شيوعيون يُحاربون الشيوعيَّة

عبدالرزاق دحنون
daahnoonabd63@gmail.com

2022 / 4 / 16

لاحظتُ، وأنا أتأمل صورة ملتقطة حديثاً، لأمناء الأحزاب الشيوعيّة وأعضاء من المكاتب السياسيّة واللجان المركزيّة لاجتماع مشترك بين الأحزاب الشيوعيّة العربيّة والعالميّة، بأن الجميع تقريباً في سن الشيخوخة، ويلاحظ اللبيب غياب النساء والشباب في قيادات هذه الأحزاب؟ وأتساءل هل "ختيرت" الأحزاب الشيوعيّة الرسميّة إلى هذه الدرجة، وهل هي تسير في طريق التشرذم والتفكك لتُطوى صفحتها من كتاب التاريخ؟ أم لا علاقة لهذه الأحزاب الشيوعيّة بفكرة الشيوعيّة أصلاً، وهل فشلت الأحزاب الشيوعيَة الرسميّة في حمل الراية الحمراء إلى ذُرى الجبال الشاهقات كما يقول النشيد الأمميّ؟ وأُذكّر هنا بأن من صاغ "البيان الشيوعيّ" كانا في شرخ الشباب، فقد تمَّتْ صياغة شكل البيان الشيوعيّ ونُشر بصيغته المعروفة لأول مرة في طبعة خاصة باللغة الألمانية في لندن في شهر شباط/فبراير عام 1848. في حينه كان كارل ماركس في الثلاثين وفريدريك أنجلز في الثامنة والعشرين من العمر.

شراذم شيوعيّة توزّعَت منصات التواصل الاجتماعي وراحت تنفثُ سُمّا ناقعاً في وجوه بعضها بعضاً. وكل شرذمة من هذه الشراذم تدعي امتلاك الحقيقية المطلقة. وكلمة شراذم هُنا ليست شتيمة على كل حال، هي جمع شرذمة. والشرذمة في المعجمات القليل من الناس، وفي القرآن: "إنَ هؤلاء لَشِرذِمَةٌ قَلِيِلُون" وتشرذم الناس تفرقوا بشكل فوضويّ، تشرذمت الأُمَّة صارت ضعيفة مستباحة. وتشرذمت الأحزاب الشيوعيَة صارت مزقاً.

هذه الشراذم تخوّن بعضها بعضاً وتتهم الواحدة الأخرى بالعمالة والانحراف عن الماركسيَة - اللينينيّة، والشطط يصل بهذه الشراذم في بعض الأحيان إلى العراك العقائدي الفاضح. فأنت لن تكون شيوعيّاً حقيقيّاً، بل ستكون شيوعيّاً مُفلساً، خائناً، منبطحاً، عميلاً، زئبقيّاً، محرّفاً أو منحرفاً -يا لطيف ألطف يا رب- إن انتقدت مثلاً تصرفات الرفيق "شي جين بينغ" الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني في تطبيقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بناء الاشتراكية. والويل لك إن لم تعترف بأن الرفيق ستالين يقف في صفٍّ واحد مع ماركس وأنجلز ولينين، ويمكن أن تُطرد من "جنة الشيوعيّة" لهذا الذنب العظيم. تقول مُدافعاً عن رأيك لا شك بأن الرفيق ستالين كان زعيماً فولاذياً، والشيوعيون -في ظني- أرحم خلق الله، ولكن... لا تكمل حديثك يا رفيق "بلا لكن بلا ماكن" لا خيار أمامك لأن الرفيق لينين أمر الرفيق ستالين أن يكون كذلك، وهذا لصالح الحزب، والرفيق ستالين نفَّذ الأمر فكان قائداً فولاذياً.

لاحظتُ أن الشراذم الشيوعيّة تتنوّع وتتبدّى بأشكال وألوان غاية في التنافر والغرابة. شرذمة هُناك تتبع الخط الرسميّ للأحزاب الشيوعيَة العربيّة والعالميّة وأُخرى تُغرِّد خارج السرب، ومنها من يُحلّق بعيداً جداً، ومنها من ينتظم خارج التصنيف الماركسي-اللينيني-الستاليني. والتصنيفات كثيرة -ونعيبُ ما نزال الملل والنحل الدينية- هل الشيوعيّة دين؟ ما علّة هذا التشرذم هل له أصل في "العقيدة الشيوعيّة" أم هو بدعة، أم اختلاف في المراجع والأئمة والمذاهب أم اختلاف في مشارب الناس الذين يحملون هذه العقيدة وكل إناء بما فيه ينضح؟

تقول لهم يا رفاق سأضرب لكم مثلاً، والضرب هُنا بمعنى عِبْرة، عِظة، مش "بلطجة" وأسأل ولا أُجيب: هل يُعقل شرعاً، ومهما كان الشخص عظيماً، أن يكون أميناً عاماً للحزب الشيوعي حتى وفاته، ومن ثمَّ تُصبح هذه الحكاية "سُنّة" متبعة في الأحزاب الشيوعيّة يحميه ويُكرّسه ما يُعرف باسم "الديمقراطية المركزية": الرفيق يوسف ستالين في الاتحاد السوفييتي، الرفيق ماو تسي تونغ في الصين، الرفيق كيم إيل سونغ وعائلته في كوريا الشمالية الابن الرفيق كيم جون إيل ومن ثمَّ الحفيد الحالي الرفيق كيم جون أون-في كوريا الجنوبية 12 رئيساً مُنتخباً من عام 1948حتى اليوم- الرفيق فيدل كاسترو في كوبا سلّم الراية لأخيه الرفيق راؤول كاسترو، الرفيق غينادي زوغانوف الذي ولد عام 1944 وهو اليوم الأمين العام للحزب الشيوعي الروسي منذ عام 1993.

ومثال آخر -وخذني هنا على قد عقلي يا رفيق- ما الحكمة في أن يبقى الرفيق الأمين العام في منصبه أميناً عامّاً للحزب الشيوعي من عام 1937 حتى وفاته عام 1995 -ستون عاماً تنقص سنتين-مع احترامنا وتقديرنا لجهوده النبيلة في خدمة الشيوعيّة، وكان فولاذياً ومارس هذه "الفولاذيّة" على رفاق دربه ومنهم الشهيد "فرج الله الحلو" من خلال كتابة رسالة "سالم" في النقد الذاتي. وقد شهدتُ بعضاً من فصول هذه "الفولاذيّة" في مؤتمرات الحزب الشيوعيّ، ومن ثمّ تسلّمتْ راية الأمانة العامّة للحزب الرفيقة زوجته وبعد وفاتها تسلّم الراية الرفيق ابنهما، وهذه حقيقية واضحة لا لبس فيها أن يتسلم الراية أفراد الأسرة بالتتابع كابر عن كابر من خلال "الديمقراطيّة المركزيّة". ودع عنك ذكر الحديث عن نظام الحكم في "منظومة الدول الاشتراكية" والتي استمرت لأكثر من سبعين عاماً. ما القصّة، ما سبب ذلك، أين العلّة، ما الفائدة التي ستجنيها الطبقة العاملة أو "البروليتاريا" من بقاء الحاكم في الحكم أو أميناً عامّاً للحزب -في دولة تبني الشيوعيّة على حدّ زعم زعيمها- حتى وفاته. ظاهرة غريبة أليس كذلك؟

أحاول من أكثر من أربعين عاماً من عملي في الحزب الشيوعي أن أفهم كيف يكون الإنسان شيوعياً جيداً، لم أُفلح في ذلك، ولم أصل حتى اليوم إلى نتيجة مرضية. ما السرّ يا ترى؟ الشيوعيّة كفكرة متاحة للجميع، مشاع، يمكن فهمها نظريّاً من الكتب، اقرأ "البيان الشيوعيّ" وستفهم. ولكن عندما "زُرعتْ" في أرض "الواقع" كانت نتيجة الحصاد خليطة غريبة عجيبة فيها القمح والشعير والزيوان والتبن والحصى والتراب والعدس والجلبان. غربل إن كنت تستطيع الغربلة، وفي المثل: "من غربل الناس نخلوه".

هل الشيوعيَة هي أحد أنماط اقتصاد مستقبل العالم والتي ستصل إليه المجتمعات البشرية شاء من شاء وأبى من أبى؟ هل هي قانون ديالكتيك الطبيعة كما تزعم شرذمة من الرفاق، وكما يؤكد ذلك بعض أصحاب الفكر الشيوعيّ؟ أم هي فكرة تتبع الفلسفة الماركسيّة وتتجسد في كفاح الشعوب وفق منهج "الماديّة الديالكتيكيَة والماديّة التاريخيّة" وتجلياتهما؟ وهل هناك من فرق بين فكرة الشيوعيّة وفلسفة ماركس؟ وهل الشيوعيّة تنتمي في المجمل إلى الأفكار؟ أم هي حركة كفاح ونضال في سبيل حريَة الإنسان وكرامته؟ أم هي "حلم" من أحلام البشر في العدل الاجتماعيّ والدولة البسيطة الخالية من أجهزة القمع والتي يُدير فيها الناس شؤونهم بأنفسهم؟ وما الفرق بين ما تتبناه الأحزاب الشيوعيَة من أفكار والشيوعيّة كنظرية كما اكتشفها أو طور مضمونها ماركس - أنجلز؟ أم يجب أن نقول: ستالين- لينين - أنجلز - ماركس. كما هي الصورة التي ترفعها بعض الأحزاب الشيوعيّة العربية في مؤتمراتها وهي التي - أي الأحزاب الشيوعيّة - تحارب الشيوعيّة. هل فعلاً بعض الأحزاب الشيوعيّة تحارب الشيوعيّة من خلال ممارساتها؟ وهل الفساد ملّة واحدة كما أكد المفكر العراقي هادي العلوي في مقاله الذي رفضت الصحف العربية نشره وجاء تحت عنوان" الفساد ملّة واحدة: اسلاميون يحاربون الإسلام وشيوعيون يحاربون الشيوعيّة" تجده منشوراً في كتابه المهم "المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة" الصادر عن دار المدى في طبعته الأولى عام 1998.

هل يمكن أن أكون شيوعيّاً جيداً مثلاً ولا أعادي مفاهيم الدول التي تعتمد الإنتاج الرأسماليّ في اقتصادها، والتي توصف اليوم بالمتوحشة من قبل الأحزاب الشيوعيّة؟ أم أن الأمر يتلخص بالتالي: أنت من أهل الشيوعيّة فأنت معادٍ لأصحاب رأس المال وطرق عيشهم. أو اترك الشيوعيّة لأهلها. طيب، أنا معك، ولكن ماذا أفعل بأهلي ورفاقي الذين يعيشون اليوم في الدول الرأسماليّة المتوحشة ويأخذون جنسيتها ويأكلون من خيراتها، هل أتبرأ منهم وأشتمهم في مثلث أمهم المتساوي الساقين؟ كيف أحارب هذه الرأسماليّة المتوحشة يا رفيق؟ هل عندك وصفة لذلك؟ ولا تُصعِّب عليَّ الأمر، فأسرتي تأكل خبز يومها من عملي في معمل جينز في مدينة "إزمير" على شاطئ بحر إيجة تابع لأصحاب رأس المال المتوحش الهولندي.

في الأمس القريب ناقشت رفيقاً شيوعيّاً مخضرماً في الحزب الشيوعيّ فأكد لي أن النظام القائم في كوريا الشماليّة يسير نحو الشيوعيَة "بنكهة" كوريَة وقد أسس لهذه الشيوعيّة الرفيق "كيم إيل سونغ" وعائلته الابن الرفيق "كيم جون إيل" ومن ثمَّ الحفيد الحالي الرفيق العظيم "كيم جون أون" والناس يعيشون في ظلها أفضل مما يعيشون في ظل نظام الاقتصاد الرأسمالي المتوحش في كوريا الجنوبيَة.
قلتُ له:
ع بتحكي عن جد يا رفيق؟
قال:
عن جد بكل تأكيد، لأن أغلب الأحزاب الشيوعيّة العربيَة والعالميَة تُقيم علاقات طيّبة مع قيادة كوريا الشماليّة فهل تعتقد أن الجميع على خطأ وأنت على صواب؟ جمهورية كوريا الديمقراطيَة الشعبيّة تسير في النهج المعادي للإمبرياليّة والرأسماليَة المتوحشة وتبني الشيوعيّة.
قلتُ:
هم على خطأ بكل تأكيد، الناس في كوريا الجنوبيَة في الواقع يعيشون حياة أفضل بأشواط من حياة الناس في كوريا الشماليَة. ولا مقارنة بين الشطرين، الفروقات هائلة، تكاد تكون جنة ونار. ودليلي أن أصدقاء لي عمّال من حارتنا في مدينة إدلب في الشمال السوريّ يعملون في كوريا الجنوبيّة من سنوات والحياة جيدة هُناك.
قال: أنت شيوعي وتقول ذلك، خاطرك، نلتقي فيما بعد.
كأن أفعى لدغته، استأذن، وانصرف، رحل على عجل، وهذا وجه الضيف، لم أره بعدها مطلقاً فقد أخرجني ببساطة من جنته الشيوعيّة. وفي المثل الدارج "نحصد ما نزرع" فأنت لن تحصد قمحاً إذا زرعت شعيراً. ولن تحصد سلاماً إن زرعت إرهاباً. ولن تحصد ديمقراطية إن زرعت استبداداً. ولكن هيهات أن يُرضيه هذا الكلام.

أنا لا افهم الأمر، هل تحولت الشيوعيَة في مفهومات الأحزاب الشيوعيّة إلى أيديولوجية، وبالتالي أصبحت عقيدة دينيّة لا يُقْبل الجدل فيها مع أنها أم الديالكتيك وأخته، هل أمست عقيدة دينيّة فعلاً، تعتمد الاعتقاد لا العمل. وهذا يُخالف "أسس الشيوعيَة"؟ وفي اعتقادي حتى الله يُحاسب البشر على أعمالهم لا على عقيدتهم ونواياهم. العقيدة هي شر ما يملكه أهل الشيوعيّة، يؤكد هادي العلوي: "العقيدة هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حريّة الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخيّ معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليوميّ لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء"

في حادثة حقيقية رواها لي أحد الرفاق في الحزب الشيوعيّ في مدينة إدلب، تُجسد العقيدة بأبشع صورها، مع انه كان يراها مثالاً فذاً لصلابة الشيوعيّ وبطولته وتفانيه في خدمة حزبه وأيديولوجيته. يقول بفخر واعتزاز:

كانت الأيام برداً زمهريراً، وكنتُ أسكن مع زوجتي في "بيت على قدّنا" يتألف من غرفة واحدة وشبه مطبخ وحمام. وفي مساء ذلك اليوم أوقدنا المدفأة بالمازوت وجلسنا حولها نشرب الشاي. بعد قليل سمعت صوت نداء أحد الرفاق في الشارع، فتحت الباب فإذا أربعة رفاق في الخلية الحزبية التي أنتمي إليها قد نقلوا الاجتماع الحزبي إلى بيتي لضرورات أمنيّة. دخلت البيت وقلت لزوجتي أين سأضعك الآن؟ بعد مشاورات رضيت أن تدخل في خزانة الثياب وتنتظر هُناك إلى حين انتهاء "اجتماع الخليَة الحزبيَة السريّ" حول المدفأة. وفعلاً بقيت محبوسة في خزانة الثياب لساعات عديدة دون حركة ولا صوت، هذا هو الشيوعيّ الحقيقيّ، يقول رفيقي. قلتُ في سري -طبعاً- الله لا يعطيك العافية على هذا السلوك المشين.

رويتُ هذه الحكاية في دبي للأديب السوري الساخر حسيب كيالي-كان محسوباً على الحزب الشيوعي وسجن أيام الوحدة بين سورية ومصر- فقال بعد أن ضحك كثيراً- أضحك الله سنكم-: والله لو كنت مكان تلك المرأة المسكينة لأخرجت "الخيزرانة" من خلف الخزانة وبدأتُ ضرب هؤلاء الرفاق بما فيهم الزوج ولحقت بهم وهم يصرخون من ألم الضرب ويركضون أمامي ولا اتركهم حتى حدود تركيا.

قلتُ سابقاً، وأعيد القول: إن التصريح الخطير الذي جاء في مقدمة كتاب المفكر العراقي هادي العلوي مدارات صوفية - تراث الثورة المشاعيّة في الشرق والذي يقول فيه: "كي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي" وهو الأساس في الكفاح اليومي للشيوعيّ، وأعتقد من وجه نظري أن الهادي فهم الشيوعيّة على حقيقتها وطبقها على نفسه حتى آخر يوم من حياته.

الشيوعيّة-المشاعيّة تجنح نحو تحقيق سيرورة إنهاض تحتاجها طبقة عاملة كادحة في الحقل والمصنع وتضم على هامشها فئات واسعة من المعدمين والمهمشين والمساكين وأصحاب السبيل الذين أعيتهم لقمة العيش. هؤلاء وغيرهم في حاجة إلى باب الرفق والرحمة والحنان البشري مع حق الدفاع عن النفس في وجه جبروت الثروة وطاغوت القوة بعدما عانوا مما يزيد عن الكفاية من القهر والذّل.

الشغيلة في كل المجتمعات هم بحاجة إلى شيوعيين من نسيجهم يملكون قلوباً حارَّة شجاعة تستطيع-بلا مِنَّة من أحد- الوقوف معهم في الشدائد والمحن. هل نستنطق الأمل في أن هذه الفئة من الخلق ستُعيد اكتشاف نفسها ليس فقط من خلال معاناتها، بل وأيضاً من خلال هاجس إخراجها من ورطات الذّل والفقر وتمليكها ما تستغني به عن التعب والكد، مما لا يتم دون إعادة توزيع الثروة الاجتماعيّة؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن