من تراث الحركة الشيوعية: المداخلة الثانية (*) للرفيق حيدر مندوب فلسطين في المؤتمر السّادس للأمميّة الشّيوعيّة الثّالثة (17جويلية - 1 أوت 1928). ترجمة أمين باشا ومراجعة إبراهيم العثماني وخميس عرفاوي

أمين باشا
bekirderetour@gmail.com

2022 / 3 / 24

أيّها الرّفاق، لقد ظلّ المشكل العربيّ [وأعني] تحديدا المشرق العربيّ غائبا عن هذه الأطروحات كما هو الشّأن في التّقارير المتعلّقة بالمسألة الاستعماريّة.
وبما أنّه قد تمّ طرح المشكل الهنديّ على جدول أعمال اليوم فأعتقد أنّه قد صار لزاما علينا أيضا تناول المسألة العربيّة بنفس الدّرجة. إنّ لهذه المسألة أهميّة فائقة، ذلك أنّ لدينا هنا رقعة جغرافيّة صغيرة نسبيّا يتكثّف فيها عدد كبير من المشاكل والمسائل الهامّة، عددٌ من أمثلة التدّخل الامبرياليّ، وأصناف شتّى من أشكال السّيطرة الاستعماريّة. إذ تتسنّى لنا هنا رؤية كلّ شيء بدءا بالاستعباد المشين للسّودان وصولا إلى شكل الاسترقاق المُلطّـف حسب آخر ابتكار جادت به القريحة الامبرياليّة، ألا وهو نظام الانتداب.
لقد مرّت الحركة الثوريّة [ في المشرق العربيّ] بالمراحل التّالية: امتدّت الفترة الأولى _ من سنة 1917 إلى 1922. وخلال هذه الفترة كانت القوى الامبرياليّة قد بدأت بمجرّد تشكيل مخطّطاتها لاقتسام واحتلال هذه البلدان. وخلال هذه الفترة أيضا شاهدنا تناميا مذهلا للحركة الثّوريّة. وتبعا لذلك، كان على البريطانيّين التّرفيع من عدد قواتهم في العراق إلى 120.000 رجل، أمّا فرنسا فقد كان عليها الإبقاء على جيش قوامه 120.000 جنديّ في سوريا وتحتّم أيضا الإبقاء على الآلاف من الجنود البريطانيّين كقوّات احتياطيّة في فلسطين ومصر والسّودان. كان في مصر شكل قويّ من الثّورة التي ضمّت كلّ مكوّنات الشّعب من " الفلاّحين وصولا إلى عائلة الخديوي" وفق تعبير أحد الامبرياليّين. أمّا في محافظات الرّيف، فقد كانت هناك أعمال تمرّد وانتفاضات واحتجاجات وسلسلة كاملة من الاغتيالات حيث تمّ في فترة زمنيّة قياسيّة تنفيذ 260 عمليّة فدائيّة ناجحة.
في العراق اتّخذت حرب العصابات شكلا منتظما للمعارك تكبّد البريطانيّيون خلالها خسائر فاق تعدادها 8000 قتيل.
في سوريا شهدنا سلسلة كاملة من أشكال التمرّد المسلّح والتي وصفتها تقارير هيئة الأركان العامّة الفرنسيّة بأعمال العصابات الإجراميّة(1).
في فلسطين كانت هناك مذابح يهوديّة(2) بما أنّ البريطانيّين كانوا بصدد تحريض أمّة على أخرى للانحراف بالحركة الوطنيّة عن مسارها(3).
ورغم القوّة الهائلة للامبرياليّة البريطانيّة فقد تحتّم عليها [ أمام تمدّد هذه الحركة الثّوريّة] التّنازل والقيام ببعض التّسويات، حيث أُلغي الانتداب البريطانيّ في العراق وتمّ تعويضه بمعاهدة "طوعيّة" (4) وتمّ كذلك إعلان مصر ك"بلد مستقلّ" (5) فيما قام تشرشل بإلغاء وعد بلفور الشّهير المتعلّق بفلسطين في الكتاب الأبيض(6). وما إن استسلمت الامبرياليّة حتى تمّ الإعلان عن بداية ما صار يسمّى بشهر العسل للبرجوازيّة الوطنيّة المحلّية. فبعد أن حفّزتها التّنازلات السّياسيّة التي تحصّلت عليها قامت البرجوازيّة بتجميع قواها، وبدأ الاقتصاد المحلّي ينمو وتمّ رصد مراكمةٍ سريعة لكتلة رأس المال في المحافظات وخاصّة في مجال الزّراعة. لقد تمّ تغيير المشهد برمّته: إذ انهار نظام المِلـْكية الإقطاعيّ البطرياركيّ القديم، وتمّ التخلّي عن المِلـْكية الجماعيّة ("المشاعة" ) لتحلّ محلّها الملكية الخاصّة. وجنبا إلى جنب مع نشوء الملكيّة الخاصّة للأرض، ظهرت أشكال أخرى من رسملة الاقتصاد الريفيّ ومركزته عبر تجميع الملكيّات الرّيفيّة. ونتجت عن ذلك عمليّة تمايز طبقيّ حادّة داخل مجتمع الفلاّحين في القرى: فئة الكولاك ويمثّلها إلى يومنا هذا شخص مّا مجهول في القرية يقابله عامل الأرض المعدم. وتبعا لذلك أفضى التّقسيم الاجتماعيّ القديم في القرية القائم على العشائريّة(ما يعرف محلّيا ب"الحُمولة" أي العشائر) إلى تقسيم جديد قائم على الطّبقيّة وتركت الحزازات القديمة بين العشائر وعمليّات الانتقام الثأريّة ...إلخ مكانها إلى حالتي الحقد الطّبقيّ والصّراع الطّبقيّ، حيث بدأ الرّيف ينمو. إذْ ما لبث أنْ شرع متوسّطو الفلّاحين في تكديس ثرواتهم من القطع الذّهبيّة لاقتناء الماشية والآلات والتّجهيزات الفلاحيّة وذلك بالتّوازي مع ارتفاع طاقة استيعاب السّوق الدّاخليّة وتطوّر الصّناعات المحلّية؛ وباختصار، لقد كان نموّ رأس المال يسير بوتيرة متسارعة. وما لبثت أن توتّرت العلاقات مع الامبرياليّين من جديد وتحوّل مركز الحركة الوطنيّة من قلب الجزيرة العربيّة(7) إلى المناطق الصّناعيّة والتّجاريّة، نحو سوريا والعراق وفلسطين. وفي ذات الوقت كانت هناك عمليّة جارية أعادت ترتيب أشكال الصّراع. فعوضا عن الانقسامات الإقطاعيّة والقبليّة القديمة ظهرت تقسيمات طبقيّة جديدة. وتوازيا مع تطوّر الطّابع الطّبقيّ للمجتمع بدأت مظاهر التّمايز الطّبقي كذلك تتجلّي فيه أكثر فأكثر. من ذلك أنّ البرجوازية لم تتميّز عن الإقطاعييّن ثقافيّا فحسب بل برهنت أيضا من جانبها على قدر كبير من اللّيونة والانصياع في اتّجاه خيار التّفاوض السّلميّ. لقد برز وترعرع داخل صفوف هذه البرجوازيّة عينِها ما يعرف بالتيّار "الإصلاحيّ الوطنيّ".
خلال تلك الفترة اتّسمت كذلك الحركة الثّوريّة في هذه البلدان بطابع ثانٍ: ألا وهو نشوء الحركة العمّاليّة. وإذا ما عقدنا مقارنة بين الحركة العمّاليّة في هذه البلدان ونظريتها في الصّين فستصدمنا الحقائق التّالية: في الصّين مثلا، صارت الطّبقة العاملة طبقة نشطة بطبعها منذ بداية انطلاق الحراك الثّوريّ (حملة البعثة الشّماليّة، ثورة شنغهاي) باعتبارها كانت مهيكلة في نقابات عمّاليّة ولديها حزب شارك بكثافة في الأحداث التي وقعت في الصّين. ويعدّ هذا نقيضا لما يمكن ملاحظته بالنّسبة إلى وضع العمّال في الشّرق العربيّ حيث لم يباشر العمّال العرب النّزول إلى ساحات النضال إلاّ بعد إرجاء طويل لذلك. وبسبب ذلك لم تمثّـل جماهير العمّال خلال انتفاضات مصر وسوريا سوى حطب المعركة ولم يبرز خلالها العمّال كطبقة بذاتها، أي كقوّة مهيكلة. ولم يستهلّ الحزب الشّيوعيّ المصريّ نشاطه بتكوين كيومنتناغ جامع، أو بدعم زغلول باشا بقدر ما بادر بإدانة هذا الأخير بشكل حادّ.
لقد وقع كلّ هذا منذ ستّ سنوات خلت قبل أن تعمّ أنباء الثّورة الصّينية الشّرق، وبذلك قادت أخطاء الحزب المصريّ وخاصّة انعزاليّته إلى عواقب وخيمة، إلى قطيعة تامّة بين الحركة الثّوريّة وحركة النّضال الوطني ككلّ. وكانت نتيجة كلّ ذلك أنْ تصدّر حزب الوفد، وهم أتباع زغلول، زعامة العمّال المصريّين. لقد تمكّنوا من حيازة القيادة داخل كافّة المنظّمات وفي جميع محافظات الرّيف(8) فيما لم يعلن الحزب الشّيوعيّ عن وجوده إلاّ في أعقاب الموجة الثّوريّة. لقد تحتّم علينا أن نكسب الطّبقة العاملة إلى صفّنا في ظرف كان يتّسم بانحسار الحركة الثّوريّة. وما إنْ شرعت الطّبقة العاملة المنظّـمة في دفع الحركة إلى الأمام حتّى بدأت البرجوازيّة من ناحيتها في البحث عن سبل للتّوافق مع الامبرياليّين. إنّي أعلن في هذا الخصوص بشكل قاطع أنّ هذا السّعي المحموم إلى عقد السّلام مع الامبرياليّين من جهة والموقف المغلّف بالجمل الثّوريّة من جهة أخرى لهُما جوهر سياسة زغلول وحزب الوفد. ويجدُر بنا تفسير ذلك لا بمجرّد خشيتهم من النّضال ومن العمل الثّوريّ فحسب بل أيضا بتخوّفهم من تأثير المنافسة الشّيوعيّة لهم. ومن المعلوم أنّ البعثة البريطانيّة (9) برئاسة اللّورد ميلنر (10) قد تمّت مقاطعتها من طرف عموم الشّعب(11) ولم يكن زغلول ليتفاوض مع اللّورد ميلنر لولا خضوعه لضغط التّهديدات. إذ أنّ ميلنر توجّه إلى الوفديّين قائلا: "هل تريدون أن يصبح الأمر هنا في مصر كما هو الحال في روسيا السّوفياتية ؟ أتُرَاكم صرتم ترغبون في مُراودة الخطر البلشفيّ؟ "
وبالفعل، ما إن وصل زغلول إلى السّلطة حتى شرع في سحق كنفدرالية النّقابات (12)، وهي فرعنا من "الأمميّة النقابية الحمراء " (13) إلى جانب اضطهاده للحركة العمّالية عموما. من هنا بدأ الوفد يواجه صعوبات جديدة. إذ كان في حاجة إلى إيجاد حلفاء ولم يكن بوسعه في الآن نفسه العملُ يدًا بيد مع العمّال خاصّة وأنّه كان قد فقدَ كلّ تأثير في صفوفهم. لقد كان الوفد يودّ أن يعمل مع الامبرياليّين، لكنّ هؤلاء لم تكن لديهم لا الرّغبة ولا القدرة على تلبية أدنى مطالب الوفديّين. إنّ الامبرياليّين لا يريدون من الوفد سوى أن يكون كتلة معارضة، وعنصر قلق لدى الإقطاعييّن (14) كما يريدون أيضا، من جهة أخرى، تحديد مربّع تحركاته حتّى يتسنّى لهم مراقبة تأثيره الجماهيريّ عن كثب.
ما هو الموقف الّذي ينبغي علينا اتّخاذه من الوفد؟ يعتقد بعض الرّفاق أنّ الدّور الثّوريّ المطروح على كاهل الوفد قد تمّ إنجازه وأنّ هذا الحزب قد تحوّل راهنا إلى قوّة مضّادة للثّورة، أنّه قد ارتبط بالقوى المعادية للثّورة وأنّه لا سبيل للحديث عن أيّ تحالف معه. لكنّي، يا رفاق، أعتقد أنّنا سنقع بذلك في المحظور وسنرتكب خطأ جسيما إن قمنا بمقاطعة الوفد. وبوسعي صياغة مهامّنا في مصر على النّحو التالي: لنقُل إنّه لا مجال لتكوين حلف مع الوفد، لا مجال لتكوين منظّمات مشتركة معهم ولكن من الضّروري وجود اتّصال لا ينقطع مع الوفديّين، يكون اتّصالا مبنيّا على قاعدة إنجاز مهامَّ بعينها. إنّ إمكانيّة تحوّل الوفد إلى تنظيم جماهيريّ، تنظيمٍ ديمقراطيّ، قد تعني تشكّل منظومة مضادّة لنا، منظومة من شأنها تقوية شوكة تأثير التّيار الإصلاحيّ الوطنيّ أكثر مّما هي عليه الآن.
لنتناول الآن مسألة تكوين حزب للعمّال والفلاّحين. إنّ هذا الأمر يعدّ مجرّد طرح مثاليّ. ليس ذلك للخطر الذي تمثّله إمكانيّة تحوّل الحزب الشّيوعيّ إلى حزب برجوازيّ صغير نتيجة لتحالفه مع طبقة الفلاّحين، ولكن ببساطة لأنّ إمكانيّة هذا التّحالف نفسِه تظلّ غير واردة بالمرّة. وليس بمقدور أيّ حزب شيوعيّ كائنا من كان، ولا أيّ كوادر حزبيّة أن تتحمّل مهمّة تنظيم وهيكلة طبقة المزارعين. يجب التّعامل مع طبقة الفلاّحين بشكل مختلف تماما. لهذا اقترح بشكل أكيد تكوين لجان فلاحيّة، جمعيات تعاضديّة، منظّمات اقتصاديّة مختلفة كالتّعاونيّات التي توفّر كافّة أشكال المساعدات الخيريّة والقانونيّة مثلا، والتي من شأنها استقطاب جمهور عمّال الزّراعة والفلاّحين وفقراء المزارعين . يجب أن نضع في حسباننا يا رفاق أنّ الفلاح المصريّ ينفق ستّة أشهر من السّنة كعامل أجير ويقضّي نصف السّنة المتبقّي يعمل كمالك للأرض. بمعنى آخر إنّه يصبح من العسير علينا تصنيفه سواء أكان ذلك في فئة العمّال أم في فئة صغار الفلاّحين.
- فاسيلاف(15) متسائلا من وسط القاعة : إذن كيف ستتمكّن من توحيد هذه العناصر داخل حركة واحدة ؟
- إنّ لديهم مصالح مادّيّة مشتركة. فالفلاّح المصريّ يعاني من استغلال المضاربين ويعتمد نشاطه على المرابين. وتوجد حركة تعاضديّة قويّة يدعمها الوطنيّون. فإذا ما كنّا فعلا ننشد إيجاد قاعدة لنستهلّ منها نشاطنا فيجب علينا استغلال هذه التّعاضديّة في ذلك الاتّجاه.
بضع كلمات حول الجزيرة العربيّة، سوريا، فلسطين والعراق. أمّا سوريا فقد تعرّضت حركة التّحرر الوطنيّ فيها لانتكاسة بعد الثّورة. ورغم ذلك فإنّ عكس ما وقع في مصر تماما قد حدث في سوريا. قد يبدو ما سأقوله مزعجا ولكنّي لا أجد تعبيرا آخر مناسبا لما يجول بخاطري. ألسنا كما العمّال في الصّين مستائين من خيانة الوطنيّين مثل تشان كاي تشيك (16)، وساخطين على تحالفهم مع الامبرياليّين؟ ومع ذلك أجد أنّ ما وقع في سوريا قد وضَعنا في الجهة المقابلة [من المعركة]. ففي لحظة النّضال الثّوريّ، في أوج مدّ الثّورة، لمّا كان الوطنيّون العرب من الجزيرة العربيّة وسوريا يقاتلون بقوة وبسالة كان ثمّة انطباع لديهم أنّه قد تمّت خيانتهم من طرف البروليتاريا الأوربيّة . ولم يتبدّد شعور انعدام الثّقة هذا إلى حدّ اللّحظة. لذلك صارت تواجهنا اليوم مهمّة كبرى: علينا أن نثبت أنّنا شعوب مختلفة عن طينة ماكدونالد (17) الذي أطلق على نفسه تسمية صديق الشّعوب المضطهدة قبل أن يحذو في النّهاية حذو الرأسماليّين. لقد أضحى الحزب الشّيوعيّ في سوريا وفلسطين بعد فشل الثّورة السّوريّة (18) في وضع لا يحسد عليه. إذ هو من جهة مطالب بتعرية الخونة وفضحهم على غرار الإقطاعيّين وممثّلي الدّيمقراطيّة البرجوازيّة، ومن جهة أخرى يتحتّم عليه دائما دحض الشّكوك التي ارتفع منسوبها لدى السّكان الأصليّين تجاه البروليتاريا الأوربيّة للأسباب المقدمة آنفا.
هناك مشكلة أخرى، خطر آخر يواجهنا وهو الإصلاحيّة. لقد تمّ التّطرّق خلال المؤتمر إلى هذه المسألة بشكل مستفيض ولكنّي أعتقد أنّ كمّ الإصلاحيّة الذي صار موجودا في مستعمرة فلسطين لا يضارعه شيء آخر في أيّ مستعمرة أخرى. إذ توجد هناك منظّمة إصلاحيّة قويّة (19)، تديرها الامبرياليّة الأوربيّة وتعتمد في ذلك على الحركة الصّهيونيّة التي كانت قد تمكّنت بدورها من بعث قاعدة قويّة لها هناك. وبالرّغم من قوّة الحركة العمّاليّة في فلسطين تبقى الحركة الإصلاحيّة أقوى منها بكثير. وفي خضمّ مقاومتها للتّأثير الشّيوعيّ فإنّها بصدد القيام في سبيل ذلك بكلّ شيء، بدءا بأساليب الاضطهاد الوحشيّ للعمّال الثّوريّين وصولا إلى أساليب الخداع كإيهام العمّال "بالجنّة الشّيوعيّة" الموعودة التي سيتمّ بناؤها في أرض فلسطين. إنّهم وباختصار يوهمون الجماهير ببناء "مجتمع شيوعيّ" تحت مظلّة الانتداب البريطانيّ.
إنّ الشرق العربي يقع الآن في مفترق طرق. وكما أظهرت نتائج آخر الأحداث في مصر فإنّ المسألة التي تواجهنا اليوم لم تعد نظريّة بالقدر الذي اتّخذت فيه شكلا عمليّا عميقا. وبالنّظر إلى الأحداث الكبرى المرتقبة وشيكا في تلك البلاد فقد صار يتحتّم علينا التهيّؤ لمواكبتها حتى لا ندركها بعد فوات الأوان. أؤكّد أّنّنا إذا ما تشبّثنا أكثر بالموقف الحاليّ سنكون بذلك حتما متأخّرين عن مجريات الأحداث.
أودّ كذلك أن أختم بالملاحظة التّالية، أعتقد أنّ أعظم خطر -ولعلّه يُعدّ أيضا أكبر مصيبة تحيط بالحركة الثّورية في الشّرق- هو حقيقة كونها تفرض دائما على نفسها الهزيمة بسبب عدم تزامنها واختلال فارق توقيتها في كلّ قطر على حدة. فلمّا كانت مصر وسوريا هادئتين كان هناك حراك جارف في العراق، ولمّا شُنّ الإضراب الكبير لعمّال المناجم في انكلترا (20) كان الهدوء يخيّم على بلدنا(21). ومقابل ذلك عندما انطلقت الحركة الثّوريّة في الشّرق كان السكون يخيّم على انكلترا. وبالتّالي فإنّ مهمّة البروليتاريا الأوروبيّة صارت تتمثّل في عدم التّخلّف عن ركب الحركة الثّوريّة في المستعمرات خلافا للمسار الّذي اتخذته الأحداث إلى حدّ هذه اللّحظة. هذه هي مهمّتنا الرّئيسيّة في الشّرق، وهذا هو الشّرط الذي لا مناص من توفّره كي يتحقّق انتصار حركة التّحرّر الوطنيّ.

هوامش (وضعها المترجم):
(*) قمنا بترجمة هذه الوثيقة اعتمادا على النّصّ المنشور باللّغة الإنكليزيّة في "انبريكور"، من أرشيف الكومنترن المنشور على
http://ciml.250x.com/archive/comintern/sections/palestine/6_congress_comintern_second_speech_delegate_from_palestine_1928.pdf


1- كان الحزب الشّيوعيّ الفلسطينيّ يعتبر المناوشات العربيّة اليهوديّة في فلسطين أحداثا مفتعلة من قبل سلطات الانتداب البريطانيّ تهدف إلى تمكين سلطة الامبرياليّة البريطانيّة من فلسطين وصرف أنظار الجماهير الفلسطينيّة عن مواجهتها والتي كان الحزب يعتبرها أمّ المعارك . كما أكّد ذلك موسى البديري في كتابه حول تاريخ الحزب الشّيوعيّ لفلسطين. أنظر:
Budeiri, Musa. The Palestine Communist Party, Its Arabisation and the Arab Jewish Conflict in Palestine, 1929-1948. Aug. 1977, p. 21, etheses.lse.ac.uk/3571/. Accessed 3 Feb. 2022.
2- يذكر موسى البديري أنّ الأمر تحوّل، في سنة 1921 وأثناء تصادم موكب صهيوني بمسيرة نظّمها حزب العمّال الاشتراكيّ ((MPS بالقدس، إلى أعمال شغب قام بها العرب داخل الحيّ اليهوديّ. حول ذلك انظر:
(Budeiri, p. 17) مصدر سابق
3- واجهت فرنسا في سنوات بداية الانتداب على سوريا ولبنان مقاومة شرسة على جبهات مختلفة كثورة العلي 1918-1921 وثورة ابراهيم هنانو 1919-1921، ثورة عشائر الجولان 1919-1920 إلى جانب المقاومة العسكريّة والشّعبية بقيادة يوسف العظمة 1920-1921.
4- المعاهدة الإنكليزيّة العراقيّة ( أو الاتّفاقية البريطانيّة العراقيّة ) هي معاهدة وقّعها كل من بيرسي كوكس كممثّل لبريطانيا وعبد الرّحمان الكيلاني النقيب كممثّل للعراق في تشرين الأوّل/أكتوبر 1922 بالقاهرة، وقد تمّ بمقتضاها الاعتراف بالمملكة الهاشميّة بالعراق بتنصيب الملك فيصل الأوّل مقابل بقاء العراق تحت السّيطرة البريطانيّة حيث نصّت الاتّفاقية على تمكين الملك فيصل من تشكيل حكومة ذاتيّة تتولّى الشّؤون الداخليّة بينما تتولّى الحكومة البريطانيّة الشّؤون الخارجيّة والعسكريّة للعراق.
5- في إشارة إلى ما يعرف ب" تصريح 28 فبراير 1922". وهو إعلان أحاديّ الجانب من بريطانيا نصّ شكليّا على إنهاء الحماية البريطانيّة على مصر وعلى كونها "دولة مستقلّة ذات سيادة" مع احتفاظ بريطانيا بحقّ تأمين مواصلاتها مع مستعمراتها عبر مصر وإبقاء السّودان كمستعمرة بريطانية وحقها في التّدخل العسكريّ سواء لحماية مصالح مستعمراتها أو الأقليّات على الأراضي المصريّة. وقد صارت مصر منذ ذلك التّاريخ تعرف بموجب هذا الإعلان ب"المملكة المصريّة" عوضا عن "السّلطنة المصرية".
6- الكتاب الأبيض ( أو الورقة البيضاء) لتشرشل 1922 : هو وثيقة حرّرها ونستن تشرشل في جوان سنة 1922 حين كان وزيرا لشؤون المستعمرات في الحكومة البريطانيّة (1921) . وخلافا لما ورد على لسان المندوب الفلسطينيّ في مداخلته بخصوص تنصيص هذه الوثيقة على إلغاء وعد بلفور، يؤكد تشرشل في الكتاب الأبيض على التزام بريطانيا بتطبيق وعد بلفور المقدّم لليهود بإنشاء وطن قوميّ لهم في فلسطين ويلتزم فيه من جانب آخر للعرب الفلسطينيّين بعدم تهويد كامل فلسطين ويطمئنهم حيال الاستيطان اليهوديّ في الأراضي الفلسطينيّة. وقد قوبل هذا الموقف بالرّفض من قبل العرب واليهود على حدّ سواء. انظر:
“‘Churchill White Paper’ - UK Secretary of State for the Colonies (3 June 1922).” Unispal.un.org, unispal.un.org/UNISPAL.NSF/0/F2CA0EE62B5680ED852570C000591BEB.
7- في إشارة إلى ما صار يعرف لاحقا بالثّورة العربيّة الكبرى ( يونيو1916/حزيران – أكتوبر/تشرين الأول 1918) بقيادة الشّريف حسين.
8- في إشارة منه إلى الجهاز السّرّي لثورة 1919 وفروعه وعمليّاته المختلفة بزعامة عبد الرّحمان فهمي.
9- يقصد "لجنة ميلنر" التي بعثتها الحكومة البريطانيّة في 22 سبتمبر/أيلول 1919 للتّحقيق في ملابسات ثورة 1919 التي كانت قد انطلقت في مصر بداية من 9 مارس/آذار من نفس العام .
10- ألفريد ميلنر كان وزير المستعمرات البريطانيّ سنة 1919 قبل استقالته من نفس المنصب سنة 1921 في حكومة لويد جورج .
11- في إشارة إلى استقبال الجماهير المصريّة لإعلان السّلطات الاستعماريّة عن" لجنة ميلنر" بالسّخط والمظاهرات العامّة التي امتدّت طيلة أكتوبر- نوفمبر- ديسمبر 1919 وأسفرت عن استقالة رئيس الحكومة آنذاك محمّد سعيد، ومحاولة اغتيال خلفه يوسف باشا وهبة.
12- حسب رؤوف عبّاس(2007)، تمّ الإعلان عن تأسيس كنفدرالية النّقابات بالإسكندرية سنة 1921 كان ذلك على يد يوسف روزنتال ورفاقه غداة إصدار البيان التأسيسيّ للحزب الشّيوعيّ المصريّ(1920-1921). وتبنّت الكنفدرالية شعار الحزب الذي أطلقه سنة 1923 وهو المرور إلى شكل " العمل المباشر" وشنّت هذه المنظّمة التي كانت تنضوي تحتها أكثر من عشرين نقابة مختلفة سلسلة من الإضرابات العمّالية العارمة، خاصّة في الإسكندريّة، انطلقت في نوفمبر/تشرين الثاني 1923 وتواصلت حتى مارس/آذار 1924 . وقد انتهت هذه الموجة بإحالة ستّة قياديّين من الحزب الشيوعيّ المصريّ وكنفدراليّة النّقابات على أنظار القضاء ومحاكمتهم في 28 ماي/أيّار 1924 بأحكام تراوحت بين سّتّة أشهر وخمس سنوات سجنا. حول ذلك انظر:
ABBAS, RAOUF. “LABOR MOVEMENT in EGYPT: 1899-1952.” The Developing Economies, vol. 11, no. 1, 6 Mar. 2007, pp. 66–67, https://www.ide.go.jp/library/English/Publish/Periodicals/De/pdf/73_01_04.pdf, 10.1111/j.1746-1049.1973.tb00299.x. Accessed 2 Feb. 2022.
أنظر كذلك :
Botman, Selma. “The Rise and Experience of Egyptian Communism: 1919–1952.” Studies in Comparative Communism, vol. 18, no. 1, Mar. 1985, pp. 52–53, https://www.academia.edu/7329158/The_rise_and_experience_of_Egyptian_communism_1919_1952, 10.1016/0039-3592(85)90055-9. Accessed 20 Mar. 2021.

13- تأسّست "الأمميّة النقابية الحمراء " في 3 يوليو1921 بتوصية من المؤتمر الثّاني للأمميّة الشّيوعية لسنة 1920 بهدف التّعبئة العمّالية حول العالم وتنظيم النّقابات على ثوابت ثوريّة تقطع مع "أممية أمستردام الصّفراء" التي كان يسيطر عليها الاشتراكيّون الدّيمقراطيون .
14- في إشارة إلى مكوّنات وأنصار النّظام الملكيّ
عضو اللّجنة التّنفيذيّة للأمميّة الشّيوعيّة (Alexis N Vasilev)على الأرجح أنّه أليكسيس فاسيلاف -15
في تلك الفترة. حول ذلك أنظر:
Ismael, Tareq Y, and Rifʻat Saʻīd. The Communist Movement in Egypt, 1920-1988. 1st ed., New York, Syracuse University Press, 1990, p. 31.

16- تشان كاي تشيك (1887-1975) قائد عسكريّ وسياسيّ صينيّ تزعّم حركة التّيار الوطنيّ الإصلاحي في الصّين وتولّى رئاسة حزب الكيومنتانغ سنة 1925. قام بقيادة ما عرف بانقلاب آذار 1926 أثناء موجة الإضرابات العمّالية والطلاّبية العارمة وحركات تمرّد المزارعين التي اكتسحت أرجاء الصّين ابتداء من سنة 1925.

17- جيمس رامسي ماكدونلد (1866-1937) أحد مؤسّسي حزب العمّال البريطانيّ وأوّل من تسلّم منصب رئيس الحكومة البريطانيّة من هذا الحزب وكان ذلك في مناسبتين. عرف بعدائه للشّيوعية وبتباينه مع الجناح الراديكاليّ داخل حزب العمّال البريطاني المناصر للبلاشفة ولثورة أكتوبر. عرف أيضا باتّخاذه لإجراءات لا شعبيّة كرئيس للحكومة البريطانيّة أثناء أزمة الثلاثينيّات كتقليص النّفقات الحكوميّة وتحالفه مع المحافظين في الفترة الممتدّة بين 1931-1935.
18- الثّورة السّوريّة الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش: جويلة/ تمّوز1925 – جوان/حزيران 1927. رغم الإقرار بهزيمة الثّورة السّوريّة عسكريّا أمام الفرنسيّين على لسان مندوب الحزب الشّيوعيّ الفلسطينيّ في مداخلته، إلاّ أنّها في الجانب السّياسيّ وعلى المدى المتوسّط والبعيد كانت قد أدّت إلى نتيجتين: تشكيل الحكومة الوطنيّة في سوريا وجلاء الفرنسيّين عن سوريا سنة 1946.
19- منظّمة "هستدروت" الصّهيونيّة. أنظر نصّ المداخلة الأولى.
20- الإضراب العامّ لسنة 1926 هو إضراب بدأه عمّال المناجم في انكلترا لكن سرعان ما انخرطت فيه قطاعات صناعيّة أخرى واستمرّ مدة 9 أيام (4 -12 ماي/أيّار) تاريخ فكّ الإضراب بعد أن أعلن رئيس الحكومة عن حزب المحافظين ستانلي بولدوين عن قانون الطّوارئ ورفض التّفاوض مع المضربين ومع ما كان يعرف باتّحاد النّقابات إلى حين فكّ الإضراب. حول ذلك انظر:
Archives, The National. “The General Strike”, Www.nationalarchives.gov.uk, https://www.nationalarchives.gov.uk/cabinetpapers/alevelstudies/the-general-strike.htm#:~:text=The%20General%20Strike%20of%201926. Accessed 4 Feb. 2022.
(21) يقصد فلسطين.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن