مقاربات في الوعي التاريخي: حُكمْ التاريخ !

عبد الحكيم الكعبي
hakimalkabi@gmail.com

2022 / 6 / 24

ـ هل يحق للقاضي المقيم في بغداد أن يصدر حكماً في قضية وقعت أحداثها في شمال أفريقيا قبل 500 عام، استنادا إلى مدونات شهود مجهولي الإقامة كتبت في أزمنة وأماكن متفرقة؟ وهل يحق لقاضٍ معاصر إصدار حكمٍ في جريمة وقعت أحداثها قبل بضعة قرون، وشهود القضية الأساسيين ولدوا بعد الحادثة بعشرات أو مئات السنين ؟
ـ هذه الإشكاليات الافتراضية نطرحها، لتقريب فكرة مفادها: هل يحق لنا (نحن أبناء هذا الجيل) أن نصدر حكما أو تقييما قاطعا على أحداث (تاريخية) وقعت قبل مئات السنين، في ظروف نجهل تفاصيلها، ولكنها بالتأكيد تختلف كليا عن ظروف عصرنا هذا؟ وبناء على أقوال شهود (رواة) لا نعرف هل هم حقيقيون أم وهميون؟ أو استنادا على كتابات (مؤرخين) لا نعرف تماما مدى صدقهم، وما هي ميولهم وأهوائهم، وما دقة معلوماتهم ومصادرهم؟ وما هي الظروف التي دونوا فيها أخبارهم؟
قد تبدو الإجابة واضحة، ولتأكيدها نشير إلى الحقائق الآتية:
ـ إن الأحداث هي أفعال متربطة بالزمان والمكان، فهي لا تخضع للاستقراء، فالاستقراء حكم على الكل بالجزء، أي حكم مادي تجريبي، وحوادث التاريخ المتحققة هي خارج إمكان التجريب، أي خارج الاستقراء والتجربة، لأن الذين نصدر أحكامنا عليهم هم في غير زماننا ومكاننا، ومن ثم تأتي هذه الأحكام ـ حتى إذا قبلنا بها ـ أحكام غير منصفة وغير موضوعية، لأن الوصف بالموضوعي يقتضي أن يكون موضوع الحكم، أو موضوع التجربة، هو ضمن الكمون الزماني والمكاني، أي ضمن الآن (الحاضر) ليكون موضوع الحكم قابلا للشهادة، فالحكم على أفعال البشر التي تم تجاوزها بصيرورة الزمان والتغير، حتى إذا تحققنا منها لا يمكن الحكم عليها إلا بشروط (وظروف) ذلك المكان والزمان، أما إذا ما حاولنا أن نحكم عليها بأحكامنا المعاصرة، فنحتاج إلى لعبة خيالية، هي أقرب إلى الشطح الصوفي، فإما أن نسحبهم إلينا ليحلوا فينا، أو ننجذب أليهم لنحل فيهم، وفي كلا الحالتين استحالة وخيال .

من جهة أخرى يلجأ الناس عادة إلى الأخبار المنقولة في كتب التاريخ لمعرفة ما جرى في الماضي ، وتعريف الخبر في الفضاء الفكري العربي هو: (( قول يدخله الصدق والكذب))، أي أنه يحتمل جهتين، أما معيار الصدق والكذب في الخبر فهو المطابقة (مع الواقع طبعا) أو عدمها، وهذه الأخبار قد يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها، بحكم كونها منقولة ومتداولة بين الناس شفاها لمدد طويلة، فينالها الكثير من الحذف والنسيان والإضافة والتحريف، فالنقل للخبر يقتضي عقل الخبر أولا، ومن ثم يعمد الباحثون إلى مرجعية (المنقول والمعقول)، ولأن (ظروف الحياة) هي غير منقولة بالكامل أو معقولة، فإن الخبر يظل خبرا خاضعا للقراءة (وإعادة القراءة والتأويل) ولكنه ليس خاضعا لإصدار الأحكام إلا بضرب من الوهم، والتأويل والظن، وسلطان الهوى، وكلها، وغيرها تفسد الأحكام وتشوهها، بل وتزيفها لافتقاد الشهادة التي تبعد هذا التزوير.
يمكننا أن نقرب الفكرة بما يجري ( اليوم ) في المحاكم، فهناك من الحقائق ما يتم تزييفها من خلال ما يعرف بالبحث الجنائي، أو بالصياغات التي تقوم بها الأجهزة المعنية، بما يطلق عليه جزافا (المحضر) الذي يكتبه المحقق لاحقا، وهو لم يكن (حاضرا) عند وقوع الحدث !!، وإذا ما قدم هذا (المحضر)،إلى القاضي، قد يحكم القاضي بما فيه ويتوهم العدل في أحكامه، ولكن كم من حكمٍ أثبت خطؤه، بل كم من محكمة ابتدائية، أو حكم ابتدائي ألغته محكمة عليا، وكم من أحكام صدرت بحق ضحايا، وأصحابها أبرياء !؟.

ـ علينا إذن، أن نخرج التاريخ من المحاكم! ونتأمل فقط ما فيه من دروس وعبر، قد تنفع الحاضر، أو نتدبر بها للمستقبل، ذلك أن الحكم على التاريخ هو حكم التاريخ نفسه.
ولسان حالنا يردد قول الشاعر العربي:
نظرنا بأمر الحاضرين فرابنَا فكيف بأمر الغابرين نصدّقُ؟
****



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن