عقيدة البداء، حقيقة إلهية ام خرافة دينية؟

باسم عبدالله
fido.kanada@yahoo.se

2022 / 7 / 1

عقيدة البداء عند الشيعة تندرج بعد عقيدة الامامية والعصمة، وهي من المبادئ الدينية الأساسية التي تفصل الشيعة عن العالم الإسلامي، وتضعهم في اطار مخالف للقواعد والأعراف الدينية التي درج عليها الفكر الديني، وقد حفلت المصادر الشيعية بهذه العقيدة ومن اهم تلك المصادر ما جاء في كتاب الكافي كما ورد في الجزء الاول من كتاب التوحيد، باب البداء ص 146 ” عن رواية محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، .. عن زرارة بن أعين، قال: ”ما عُبد الله بشئ مثل البداء”. وفي رواية ابن أبي عمير: ”ما عظّم الله بمثل البداء(1) ” فهذا يدلل على اهمية هذه العقيدة ورسوخها في الفكر الشيعي الاثنا عشرية. ما يهمنا في هذا البحث تبيان خطورة هذا المعتقد على الفكر الديني التقليدي واهمية فحص المعتقدات الدينية لانها دائما تقف حاجزاً امام الفكر التقدمي وتمنع عنه الاستدلال بالواقع والرجوع الى ايمان الغيب. وقد روي عن ابي عبدالله جعفر بن محمد الصادق قال ” عندنا من زعم ان الله عز وجل يبدو له اليوم في شي، لم يعلمه امس فهو كافر والبراءة منه واجبة (2)فهذه القرينة صريحة من احد اكبر ائمة الشيعة. يبدو التناقض في المصدرين واضحاً، فالمصدران من المصادر الشيعية الموثقة، ولقد حاول علماء الشيعة الخروج من هذا التناقض بإيجاد تفسيرات بهدف اقناع العقل فهم يصوروا ان اقرار بعض أئمة الشيعة نجم عن توهم البعض في فهم النصوص التي وردت فيها عقيدة البداء، اي ان الله يستحيل عليه ان يبدل عزمه في العمل كما يفعل الإنسان، وقد ذهبوا الى تفسيرات ان الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب، فالله في هذا التفسير يُظهر امراً على لسان نبيه ثم يمحوه لاحقاً مع بقاء علم الله فيه قبل وبعد، فهذا تفسير غير منطقي ويتجاوز الخط العام للمعتقد الغيبي في الذات الإلهية، توجد تفاسير كثيرة حاول الشيعة تفسيرها على عقيدة البداء وتختلف عن فكرة الإنسان في عمل ما والتراجع عنه، كما ورد على سبيل المثال النص القرآني في سورة الحج الفقرة 52 ” وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ” فهذا النص بحسب الفكر التشيعي يبرّر عقيدة البداء ويجعلها تنسجم بحسب التفسيرات في الذات الإلهية، لكنها لم تنسجم من المنطق الديني السليم عند وضع النص امام الطبيعة الشخصية للخالق، تبريراً للمنطقي الديني.
البداء الإلهي كما يراه الشيعة غير البداء البشري. لكن دعنا نفكر في الأمر على اساس النص القرآني قبل تفسير الفقرة عندهم لنرى ماذا قال علماء الإسلام قبل ظهور التفاسير الشيعية ثم نناقش الامر عقلاً ، بعد ذلك نقارن النص هل هو حقاً لا يمكن قياسه بين الذات الإلهية والذات البشرية؟ بحسب تفسير الطبري ان سبب نزول الآية ” أن الشيطان كان ألقي على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنـزل الله عليه من القرآن ما لم ينـزله الله عليه، فاشتدّ ذلك ... واغتمَّ به، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات.” النص يوضح عدم عصمة النبي من هجمات الشيطان حتى في حالة الوحي وفي النص الإلهي، فهذا لا يبرره غير حالة الإنفصام الذاتي التي عاناها محمد خلال حالته الوجدانية عندما عاش احساسه تحت تأثير روحانيته الشخصية، فلو كان الله حقاً الكلي القدرة حاضراً في حالة محمد وجدانياً لمنع عنه نزعات الشيطان، لا ان يدخل في النص، نصاً إلهياً وآخر شيطانياً، ثم ينسخ ما القى الشيطان في روعه. فما علاقة البداء بمحمد في عدم عصمته عند تغلغل الشيطان في النص الإلهي؟ فهذا الأمر فسره الطبري بحسب الطبيعة البشرية لمحمد ولم يجد الأعذار كي يبرر حالات لا وجود لها في التفسير الديني الاستدلالي. عبارة ” فسلاه الله ” فسرت المعنى الشخصي لحالة الله عن سبق اصرار ما حصل لمحمد فأراد الله التخفيف عنه ان نسخ عنه ما املاه الشيطان عليه. اذا كانت البداء تتحكم بالطبيعة البشرية لاننا حالات نتغير بحسب الميول والاهداف والمصالح، يفترض ان لا تكون عند الله ميول واهواء غير اتمام رسالته التي ينازعها شيطان فهذا امر يخص سلطة الله على مخلوقاته. بحسب الطبري ان محمدا ” سمعته قريش يذكر إلهتم بخير فدنوا منه، فبينما هو يتلوها وهو يقول: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى ألقى الشيطان: إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى. فجعل يتلوها، فنزل عليه جبرائيل فنسخها “ اذا كان الأمر في البداء ان غيّر الله ما اراد فعله او توهمنا بما اراد الله فعله، فلماذا كرّر في كل مرة ان يرسل من السماء جبرائيل كي ينسخ ما تداخل في النص القرآني نص شيطاني؟ فالقدرة تلغي البداء، والقدرة لا تجد مبرراً لذاتها، اذا كان الله يخلص آياته من الباطل الذي القاه الشيطان على لسان نبيه ” والله عليم حكيم “ لماذا لم يتسع علمه ان يمنع الشيطان قبل ان يعيش محمد حالته الوجدانية في تلقي اخبار الوحي؟ اننا امام ميزان المنطق، ولسنا امام العاطفة الدينية، فوجود الروايات المتناقضة تجعل عقيدة البداء امراً مستحدثاً في تاريخ الفكر الديني وقد ادرجت هذه العقيدة بعد عدة قرون من رحيل محمد. ان ” النظر العقلي في العقائد بدأ على ايدي الجهمية والقدرية والمعتزلة وكان ذلك في نهاية القرن الأول، بداية القرن الثاني للهجرة ” (3) فهذا تاريخ سبق ظهور العقائد الشيعية في استدراج المنطق والعقل واقحامه للنص الإلهي بهدف ازالة تناقض النص عقلاً كي يبقى الإيمان الإعتقادي فيه. لقد مارست الفرق الإسلامية كلها تأويلات على حساب النص الديني بهدف انسجامها مع المعتقد الذي تراه مناسباً عند بعض الفرق الإسلامية ” لقد تنبه علماء الكلام الى ما في التأويل من خطر وما يصاحبه من تفريق للشمل وتقسيم للأمة الى فئات متباغضة متناحرة، فصاروا يمنعونه بين فئة العوام من الناس وقللوا من الخوض في التأويلات المجازية وامتنعوا من صرف الظواهر الا بقدر وحذر ” (4) ان مبدأ الإثنا عشرية منازعة الفرق الإسلامية ليس في التأويل فحسب بل في ابتداع عقيدة جديدة تفسر المعتقد الديني بحسب التصورات الذهنية لتخترق الصف الإسلامي وتحول النزاع الطائفي الى تاريخ عقائدي يفرق الفرق الإسلامية فصارت عقيدة البداء بين الصفات والذات الإلهية، تخالف جوهرياً ما بدأه الإسلام اصلاً، وهذا احد اكبر أئمتهم يتصدى لعقيدة البداء اذ قال جعفر الصادق ” من زعم ان الله تعالى بدا له في شئ بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم. وقال ايضا من زعم ان الله بدا له في شئ ولم يعلمه امس فأبرأ منه ” (5) فهذه القرينة تذهب بعقيدة البداء بعيداً عن العقيدة الدينية للإيمان السليم، رفض اهل السنة عقيدة البداء وهي مرفوضة في بعض كتبهم، فهي مازالت ليومنا هذا موضع جدل، ذلك ان هذه العقيدة لم تكن موجودة في بداية تاريخ عقائد الاثنا عشرية. يبدو ان ظهور عقيدة البداء قد تبلورت عقائدياً عند وفاة الابن الأكبر لجعفر الصادق ” اسماعيل ” اذ كان يفترض بحسب التسلسل العقائدي عند الشيعة ان يكون الابن الأكبر اماماً بعد ابيه، لكن اسماعيل توفي في حياة والده، فانتقلت الإمامة الى ابنه الأصغر موسى، وهذا بحسب عقيدة الإمامة منصب إلهي، لكن ” لماذا سمي تغيير مسار الإمامة بداءاً ونسبوا شيئا كهذا الى الله تعالى لإثبات امر لم يكن اثباته بحاجة الى انتقاص من سلطان الله ... والأمامة عندما تكون إلهية لا تخضع للانتخابات المباشرة ولا يتغير مسارها بموت الأمام .. ولهذا قيلت في الإمامة انها تكوينية اي لا تخضع لمتغيرات الزمان والمكان شأنها شأن العلة والمعلول .. فهذا الصراع الفكري حدث بين الشيعة انفسهم ” (6) فإذا كانت الأمامة إلهية لماذا فقد اسماعيل بن جعفر الصادق منصبه الإلهي لو كانت تلك الإمامة تكوينية؟
فلم يكن بمقدور اصحاب عقيدة الأمامة التماس الأسباب والاعذار من اجل وضع الأفعال على روحانية الإله، لقد وضعت على اعتاب ملكوته في الأعالي عقيدة البداء. الحال ذاته وقع في حياة الامام الاول علي بن ابي طالب، عندما تراجعت الأمامة التكوينية فاحتوتها عقيدة البداء، فهل بدا لله ان يحل ابو بكر لخلافة المسلمين بدل علي؟ بيد ان المراجع التاريخية اثبتت تأخر ولاية علي بن ابي طالب في ظروف سياسية خضعت للزمان، لا علاقة لها بالأمامة التكوينية وقد اقر علي بن ابي طالب نفسه بعدم رغبته في الخلافة وسعى في تأييد خلافة ابو بكر، فبدلاً من ان تكون الامامة في اولاد اسماعيل انتقلت الى اولاد موسى. تاريخياً تعود عقيدة البداء خلال ظهور الاسماعيلية “ التي اخذت تناهض الشيعة وتخرق وحدتها لذلك لا نجد اثراً لفكرة البداء حتى اوائل القرن الثالث الهجري واول امام يخاطب بشموله للبداء الامام العاشر ومن بعده الحادي عشر ” (7) ان فهم عقيدة البداء لم تخرج عن مسار المادية التاريخية للأحداث وليس مقدر لها دينياً او وفقاً لمسار الارادة الإلهية، ان تكون كما اراد لها الله، بل تطورت عقيدة البداء ونمت بحكم الظروف الجديدة التي اتت بها فرقة الإسماعيلية. تناقض عقيدة البداء النصوص القرآنية العديدة ” قل لا يعلم من في السموات و الارض الغيب إلا الله ” (8) ” وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚوَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (9) وقد جاء ذكر البداء بهذا المعنى في النص القرآني، يضرب الله الامثال فيها الذين كانوا يجهلوا بعض الأمور ” .. وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(10) ” وكذلك في النص القرآني ” بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ..” (11) ” وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ” (12) فالله ضرب الأمثال في الذين بدأت سوء اعمالهم تتكشف لهم بعد جهلهم، بعدم علمهم، ما غاب عنهم، حتى عرفوا الأمر فيما بعد، فبدا لهم الأمر واضحاً على غير ظنهم، فهل يكون الله بهذا الأمر مع غيره ضمن مخلوقاته ان بدا له الأمر عكس ما كان يظن؟ قال الإمام الباقر : " كان الله و لا شيء غيره ، ولم يزل الله عالماً بما كوّن، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد ما كوّنه” (13) فهذا الامام من الأئمة الاثنا عشرية لم يقر بعقيدة البداء وقد احاط بعلم الله فلم يزل عالماً وعلمه قبل كونه، يكون الامام الباقر خير ما نختم به المقال، اننا حيال موقف نكون ملزمين ان نقرر بعيداً عن العاطفة الدينية بل نعمل بقرار المنطق والعقل، ان الكثير من المعتقدات الدينية تطورت عبر التاريخ المادي للمجتمعات، الكثير منها الصق بالذات الإلهية، جهلا ام عمداً، فعقيدة البداء وعذاب القبر، من المعتقدات التي لا تصح دينياً، وآن الان ان نعمل العقل فيها كي تتحرر عقولنا من دهاليز الظلام فيكون اسهل علينا تقبل المعتقد الذي يتماشى مع الاستدلال فبه نعرف ان لنا عقلا مستنيراً.

مصادر البحث :
1 – الكافي للشيخ الكليني، ج 1 كتاب التوحيد باب البداء، ص 146
-2 كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ محمد بن جعفر بن علي القمي، صححه العلامة حسين الاعلمي، مؤسسة الاعلى للمطبوعات، بيروت، ص 75 .
3 – دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، دكتور عرفان عبدالحميد، مطبعة الارشاد. بغداد، ص 130 .
4 – المصدر نفسه ص 209 .
5 – عقائد الإمامية، الشيخ محمد رضا المظفر، عقيدتنا في البداء، مطبعة النعمان، النحف الاشرف، العراق، ص 45
6 – الشيعة والتصحيح، الصراع بين الشيعة والتشيع، دكتور موسى الموسوي، ص 148 .
7 – المصدر نفسه. ص 149 .
8 – سورة النمل الفقرة 65 .
9 – سورة الانعام، الفقرة 59 .
10 – سورة الزمر، الفقرة 47 .
11 – سورة الانعام، الفقرة 28 .
12 – سورة الزمر ، الفقرة 48 .
13 - بحار الأنوار ( الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ) : 23 / 86 ، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي ، المولود باصفهان سنة : 1037، و المتوفى بها سنة : 1110 هجرية ، طبعة مؤسسة الوفاء، بيروت / لبنان سنة : 1414 هجرية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن