال المواجهة الهووية، وجرّ الدول إلى حافة الهاوية. وهكذا يندفع السكان إلى القبول بأي بديل يحفظ أمنهم ويحمي وجودهم الجسدي. مع هذا التّشابه والالتقاء، أعتقد أن ظاهرة الإسلام السياسي، لم يشهد التاريخ أخطر منها. والصراع معها صراع وجود، ليس بالنسبة للديمقراطيين فحسب، وليس بالنسبة للتوانسة فحسب، بل لكل المجتمع الإنساني، أولا لأن الحرب التكفيرية، وبخلاف كل وقائع حروب التاريخ، لا تنتهي بهزيمة الخصم وإخضاعه بفرض شروط الاستسلام، بل إن القتل والتدمير يبدأ فعلياً بعد "الانتصار" أي بعد التمكين. وثانيا لأن التمكين باعتباره احتلال بكل المقاييس، هو أخطر من الاحتلال الأجنبي، من جهة كونها هذا الأخير يُوحّد الشعوب ضده. فتغيب الكثير من النّزاعات والخلافات، وتتشكل حركات تحرّر تحمل أهدافاً كبرى، تبدأ بالتحرير، وتنتهي بوحدة الأمة. بينما مزّق تيار التّكفير النّسيج الاجتماعي والدّيني والسياسي وهدم الدول، وأدخلها في نفق الفوضى، وأشعل بين مكوناتها حرباً دموية لا قاع لها. وتبقى الذرائع في الحالتين، الأميركية والتكفيرية، هي دائماً "الإصلاح وبناء الدول والتأسيس لمجتمع العدالة"، تحت عناوين دينية، أو "انسانية، تنورية وحقوقية"... الخ.

لكل هذه الأسباب، نعم كلّ من يقف في خندق النهضة بشكل علني مباشر وصريح، أو بالتحيّل على النّاس وتضليلهم، وادّعاء السير عكس طريقها، وضد 25 جويلية بنفس الوقت،هو في الحقيقة يشتغل عن وعي، أو دون وعي في قلب المشروع الاستعماري ضد بلاده وضد شعبه، وخدمة لمشروع الفوضى والتوحّش.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن