حواجز تحول دون صعود الأداة الاجتماعية لليسار الى مستوى التفكير العلمي

سعيد مضيه
madhiehs@ymail.com

2022 / 6 / 21

اليسار يناضل مع الشعب ، ليس دفاعا عنه ولا بديلا ؛ تكمن أزمة اليسار ، التي هي ازمة التحرر الوطني الديمقراطي، في كون الجماهير الشسعبية تعيش داخل شرنقة حيكت لها بسابق تصميم. واخطأ اليسار طويلا ، إذ ظن ان الجماهير الشعبية تشاركه وعيه وأفكاره وتلتقط تلقائيا دعواته السياسية.
بمراجعة خاطفة لحصيلة مائة عام نجد المجتمعات العربية لم تتغير؛ استمر تقييد الجماهير بقيود الجهل والتبخيس وتعطيل مشاركتها بشتى السبل في الحياة السياسية . هذا ما لاحظه المفكر العلامة هشام شرابي ، في كتابه " البنية الأبوية إشكالية تخلف المجتمع العربي" . تعمق في ثنايا النظام الأبوي، وخرج من البحث العاني برؤية للواقع الاجتماعي في كنف الأبوية محاصر بجدران تحول بينه وبين تحديث الفكر والحياة الاجتماعية. في ظل الأبوية لم تسفر النهضة التنويرية عن تحديث يفتت نماذج التخلف في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم المدرسي والجامعي وفي التربية البيتية. ربما امكن لنخب ثقافية التخلص من انماط الفكر المتخلف ومن تأثير الفكر البرجوازي ، لكن من الخطأ الظن ان الجماهير الشعبية تخلصت هي أيضا من سطوة الفكر الأبوي وثقافة الأبوية المستمدة من استبداد العصر الوسيط.
مؤثران مسلطان على وعي الجماهير في عصر يدور الصراع فيه على وعي الجماهير. هدر اجتماعي يعود للقرون القديمة سلب الجماهير الشعبية الإرادة والتفكير والعقل، وثقافة الليبرالية الجديدة تستهدف أيضا الإرادة والتفكير لدى المتلقين وتنشر ثقافة القسوة والكراهية والتمييز العرقي وتفوق العرق الأبيض، ونظرية البقاء للأصلح. ضحايا الراسمالية هم في نظر الليبرالية الجديدة فاشلون سقطوا في ميدان المنافسة ، ولا يستحقون التضامن أو التكافل الاجتماعي ؛ مالك المال بأي وسيلة لاحت له هو المؤهل للبقاء. نقل شرابي عن البرت حوراني تأكيده أن "تكون مشرقيا يعني أن لا تنتمي الى مجتمع معين ولا تملك ما هو في حوزتك ؛ هذا واقع يتجسد في الضياع والادعاء والتشاؤم واليأس"(41).
الأبوية والامبريالية حليفان متآزران يعيقان أي تغيير اجتماعي وسياسي طبيعي، يناهضان الوحدة العربية والاشتراكية، ويرفضان العلم، وبالنتيجة ، حسب تقدير عالم الاجتماع الراحل هشام شرابي "لم تتجذر بعد في الشخصية العربية العقلية العلمية التي تفسر الظواهر بأسباب موضوعية تخضع للدرس والتجربة . ولم تنظم العقلانية النشاطات الفردية الاجتماعية والسياسية." [61] جرى تحديث زائف حين حدث التماس مع الغرب إبان تمدد امبرياليته في الأقطار المتخلفة. أخذ النظام الأبوي من الغرب قشور حضارته كسى بها وجهه الموروث عن العصور الوسطى والقديم ، وارتبط بعلاقة تبعية مع الامبريالية لتحافظ على بنيته وقيمه وسلطويته. جرعة حداثية كانت بمثابة مطعوم للمناعة من أمراض التنوير والتحديث . فات تقليد التكافل والمسئولية حيال الجميع ، واسفرت النهضة عن هجانة حياة اجتماعية ثقافية ونظام أبوي محدث فاقد الطاقة الحيوية على النمو، ينطوي على التخلف والتبعية للامبريالية تتجسد التبعية في اقتصاده وتنظيمه السياسي والاجتماعي والثقافي، كل ذلك بسبب تشبثها بالتبعية ومجافات الاستقلال والتطور المستقل، فأجهضت النهضة التنويرية وتبنت مقولات صنمية لا تتفق مع الواقع الاجتماعي ولا تسهم في نقله من التخلف.
الجماهير الشعبية المراد إنهاضها للحراك والنضال معها من أجل التغيير الديمقراطي ليست في حالة نقاهة تستجيب تلقائيا لمجرد دعوة من فصيل يدعو الى التغيير ؛ ولا بد من عملية تحرير إنساني ثقافية المضمون والأدوات، تنتشل الجماهير من قيود التجهيل والتبخيس والاستلاب. لابد من ثقافة إنسانية تبطل التأثير المدمر لثقافة الليبرالية الجديدة على الأفراد والجماعات.
الأبوية داخل الأسرة ، خلية المجتمع الأساس، هي في الحقيقة صورة مصغرة للحالة البنيوية في المجتمع القائم، تقليد موروث عن عهود التخلف تفرض القمة المتسلطة أحكامها ورؤاها ولا تشرك الأخرين، أصحاب المصلحة ، في القرارات المتعلقة بحياتهم وبمصيرهم . الأب أداة قمع أساسية وهو المرجعية وعليه يعقد الرجاء ، سطوته ونفوذه يقومان على العقاب والعطاء. وسائل التربية في البيت ثم في المدرسة لا تعد الطفل لأن يناقش ويقارع، ولأن يتعود الاعتماد على النفس، بقدر ما تنمي فيه الكذب والالتواء والازدواجية والاتكالية . ينقل هشام شرابي عن جان بياجيه ، عالم نفس سويسري، أن "نظام الطاعة والخضوع لدى الأطفال دون الثامنة يتكشف عن ردات أفعال يرتكز انصياع الصبي على الاحترام الذي يجمع بين العاطفة والخوف . يسمي بياجيه هذا النوع من الاحترام أحاديا، إذ أنه علاقة بين قاصر وولي امره يدوم في حضور الأب فقط. اما الاحترام المتبادل بين الوالدين والاطفال فيولد اخلاقية حرية ومساواة وعدالة. الاحترام المتبادل يغلّب حس العدالة على الطاعة باعتبار العدالة قاعدة سلوك اجتماعية".[62] الاستقلال الذاتي هو الذي يفضي بالتأكيد الى احترام القوانين أكثر من الخضوع للتبعية.
وكذلك فيلهيلم رانج ، تلميذ فرويد في التحليل النفسي، يؤكد أن "العائلة الأبوية تخلق الفرد الخائف ابدا من العقاب والسلطة، تخلق من جديد إمكانية قيام حفنة أفراد ذوي نفوذ بتسلم السلطة وقيادة الجماهير ، ترسي قواعد النظام الأبوي".[62]
.
"انصرفت الأبوية المستحدثة الى تبني موقف أدبي – ديني من اوروبا ومن التاريخ والذات ، فحرمت نفسها ومنذ البدء من ابرز فرصة للتطور باتجاه موقف مستقل وواع كان ليمكنها، بعد استيعاب صدمة اوروبا، من تمهيد السبيل أمام الفهم العلمي." [119] في البناء الوطني ، وفي نظم الحكم وإدارة الآقتصاد والتعليم جرى الابتعاد عن معطيات العلوم ومنهجية العلم ؛ وفي المقاومة الفلسطينية غلب الارتجال والهبات المباغتة ردود أفعال غير متبصرة عادت بالنكسات المتلاحقة، ولم تفض الى مراجعة نقدية، فهذه مغيبة في الحياة الثقافية المتخلفة. "من الوجهة الاجتماعية - السياسية كان لاستعمار الوعي ( وكذلك اللاوعي) نفوذ أوسع من الاحتلال العسكري والهيمنة السياسية في دفع عملية تطور بنية الابوية المستحدثة. [95] الثقافة الأبوية المحدثة فقدت توازنها وانسجامها ، واتصفت بالتملق في العلم والدين والسياسة[96]؛ إضافة الى عجزها السياسي وهي تتخبط بمنأى عن معطيات العلم، وتعتمد الشعوذة في إدارة الاقتصاد وقضايا المجتمع، متذرعة ببلاغة الخطاب للتغطية على خواء الإنتاج . "العربية الكلاسيكية تقوم بإنتاج صنف من الخطاب يعبر عن إيديولوجيا مزدوجة كامنة في سحر اللغة، ناجمة عن استخدام الألفاظ الرنانة والمفردات الخطابية والأساليب البيانية والإحالات الداخلية ، ومستمدة من سلطوية اللغة ناتجة عن ومنتشرة في ظل حماية السلطة السياسية الحاكمة أو التيار الديني السائد، يقدم البلاغة على المضمون ، مجالها الخطابة وليس العلم، الغيبي وليس المرئي واولوية القول على الكتابة".[107]. للنص قوة إيديولوجية في ما يمدنا من تعابير بلاغية شكلانية خالية من المضمون المعرفي تشحن بالعاطفة وبالحماس الانفعالي. وهذا ما يفسر تقدم الفكر الأيديولوجي على الفكر النقدي في الخطاب الأبوي المستحدث.الخطاب الإسلامي التقليدي في كافة أشكاله ، الإصلاحي والمحافظ و الأصولي مهتم بالسلطة السياسية أكثر من اهتمامه بقيم الدين الحنيف. استخدام الدين لتسويق الإجراءات السياسية العقيمة أدلجة للدين؛ وبذا نشأ في المجتمع الأبوي مستويان من الإيديولوجيا ظاهري وباطني.

"ان نشوء الدولة السلطنة بموازاة النمو المستمر للأصولية الإسلامية يجب ان ينظر إليه على أنه المحصلة للقوى المتجذرة نفسها التي أدت الى ظهور المجتمع الأبوي المستحدث، على انها التعبير عن الثقافة التقليدية للأبوية التي حمتها الامبريالية الغربية في نظام التبعية الرأسمالية "(78).
قدمت الأصولية منظومة أخلاقية استهوت الجماهير والزمتها القعود في معزل عن قوى التقدم الاجتماعي." لم يسبق أن تمكنت الأحزاب القومية واليسارية من النفاذ الى الجماهير الكادحة وكسب تأييدها الواسع كما حصل مع الحركات السلفية . أصولية البرجوازية الصغيرة أول عقيدة سياسية تقوى على تحقيق ذلك بعد قرن من قيام الأبوية المستحدثة(157).
على إثر النكبة الفلسطينية التي ساهمت الأنظمة الأبوية في كارثتها، حدثت انتفاضات عربية ، خاصة في دول المواجهة اتسمت بالعداء للامبريالية المتواطئة مع العدوان الصهيوني وضد الأنظمة القاصرة والمتواطئة. حدث حراك جماهيري في اكثر من قطر عربي اكتسبت خلاله الجماهير خبرة بالسياسات الدولية وأيقنت خطأ ما ساد عبر القرون وتحدر الى العصر الحديث ان " من يحكم يطاع" ، وان " للسياسة فرسانها". أدركت الجماهير الشعبية ان من حقها الاعتراض على السياسات التي لا تحترم مصالحها وحاجاتها ورؤاها الوطنية. وفي الأردن تصدت الجماهير الشعبية بمظاهراتها لضغوط تمبلر ، رئيس أركان جيوش الامبراطورية البريطانية لإدخال الأردن في حلف بغداد، والحقت به هزيمة مشينة. اوقف الأردن الصغير زحف الأحلاف العسكرية الامبريالية وانتخب برلمانا بحرية تشكلت على إثره حكومة وطنية . انتشرت سريعا بين الجماهير قيم الثقافة الوطنية واهمها الديمقراطية التي تكفل حرية التنظيم وحرية التعبير، ومن خلالهما تشكل الحركة الشعبية المستقلة، الى جانب التضامن العربي والوحدة العربية. وجرت في بلدان عربية محيطة تحولات مماثلة، تحولات لم تسفر عن تحولات اجتماعية تنصف الجماهير الشعبية ؛ فالنضال توجه ضد الأخطار الامبريالية في الخارج. لم تخف سطوة النظم الأبوية .
بعد الحرب العالمية الثانية تصدرت البرجوازية الصغيرة المشهد السياسي في المجتمعات العربية ، غالبا عن طريق الانقلابات العسكرية. "البرجوازية الصغيرة في المجتمع العربي غير منتجة تتوجه نحو الاستهلاكية، ومكانتها في السياق الإنتاجي هامشية وعرضية. وقيمها وعلاقاتها الاجتماعية تقليدية ما يفسر تذبذبها العقائدي وتأرجح توجهها الاجتماعي والسياسي، تحمل اوضح تعبير عن الأبوية المستحدثة، بين التقليد والحداثة ، بين العلمانية والدين، بين الرأسمالية والاشتراكية ، بين الإنتاج والاستهلاك. لا أمل في الخروج من التناقضات ما يدفع باتجاه الانهيار في نهاية المطاف"(148). لكن الحياة الاقتصادية تولد كل يوم شرائح برجوازية صغيرة تتوزع اهتماماتها بين الديمقراطية والاستبداد.
في ظل زعامة البرجوازية الصغيرة تم القضاء على الديمقراطية؛ افترق المسار في المنطقة العربية عنه في أميركا اللاتينية ، حيث وصل أليندي الى الحكم على رأس جبهة يسارية ذات توجه ديمقراطي، ووصل البعثيون الى الحكم بانقلابات عسكرية ومارسوا السلطة بأحكام عسكرية . تحققت إنجازات لصالح الجماهير في مجتمعات عربية ، مثل العراق تحت حكم عبد الكريمي قاسم وفي مصر تحت حكم عبدالناصر ، راجت معها مقولة "المستبد العادل". البرجوازية الصغيرة انهمكت في الكسب السريع ، أشاعت الفساد في أجهزة الحكم ، ونشطت الوصولية والانتهازية ما أثار فزع المجتمع ، فاستجار بالسلفية "وعاء الفضيلة ". تزامن صعود السلفية مع بروز شرائح وطبقات اجتماعية جديدة . وحيث ان الأصولية حركة اجتماعية تعبر موضوعيا عن صراع طبقي دون ان تعي ذلك ، حيث لا تمتلك الوعي الطبقي، ولا تأخذ باساليب الجبهة الوطنية الداعية الى تحالف كافة القوى والطبقات بوجه السلطة الأبوية. الأصولية تفرعت مباشرة من الثقافة الأحادية والشفوية التي تربى عليها وعيهم وتفتح(160). "الجماهير بقيت فقيرة في الأنظمة ‘الثورية’ والمحافظة اقتصاديا – تبعية للخارج، استيراد مواد غذائية بنسبة عالية، تدني الإنتاج الصناعي والزراعي. الفقراء استفادوا بنزر يسير ، وارتفاع فائض الاستهلاك لدى الفئات الموسرة ، تبعية ثقافية عطلت الإنتاج ووسعت فجوة توزيع الدخل ، مال نفطي عزز سلطة الزعامة القبلية الدينية.[154]
في بدايات عقد الستينات ابتكر الاقتصاديون المحيطون بالرئيس الأميركي كندي ، الاقتصاد الاستهلاكي بديلا للتنمية الاقتصادية. نزلت الاستهلاكية وبالا على المجتمعات العربية ، وكانت اداة لإحكام السيطرة الامبريالية؛ روجت الفساد الإداري ونهب المال العام وبرزت من جهاز الحكم شريحة البرجوازية البيروقراطية ، الأكثر فسادا ومعاداة للديمقراطية وارتباطا بالسيطرة الامبريالية. وبالنتيجة " لم تتعرض الثورة والوحدة العربية الى هزيمة وحسب ، بل ان الحياة السياسية في الوطن العر بي تفككت وانحلت الى سلطويات محلية وانتهى الأمر الى تصارع بين الأنظمة المتعددة؛ فتعثرت حركة التغيير الاجتماعي وتلكأت التنمية، نجم عن الانشقاق تحول عقائدي هام تجسد في انتشار أصولية إسلامية مقاتلة ومسيسة في صفوف الجماهير العربية.
انزلقت ‘الثورة’ الى تدبير مشاغل يومية ، وأصبحت نظاما عربيا آخر وتجمعت القيادة العسكرية – السياسية – البيروقراطية في طبقة عليا جديدة [150]، واتجه المجتمع الجديد أكثر فأكثر نحو الاستهلاك بدل الاشتراكية، وانجذب الى المادية الغربية والرأسمالية الاستهلاكية اكثر من انجذابه الى الاشتراكية السوفييتية او اشتراكية العالم الثالث ، واتبعت القمع السياسي".[]
في عقد الستينات شرعت الامبريالية الأميركية تنظيم انقلابات اطاحت بالأنظمة الوطنية ، ثورات مضادة اطاحت بالحكومات الوطنية في إيران والأردن وفي البرازيل واندونيسيا وغانا ومصر على شكل عدوان حزيران أحدث تحولات جوهرية في المنطقة أخضعها للسيطرة الامبريالية – الإسرائيلية، ما زالت تحفر في المجتمعات العربية فتنا مصدرة من التحالف المعادي وأسفرت في نهاية الأمر عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل وعقد تحالفات امنية معها . ساعد نجاح عدوان حزيران في تحقيق أهدافه بروز الليبرالية الجديدة نظاما اقتصاديا وثقافيا غزا جميع الأقطار العربية بترحيب الأنظمة الأبوية .
أسفرت الاستهلاكية عن زيادة الاستيراد واختلال الميزان التجاري وميزان المدفوعات وعجز الموازنة؛ عرضت الاحتكارات اموالا للإقراض وسيلة للإيقاع بدول العالم الثالث . وبالفعل تدخل صندوق النقد الدولي لفرض وصفاته المدمرة للاقتصادات الوطنية ولوضاع الجماهير المعيشية . مهدت الاستهلاكية لليبرالية الجديدة وعولمة الرأسمال في عقد السبعينات .

فشلت ‘ثورة’ البرجوازية الصغيرة من فوق مما أدى الى تفجير تناقضاتها الاجتماعية والعقائدية ، أرست ظروفا مهدت لزوالها، "ميل للإكراه والقمع، تدهور خلقي وسياسي برزت خلاله الأصولية الإسلامية على انها عقيدة الخلاص ووعاء الطهارة. عثرت الأصولية على أداتها الطبقية الملائمة لتحركها ، ارتداد الى الدين لدى شرائح برجوازية صغيرة . عبرت الأصولية الدينية الإسلامية عن أحاسيس الجماهير ومعتقداتها ، كما لم تعبر عنها أي عقيدة قومية او اجتماعية حتى الآن". النظام الأبوي لم يصمد بوجه "الثورات" وحسب ، بل خرج أقوى من أي زمن مضى . حتى الأنظمة الوطنية تمسكت بنظام أبوي قمع الحريات العامة وفرض وصايته المطلقة على المجتمع. "الفقه لا يتحكم بالفكر الديني فقط، بل يسيطر على كل نماذج الفكر فيالمجتمع الأبوي المستحدث"[132]
أنماط الثقافة الهجينة يتعهدها النظام الأبوي والهيمنة الثقافية الامبريالية تقيم جدارا مانعا يحول دون التعرف على قيم الحداثة العلمية. شهد العالم العربي في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي صراعات من أجل الديمقراطية ، انحازت الجماهير مع استبداد الحكم، تحت وهم التعلق ب"المستبد العادل". ونظرا لكون الجماهير مشدودة لم تزل بقيم العصر الوسيط وعلاقاته الاجتماعية "لم تتحول اية انتفاضة تقودها الزعامة الوطنية الى حركة جماهيرية دون أن تستلهم الباعث العقائدي للثورة من التراث الإسلامي؛ ولذلك فإن النضال الوطني ضد المستعمر استلهم وحيه وقوته من العرف الأبوي ، وليس من العقائد العلمانية التي بشرت بها النخبة المثقفة. وهذه حقيقة يمكن في ضوئها تفسير عدم إحداث تحول اجتماعي جذري عقب الثورات الوطنية الكبرى خلال نصف القرن الأخير."(القرن العضشرين)[93] . ولذلك رأينا قادة وطنيين يستندون الى عناصر دينية لتبرير احكامهم . لم ينشأ في المجتمعات العربية طوال القرن الماضي نظام حكم علماني خالص، ولا ديمقراطية حقيقية تنفض عهد السيطرة الأبوية وحكم الزعيم الأوحد. ورغم المنجزات الوطنية لأنظمة وطنية عربية نشأت في مصر والعراق وسوريا وليبيا إلا ان المنجزات سرعان مع تبددت مع غياب الزعيم.
احتضنت النظم الأبوية نخبا ثقافية محلية نهلت تعليمها من معاهد الغرب . "كان للأوضاع الخاصة التي نشأت فيها هذه النخب من جهة، وطريقة ثقافتها من جهة أخرى أثر عظيم في تطورها السياسي وفي توجهها العقائدي. تميزت بشعور وطني في السياسة ، وبثقافة ملتزمة بالرأسمالية ومعادية للتقدم و للاشتراكية. تعرفت هذه النخب على انماط التحديث عبر نظام التعليم الجديد من جهة أولى ، وعبر الاتصال المباشر مع أوروبا والأوروبيين من جهة ثانية –بعثات حكومية ، صلات تجارية ، السفر وغير ذلك . ظهر جيل علماني مثقف فرنسيا أو انجليزيا يقوم بدور ريادي وأصيل في الانسلاخ عن الثقافة التقليدية ومناهجها العقيمة. ولكن "سرعان ما اتضح أنه لا يمكن تحقيق انفلات حقيقي أو سريع عن تلك الثقافة"[86] . النخب المثقفة الأبوية المحدثة لا تمت الى شريحة اجتماعية، لكن لم تبدل طبيعتها الأساس ؛ "فالقيم التي تشربتها في مرحلة الطفولة الأولى بقيت تشكل الأساس الذي يوجه التحديث ويجدد البنية العميقة للشخصية وتوجهها"[87]. غياب الأصالة التقليدية وغياب الحداثة الحقة ، تفرز تشكيلا اجتماعيا ‘مثقفين محدثين’، حليف ليس أكثر منه قوة للأبوية المحدثة، وعدو ليس أشد بأسا منه للحداثة الأصيلة. المثقف الأبوي المستحدث وظيفته الولاء ودعم النظام ، ولا يحفل بمهمة التغيير التي تتطلب ثقافة عملية وقدرة تخطيط وتنظيم. وحيث تتم البرهنة على موضوعية فكر ما من خلال الممارسة التطبيقية ، فإن عزوف النظام الأبوي عن العمل لا يتيح المجال لاختبار موضوعية الأفكارأو مصداقيتها. الثقافة لدى المثقف الأبوي وسيلة نفوذ وهيمنة، خاصة وأن اللغة العربية الكلاسيكية تقوم بإنتاج صنف من الخطاب يعبر عن "إيديولوجيا مزدوجة : كامنة في سحر اللغة، ناجمة عن استخدام الألفاظ الرنانة والمفردات الخطابية والأساليب البيانية والإحالات الداخلية، ومستمدة من سلطوية اللغة الناتجة عن والمنتشرة في ظل حماية السلطة السياسية الحاكمة أو التيار الديني السائد، يقدم البلاغة على المضمون ، مجالها الخطابة وليس العلم، الغيبي وليس المرئي، وأولوية القول على الكتاب’[107]. تقليد عشوائي يسفر عن شعوذة اقتصادية وسياسية. وعي صنمي يحول النماذج الثقافية الى أصنام - ترجمات طبق الأصل عن النماذج الأوروبية ، بدون نقد او وعي ذاتي. لا يصْدُق على الأفكار والمؤسسات ‘المستوردة’ فحسب ، بل ينسحب على الأفكار والمؤسسات التي تبدو انها محلية او ناشئة ذاتيا."أبدت الوعي التبعي يرتبط ارتباطا وثيقا بنماذج الفكر اكثر من ارتباطه بمحتويات النماذج. الاستقلالية ، البيروقراطية في الجيشوالتتجلى في ولوج درب التنمية ولالتطوير التقدمي، شرط للاستيعاب الحديث النقدي.تربية والتجارةمظهرا خارجيا حداثيا ، لكن بنيتها الداخليةأبوية بالضرورة"[152].
تضاعفت أعداد المدارس والمعاهد العليا والجامعية بمتواليات هندسية وبقي التخلف يغلف الحياة الاجتماعية . تضاعفت أعداد الخريجات واستمر اضطهاد المراة علامة تخلف اجتماعي شامل، ضحيته الأجيال الناشئة. تضاعفت أعداد الخريجين وتضاعفت معها البطالة تشمل حتى حملة الشهادات الجامعية الرفيعة. اتسع نطاق التعليم دون ان يسفر عن قدرات على إنتاج العلم والمعرفة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن