من بغداد الى القيروان طيب المسك

الحبيب حميدي
hbibhmidi123@gmail.com

2022 / 4 / 6

في القيروان ذاكرته الشخصية وحلاوة طفولته التقط في شوارعها كل الابتسام وفي ازقتها كل الزهر
في القيروان طيب خاص لم يعثر عليه في كل المدن التي زارها هي فكره ومجده ترابها مسك وحصاها جوهريات يذكر القيروان فيبكيها كما بكاها الحصري

كان لا يستيقظ الا وهي في نور عينيه ولا تسبل سدول ليلها عليه الا وهي في خافق قلبه فلا الطرقات إذا تفرقت او تجمعت الا وهي فانوسه الأسنى ولا النوافذ ان فتحت او اغلقت الا كانت بطيب بيوتها الاذكى في انفاسه.
وعلى الجدران البيضاء اينما حل ارتسمت شعورها واسحارها وانضارها اطيافا تناديه لم تكن تبتسم الاله ولم يكن يبتسم الا لها وكم ود ود ابن شرف طائرا يراها باحثا يتأمل. يتذكرها فيرى شارع المر وباب الجلادين وباب تونس واسراب الحمائم في كل المساءات والاعياد وايام المولد النبوي فرادى وجماعات الى جامع ابي زمعة البلوي.

يرى روحه في الحشود تتدفق إلى القيروان رجالا ونساء تغبطه نشوة الاستماع الى الاناشيد الصوفية.
المولد هناك مناسبة عظيمة للصلاة والذكر لمن شاء أن يتذكر وفرصة لمن لا يريد أن تنفعه الذكرى
فمن الزقاق إلى الزقاق شباب يدفعه عبث ويدفئه سمر. حفيف على الأبواب وتحت النوافذ.
هناك في الظلمة وعلى فوانيس خافتة تحيا قلوب وتموت قلوب. وفي الشوارع المؤدية إلى جامع أبي زمعة والى جامع عقبة سيل أجساد حامية وأرواح ذوابل وأفئدة وطيس.
أمان على الله للعباد أن يرزق وهو خير الرازقين وأن يرحم وهو خير الراحمين. للأتقياء رزق مما كتب الله وللنساء والرجال الطيبين والطيبات والعابدين والعابدات والخبيثين والخبيثات رزق مما كتب الله. وهجرة كل عابد إلى ما هاجر إليه.
مصلون ومصليات ومسبحون ومسبحات لترانيمهم صدى ولأدعيتهم نشر طيب يسري في المؤمنين رحمة ونورا بقلوب تخفق وعيون تدمع وهي تنشد وقوفا على دفوف الشيوخ: ولد الهدى.

و تسترجع في زواياها: اين من نحل وذاب اين من شفه الوداد . لابي علي القيرواني الصوفي
اين من همه الحبيب واين من دهره غريب
وقول ابي عبد الله الصولي:
يا من اذاب فؤادي في محبته وأضرم النار في قلبي واحشائي
ما ان ذكرتك الا بت في خلدي بموضع الماء من قلبي واعضائي
يحضر ذلك مستمتعا.
ثم إذا هو خرج وإذا سار وإذا انعطف حسنا رأى وفي نفسه خير هذا بشر ذا فاذا الله قد عفا.
قتيل شهيد من تتصباه حسان القيروان وقتيل شهيد من قتله اللعس وتكسير الجفون.
قال الباشا حسن حسني عبد الوهاب : هن حسان من اصول شتى بربريات وعربيات وفارسيات وروميات.
كن حيث شئت في القيروان هذا بين البخور والعطور وهي تفوح على أنوف ووجوه قرصها برد الليل وقد زفت في رحابها واسواقها وبيوتها اطباق العصائد والمحلى فهو منها في لذة نعيم.
وذاك بين أصوات الأذكار تصدح من الجوامع فتسري في سائر البدن حرارة وغبطة واطمئنانا فهو منها في دفء الإيمان.
ذاك بين القدود والنهود والخدود والأبكار فهو منها في عيشة راضية.
وهذا بالدعاء والصلاة يدخل في عباد الله في جنة راضية. كل في شأن فان شئت حييت وان شئت حييت ولله في خلقه شؤون فكل أمرئ يومئذ في شان يغنيه.
تمر بك العذارى والصبايا وذوات القدود كلمى وكأن قد....
يذكر القيروان كما عاش فيها صبيا ببهائها وجمال أسواقها ونشاط حركتها وسطوة جوامعها وطيب ريحها تنام وتصحو عواطف. تنفق الأموال والأدعية وتغتبط النفوس والى الله يصعد الكلم الطيب.
يحضره وهو في غرفة الحجز كيف دعا لها عقبة في حال الجهاد والدعوة حتى امتلأت علما وفقها وعمرت بالعابدين الطائعين
من القيروان كان الفتح الى فاس وقرطبة واشبيلية الى الادب الجميل الى ولادة بنت المستكفي وابن زيدون ومن القيروان الى صقلية
من هنا مرت الكتب إلى بيوت الحكمة وعلى هذه البلاطات دقت كعوب الصواهل وصلصلت المناصل والذوابل.
كان كلما دخل عليها عرضت له في تلكم الهضاب جحافل جرجير وخيول الفاتحين وكل الهوادج فتتسارع امام ناظريه كل صراعات الماضي. من هنا مر العبادلة وهنا استقر البلوي ابو زمعة بجلولاء ومن هنا رفع الى القيروان.

غادر القيروان ولشد ما كان يعجبه فيها هذه الحياة البسيطة التي أدرك فيما بعد انها تلك روح الشرق كله مهل على مهل حب لله والحياة حب للجمال والكمال في استرخاء واطمئنان.
هكذا يحدث الجالسون المتربعون اخبارهم صباح مساء على ارصفة المقاهي كالمنتظرين لمجهول او حادث يبدل رتابة الحاضر فينشطوا له مرة ثم يقعدون من جديد في انتظار الاتي الذي قد لا يأتي يدخنون انواع السجائر ويحتسون انواع القهوة والشاي المغذى بالنعناع وهم كلام على كلام وحديثهم فنون ولحديثهم بقية من نسيج لا ينتهي تنساب معه أنغام تسري في القلوب والافئدة بلا عناء.
لم تكن القيروان وطرابلس وبيروت وبغداد والموصل وحلب ودمشق ومازار في تركيا اسطنبول وازمير واسكشهر على غير تلك الطريقة جميعها يتعطر وجميعها على نفس النرجيلة وريح البخور والقهوة وأنغام الطرب وبين الرائح والغادي واكداس الجلاس على ارصفة الطرقات
صلوات وادعية وتسليم وكلما نودي للصلاة صلوا وكلما نودي باسم رسول صلوا وكلما مرت حسناء صلوا ودعوا واستدعوا وكلما مر عليهم مار استبشروا استبشارا وسلموا تسليما وان هو بان صار في شانه حديث فاذا فرغوا من هذا كله هبوا يستروحون جيئة وذهابا وان هم استنفدوا جهد المراوحة عادوا للجلوس والحديث من جديد وتلك وتيرتهم قعود وقيام ثم قعود وقيام حتى ينكفئ النهار.
هناك في القيروان تعلم الجلوس مع الجالسين في المقاهي فلا شيء يانس اليه الناس مثل المقهى فحرارة الهاجرة لا تبقي على الراجل
المقهى مظلة الراجل ودار ثقافة ودار ندوة والمقاهي عامة منبر من لا منبر له ولعل لا شيء يغري بالحديث الا حيث تكون الجلبة والغوغاء وروائح التبغ وغرغرة النرجيلة واصوات الكؤوس تقرع بين الحين والحين وعلى الأنغام الهادئة حينا والصائتة احيانا
كان يخوض مع الخائضين من حيث يدري ولايدري حديث في الحرب وحديث في الحب وحديث في الاثم سب ومدح وقذف ونميمة وفلسفة وادب ودين وسياسة وما للجهر للجهر وما للسر للسر وبين الحديث والحديث ثمة انتظار هنا وهناك وهنا وهناك رقيب وهنا وهناك واش وشرطي لا يراه احد ولكنه يرى الناس جميعا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن