العزلة في يلوا/ الجزء الثاني

سعد محمد موسى
saad_almusawi@yahoo.com.au

2022 / 7 / 27

بعد تفشي وباء كورونا وإزدياد حالات الإصابة حول العالم تم حظر السفر وإغلاق جميع المطارات وقد أضطررت حينها لتمديد الإقامة والبقاء في تركيا حتى رفع قيود السفر، ومن الامور التي هوّنت فترة لزوم مكوثي في مدينة يلوا الصغيرة، هو قرب سكني من مركز المدينة لا سيما مركز التسوق والصيدليات ومستشفى (اوزمانلار) وكذلك بزار (يلوا) الرئيسي، والذي عادة ما يفتح منذ بواكير الصباح حتى المساء، وتخصص به ثلاثة أيام من الأسبوع لبيع الخضار، والفاكهة، وبرطمانات العسل، والمخللات ومنتجات الحليب، وبيض دجاج مزارع القرى، أما الأيام المتبقية فيستغل المكان لبيع المواد المستعملة، والملابس، والانتيكات.
يلتقي المزارعون، والبقالون، والمتسوقون في البزار بعد أن تجلب الفاكهة والخضار الطازجة من الحقول المحيطة بالمدينة أو من مزارع وحقول المدن القريبة الأخرى.
في الشتاء يأتي المزارعين بعجلاتهم المعبأة حوضياتها بأكياس الخش المحشوة بثمار أشجار الجوز والبندق إضافة لصناديق البرتقال والليمون وخضار الشتاء الأخرى. وفي الصيف يفترش الباعة والبقاليين الخضار والفاكهة الصيفية الشهية فيبدو البزار وكأنه كرنفال ملون. أما في الخريف فيبدأ موسم قطف الزيتون الوفير الذي تشتهر به تركيا وكذلك الثمار البرية، وينتشر باعة الزيتون الاخضر والاسود، وباقات الزهور أيضاً بسلالهم فوق الأرصفة وفي ساحة البزار.
على امتداد ساحل يلوا يقف بائعي الكستناء المشوي، وأطباق بلح البحر مع شرائح الليمون، وعرانيس الذرة المسلوقة والمشوية ،ومعجنات السميت .. بأكشاكهم وعرباتهم الخشبية، بينما الكلاب تسترخي بكسل وطمأنينة بين الحدائق وتحت ظلال الأشجار أو قرب واجهات المطاعم والمتاجر، أما القطط فلا تبرح عن مراقبة سنارات صائدي الاسماك وهم يلقون بها الى البحر، ثم تتسلل تلك القطط الجائعة والفضولية خلسة بين الصخور نحو دلاء الصيادين التي تحتوي على صيدهم من الأسماك، فتشمها بحذر ثم تحاول النط داخل الدلاء لسرقة غنائمها من الأسماك الصغيرة.
الحيوانات في تركيا تشعر بالأمان وتتلقى الأهتمام والرأفة من الناس، وقد حظيت اسطنبول باسم (عاصمة القطط في العالم) فالمتعارف عن المجتمع التركي أنه محب لتربية القطط والاهتمام بها في منازلهم وفي الأماكن العامة أيضاً، والقانون في تركيا يعاقب بالغرامة أو السجن ضد كل من يقوم بتعنيف الحيوانات أو تجويعها، وعادة ما كنت أشاهد على الساحل متطوعين من منظمات الرفق بالحيوان أو عمال الجمعيات وحماية البيئة وهم يقومون بحمل أطعمة في عجلاتهم ثم يلقون بها للكلاب والقطط التي تعيش في الحدائق والمدن والمحطات.
أحياناً أرتاد بعض المقاهي في المدينة للاستماع الى الموسيقى التقليدية وهي تصدح من المقاهي الشعبية التي تقدم القهوة التركية السوداء المرة والشاي المهدر على بخار أباريق السماور، بينما رواد المقهى مشغولين بالعاب الدومينو والطاولة.
رغم أني لا أفهم جميع كلمات الأغاني التركية إلا بضعة كلمات منها، لكني عادةً ما أستمتع بالموسيقى، لا سيما الكلاسيكية بمقاماتها التي تعتمد بالأساس على الآلات الموسيقية مثل آلة: الناي، والقانون، والكمنجة، والعود، والجوزة والتي تتقارب أنغامها وإيقاعاتها كثيراً من المقام العراقي، وهنالك آراء تذكر بان المقام العراقي بدأ ظهوره أثناء دخول الثقافة التركية في القرن السادس عشر لدى احتلال العثمانيين للعراق بينما هنالك رأي آخر يذكر بان المقام العراقي أبعد من تأريخ دخول العثمانيين فهو متوارث ومستوحى من الموسيقى التي كانت سائدة في عصر الدولة العباسية.
وتشتهر أيضاً في تركيا الموسيقى الصوفية الروحية المستوحاة من الطريقية (المولوية) والتي أسسها الشاعر الصوفي المعروف (جلال الدين الرومي) في أروقة التكايا، والزوايا، والمساجد عندما أنشد دراويش المولوية في مدينة (قونية) الثناء والأبتهالات والتبجيل في العشق الإلهي وفي مدح النبيّ محمد وأصحابه وآل بيته وذكر مكارم ومواعظ أعمدة رموز الصوفية.
تبقى للموسيقى في المجتمع التركي مقاماً ومكانة خاصة سواء كانت موسيقى دينية أو موسيقى لا دينية وقد مرت بمراحل تطور وتنوع منذ زمن السلاجقة، ثم الموسيقى العثمانية، والكلاسيكية، والشعبية، والحديثة، حتى موسيقى الروك والجاز التركية.
في الاوقات الخارجة عن توقيتات الحظر والمسموح بها بالتجول كنت أحياناً أغادر الشقة قاصداً شارع الساحل والتجول في شوارع مدينة يلوا، أو زيارة بعض الأماكن السياحية والأثرية، لا سيما حمامات الينابيع المعدنية في قرية (ترمال) التي تشتهر بالعديد من الحمامات التقليدية المعدنية القديمة والينابيع الكبريتية الساخنة التي تعد على لائحة التراث التركي، ومن أشهرها حمام والدة السلطان، وحمام الرصاص.
يعود تأريخ تلك الحمامات في مدينة يلوا الى العصر الروماني ، أما في العصر البيزنطي فقد حظيت الحمامات بالاهتمام .. حتى مجيء العثمانيين الذين شرعوا ببناء الحمامات بتصاميم وبعمارة إسلامية شرقية، وتفنن الحرفيين والمهندسين باظهار طابع عمراني جميل بزخارف ونقوش لاسيما في زمن السلطان (عبد الحميد الثاني) الذي طور وأهتم كثيراً بالحمامات التي بقيت مركز استقطاب واستجمام للزوار حتى هذا اليوم.
وعلى بعد تسعة كيلومترات من قرية (تيرمال) كانت تتجلى مشاهد ساحرة من غابات تؤدي الى شلال (صودوشان) بجمالها الأخاذ وخرير المياه الباردة التي تنساب بين تجاويف الصخور حين تتماهى مع تغاريد الطيور المتخفية بين الاشجار وخلف الوديان.
وكذلك أحياناً أقصد مقهى كانت تقع بمحاذاة شجرة جميز ضخمة ومعمرة على مقربة من القصر المتحرك الذي شيد في زمن (كمال أتاتورك) عام 1929م، وتعود شهرة هذا القصر ذو الطابقين بعمرانه ذو الطراز العثماني الذي أشتق أسمه بعد زيارة أتاتورك للقصر عندما شاهد مزارعاً يقوم بقص أغصان الشجرة وتقليمها وحين أراد قطع غصن طويل كان يمتد من الشجرة ومستلقياً على سطح القصر منع حينها اتاتورك المزارع من قطع الغصن. ثم حضرته فكرة تحريك القصر دون المساس بشجرة الجميز وأغصانها وبالفعل أمر بتحريك القصر بضعة أمتار بعيداً عن الشجرة.
أما المكان الأثري الذي زرته ذات مرة بصحبة أصدقاء هو الكنيسة السوداء في منطقة (جفلكوي) والتي شيدت في العصر الروماني في القرن السادس ولم يبقى من عمرانها سوى هيكلها الخارجي وبعض الجدران الداخلية للقاعة وبقايا بوابات، ويبدو إنها كانت في عصر الرومان حماماً أو مستودع للمياه، ثم تحولت الى كنيسة أبان العصر البيزنطي في القرن الثامن، وتظهر على جدرانها العتيقة ثقوب كانت تستخدم لوضع الشموع وهي إحدى المعالم المتبقية من فن العمارة الرومانية.
وفي الجهة الشرقية من هيكل الكنيسة توجد غرفة يعتقد إنها كانت تستخدم لإعداد الكهنة للطقوس الدينية وللقضاء على الجن وطرد الارواح الشريرة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن