الكونالية وما بعد العولمة

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2022 / 3 / 12

من طبيعة الفلسفة أن تطرح التساؤلات وتحاول أن تجيب عليها دون أن تبني تلك الإجابات على الأحتمالية والظن وتستعين بالقراءة على أسس العقل والعلم العقلي، فإننا هنا نتساءل ما هو العالم الذي سيأتي بعد إنهيار فكرة العولمة، وما هي القراءة المتوقعة للأحداث بعد أن أوضحنا أسباب تهافت الفكرة أصلا وعلى عدم ملائمتها للطبيعي والبديهي من حركة الوجود والفكر تأريخيا وعمليا وعقليا، وأظن أن الإجابة ليست من السهولة بمكان من أن نقرها دون فهم أسباب انهيار عالم يبدو للأن قويا ومتماسكا وقادر على المواجهة البينية ومع الأخر المناقض.
من البديهي أن أي فكر يستند في مبررات إنشائه أو إحداثه على عوامل الحرية والاحتكام إلى الزمن ويستمد قوته منه، ولابد أن يكون عرضة للتغير والتطور بل وللتبدل إستنادا إلى نفس القاعدة، وحيث أن العولمة كان للزمن والتأريخ دورا محركا في نشأته وتطوره فهو ملزم بالتوافق والأستجابة لهذا العامل، ولا يمكنه إعفاء نفسه من حكم هو أصلا قابلا لأن يجعل الأشياء تبدو أسرع نحو التطور والأرتقاء، ومن هذه المقامية نتنبأ بأن العولمة قابلة على أن تشهد المزيد من التغيرات والتبدلات التي قد تطيح بذاتها، إلا إذا ظن المنادون بها أنها غاية الكمال الفكري ومنتهى الأبداع الإنساني، وإن عوامل الزمن لا تدرك هذا الفكر بالشيخوخة لأنه مصون ومستعصم بكماله الذاتي.
كل تطور فكري وأجتماعي وفلسفي لابد أن يرتبط بالذاكرة والذاكرة التي نقصد هي ذاكرة الأنا بوصفها مفكرة ومنتجة للمعرفة، وبوصفها الثاني أنها محل للمعرفة فيبدو أن التجدد الفكري والمعرفي لديها قابل أيضا للإستجابة لعوامل الزمن وما ينتج من تفاعل الزمن مع الفكر هو ميل طبيعي تطوري وأرتقائي لا يجعل للبنيان الفكري مجال للاستقرار الدائم، ولا يسمح بأن يكون محلها الماضي فقط، الماضي الذي تناهضه العولمة ومن قبلها الحداثة وما بعدها، يتساءل بول ريكور ويجيب عن هذه العلاقة بين الذاكرة وبين التطور فيقول (لست أدري لكني لا أقول يا لشقاء التاريخ، بالفعل هناك امتياز لا يمكن رفضه للتاريخ وهو الامتياز الذي يسمح ليس فقط بتوسيع الذاكرة الجماعية إلى ما وراء كل ذكرى فعلية، بل كذلك بتصحيح ونقد وحتى تكذيب ذاكرة مجموعة معينة حين تنكمش على ذاتها وتغلق نفسها على آلامها الخاصة بها حتى أنها تصبح عمياء وصماء أمام آلام الجماعات الأخرى، وتصادف الذاكرة معنى العدالة في طريق النقد التاريخي) .
التأريخ عند بول ريكور مسار الزمن وعلاقته بالنقد، علاقة تمتد من الأنا والذاتية لتنتهي عند إجمالي الفكر والمعرفة، فيرى أن التاريخ والمعرفة يسيران إلى جنب دون أن يتخلف المعرفي عن التأريخي بل هو وجه من أوجه التأريخ، وجه يفصح عن ماهيات الذات والأنا (تبقى المسألة الأساسية في كل هذه الأمور مسألة كتابة وإعادة كتابة، مسألة بناء وإعادة بناء، مسألة رؤية مسألة تأويل، ومعنى ذلك بحسب تنوع أنظمة المقاييس هذه، أن ما يظهر عندما نغير المقياس ليس هو التسلسل، وإنما العلاقات التي بقيت خفية على المستوى الماكروتاريخي، إن مفهوم المقياس في الهندسة يهم المؤرخ "لأن عملية كتابة التاريخ هي بمعنى معين عملية هندسية"، ذلك أن "الخطاب التاريخي يُبنى على طريقة عمل ناجز، وكل عمل ناجز يدخل ضمن محيط مشاد سابقا، إن إعادة قراءة الماضي هي إعادة بناء وأحيانا على حساب تهديمات مكلفة، البناء والهدم وإعادة البناء هي أعمال مألوفة لدى المؤرخ( .
عندما يكتب مؤرخ عن تأريخ العولمة عليه أن يفكك كما يقول بول ريكور وأن يهدم وأن ينتقد ثم يعود ليبني من جديد هذا البناء، وهذه القراءة التأريخية ستتجه دوما إلى قراءة علاقة الأسباب بالمسبب وكشف ترابط العلة والمعلول، أنها البحث عن الجذور وعن علاقة هذه الجذور بالنتائج وفق نسغ صاعد ونازل ولا يكتفي بالقراءة العرضية للأشياء، عليه أن يبحث من أصل الحركة ومنشأتها وتوالد ما ينشأ من كل علاقة بعيدا عن التسلسلية التي لا تكفي وحدها لبيان حركة المجتمع ونجاعة منتجه الفكري والفلسفي والسياسي والاجتماعي، أنها قراءة عميقة وشاملة لا تترك للمواضيع فرصة الإفلات من التنقيب، وحتى الجزئيات الدقيقة ستكون لها حصة في القراءة والبناء والهدم واعادة البناء.
المؤرخ المنصف والذي سيتحمل لوحده مسئولية تبرير وترميز وتحديد القيم التأريخية سيعاني من كثرة التجزئة والنزول إلى أعماق الجذور الشعرية لكل الموضوع، بأعتبار أن دقائق الجذور هي المسئولة الأولى عن دفع الحياة وهي التي تتحمل نقل العناصر من البيئة إلى أعلى تفرعات الموضوع الخارجية، ومن تلك التفرعات سيكتشف علاقة الأنا بالعولمة الأنا التي تعني عند من أطلق فكرة العولمة هي الأنا التي تحركها نزعة التزاحم والتصادم مع الأخر ليرتفع إلى الذات الغربية ولمعنى الحرية عندها، القائم على نكران الأخر بل محاولة تحجيمه والأستحواذ على مجاله الحيوي، هي الذات التي لا تقبل المنافسة التشاركية ولا ترضى بأن الذات الأخرى هي ذات محمية بالحرية التناظرية، وبالتالي فإن سعيها في الوجود هو التخلص منها أو على الأقل تهميش دورها للحد الذي يجعل منها في علاقة محدود في أطار العبودية، الذات الغربية ذات مستبدة خالية من البعد الطبيعي والأخلاقي للكون الإنساني، فهي تسير عرجاء تتعكز على وجودها وظل هذا الوجود.
إن النبوءة بتطور العولمة لا تنبع من رغبة في التخلص منها ومن أثارها ومن ما نتج من أحادية مفرطة تتنافى مع ثنائية الوجود، ولكن تنبع من كون الذات لازالت تفكر والفكر ما هو إلا في وجه أخر من النقد الذي يسبر غور الأمور ليصل إلى حقيقة الفكر ويتماهى معه، يقول الدكتور عبد الجبار الرفاعي في تبيان هذه المقولة ومستشهدا بالفكر المعرفي الحديث (في الفكر الحديث والمعاصر لا يوجد فكر وبجواره نقد، وانما الفكر هو النقد يعني العملية النقدية ليست منفصلة عن عملية التفكير، طالما قيل ليس من المناسب ان نثير أسئلة ان نتحدث بإشكالات تزعزع ثقة الناس بقضية معينة بينما من الصحيح الضروري ان نثير أسئلة حائرة، أسئلة جريئة اسئلة صعبة، أسئلة كبرى، ينبغي دائماً ان يكون تفكيرنا تساؤليا، لأن التفكير التساؤلي هو الذي يمكننا من الوصول الى ما هو ممنوع التفكير فيه، والمناطق اللا مُفكَر فيها أصلاً .التفكير لا يكون محايدا، فأما ان يكون تفكيرا تساؤليا بحرية وهو التفكير الذي ينطلق بالعقل بحرية وجرأة فيحطم كافة أغلاله، أو يكون مقيدا مشلولا يقودنا الى العبودية، النقد والمراجعة عمليتان هامتان وهما شرط كل تطور فكري، ومرتكز لكل عملية تحديث من شأنها تحقيق تنمية شاملة في أي بلد من البلدان) .
إن الفكر الذي يبني عمارته على الأحادية وعلى غلبة الذات التي تؤسس مفهوما على الأنا الغربية لابد أنها ستصطدم بواقع لا يسمح أن تمتد أفقيا وعموديا دون نقد وتصحيح، والرجوع إلى الوعي الرجوع إلى الذات المفكرة التي يختزلها مثلا هربرت ميد وهو من أبرز المفكرين الأمريكيين وله فكرة جيدة مفادها أن لا يمكن أن نطور وعي الذات بدون الاعتراف بالآخر، هذا يعني أن في مرآة الآخر يمكن أن نطور وعينا ونحقق هويتنا، فالتقدم الإنساني مرتبط أشد الارتباط بأشكال الاعتراف المتبادل، هذا الأعتراف الضروري والأخلاقي يجعل من أسس العولمة القائمة الآن في حالة أهتزاز في حالة من اللا توازن الذي سيؤدي بالنهاية مع تطور الوعي الكلي والفردي بحقيقة الأخر إلى نقض مفهوم العولمة ليحل محلها نوع من فكرة أنسنة الكون، هذه الأنسنة التي تتوافق مبدئيا مع طبيعة الأشياء الأنا والأخر الشر والخير ليس على مبدأ المزاحمة والغلبة وإنما على مبدأ التعايش والتكامل.
فهربرت ميد تحدث عن مختلف الدوائر في مجتمعه الخاص، الشيء الذي جعله يميز بين تقدير الذات واحترامها للتكوين الطبيعي للتكوين المبرهن عليه منذ تبلور الكينونة الأولى وليس على الفرض الأعتباطي الذي أسقطه الغرب والشمال على فهمهم للأنا، وهذا مهم بالنسبة لي فالخلفية التي تحكم هذه الفكرة هي أن بدون أشكال الاعتراف بالذات هذه لن يتمكن أحد من الإسهام بطريقة حرة وفعالة في التكوين السياسي للمجتمع، إنها العودة إلى الحرية بالمفهوم الميتافيزيقي المتجلي بصورة أوضح في الأنا الشرقية والجنوبية والمختبئ قهرا في الأنا الأخرى المقابلة، ومن المهم تحقيق بعض الشروط وتحقيق أشكال الاعتراف المتبادل حتى يتمكن الناس من المساهمة في الفضاء العام بدون إكراه وبدون خوف، هذه جوهر النبوءة التي أدافع عنها واجاهر بها لسقوط العولمة، حيث أن الحرية هي أن تحقق وجودك بدون قهر في وجودك الخاص والعام دون أن تتجاوز حرية الأخر أو تزاحمه في المجال الحيوي لحريته.
علينا أن نتصور ذاك العالم الذي بدأ يتشكل من جديد عالم ما بعد العولمة عالم أنسنة الكون عالم العودة إلى الذات المفكرة، الذات التي تسعى لأن تبلور وجودها وبهذا الوجود تبلور مفهم الذات الأخرى، عالم تسطع به نور الروح نور الأخلاق، قد يحث هذا الآن أو غدا الزمن الذي يجب أن يتسارع معقود على أن نعي ونسعى للوعي به وكلما أقتربنا من الجانب الروحي من الذات كان الزمن أقصر والتبلور أسرع.
أننا بالتأكيد هدفنا أن نزيد من فضاء الحرية الفردية ولكن بوسائل جماعية، لكن دور الفرد في الثورة الآن لم يجر استكشافه بعد بشكل يسمح له أن يعلن عن وجوده، وحيث يتوحد الإنسان الواقعي بحرية أكيده غير منقوصة ولا مستلبة من الأخر يساعد في سعيه لمصالحه الخاصة التي لا تتناقض مع مصلحة الأخر ويقونن هذه الفكرة مع معرفته التامة بالأنا الكاملة الأنا المتسامحة، وهذا ما لم يتم بناؤه من قبل الناس "الذين يملكون أنفسهم" فسيكون من السهل هزيمته أو توجيهه في اتجاه كوني تتجرد فيه الهوية كما في العولمة الأن، وحدهم البشر الذين وجدوا أنفسهم فعلا ويعرفون أنهم يقاتلون في سبيل أنفسهم لا يستسلمون بسهولة ولا ينقادون لفرض الأنا المزاحمة الأنا السيد.
قد يحسب البعض أن العولمة الآن هي شكل من أشكال التشاركية المفيدة التي تكبح الرأسمالية القديمة وصورتها الكريهة الأستعمار السياسي والأقتصادي بالآلة العسكرية، وهذا وهم حقيقي فنحن في مرحلة جديدة من الرأسمالية الطاغية التي لا تعترف بالحدود ولا تقر بالسيادة الدولية كما كان معمول بها قبل أن تتشكل العولمة بعد إنهيار المعسكر الشرقي، فالمنعطف النيوليبرالي الذي حوَّل الرأسمالية نفسها (فكرة الحرية وتقدير الذات)، لكن هذه الأفكار تتطور بطريقة ما لتفرغها من محتواها، فعوض تحرير الناس بالسماح لهم بتحقيق ذواتهم تم خلق مبررات جديدة لكبح جماح الذات بأشكال جديدة من مرونة العمل وتوسيع دوائر السيطرة بالشكل الذي لا مجال معه لإثبات الواقع الأخر الواقع المستضعف أساسا من فعل التشابك في العلاقات الدولية وأرتباطها بالمركز الرأسمالي الجشع.
هناك تناقض كبير تعيشه الرأسمالية في طورها الجديد (العولمي) ليس بسبب الرفض ولا بسبب أن الفكرة غير قابلة للعيش ولكن بسبب أسها الذي أبتنت عليه (فكرة المزاحمة ونظرية العبد والسيد) المتأصلة بالأنا الغربية والشمالية، هذا المأزق يتخذ صور عديده منها الأنهيار الأقتصادي الذي جاء عكس تصورات نظرية العولمة، فكل التعاريف التي طرحتها بشكل معياري نجدها اليوم حلم لا يمكن التحقق من الوصول إليه بالرغم من التوسع الهائل في الوسائل والسبل المادية والضغط الاعلامي والفكري المصاحب له، وحتى النظريات الفكرية التي وجدت في العولمة حاضن لها نراها تتداعى ومنها مثلا مفهوم صراع الحضارات ليحل محله حوار الحضارات حوار التكافؤ والتناظر.
كل المفاهيم المعرفية والمصطلحات المعيارية التي تعلقت بالحرية واحترام تحقيق الذات والتي تم ترويجها عالميا بطريقة شبه أيديولوجية من طرف النظام الرأسمالي نفسه، لكي تساعد على الرفع من القوى الإنتاجية كشعارات للطور المتجدد من الرأسمالية المعولمة، لتقترب أكثر من تحليلات لوك بولانتسكي الذي لا يشتغل بمفهوم الأيديولوجية لكن يؤمن بالفكرة، حيث أن المفاهيم المعيارية تنتج في الواقع نقيضتاها أو تفرغها من محتواها كلما تعرضت للتجريب والنقد الذي يفكك الأشياء ويهدم أسسها ليعيد قراءتها ليبني شكل أخر من الفكر، أن المجتمعات تحافظ على استقرارها عن طريق صراعات مجموعاتها من أجل الاعتراف، هذه الفكرة هي التي انطلقت منها تصوري حول الاعتراف المتبادل، فجميع المجتمعات تتمحور حول دوائر الاعتراف وتسعى لها لكي تسمح لأفرادها بالدخول في اعتراف متبادل لتبني عالم إنساني أكثر وأخلاقي أكثر.
في حوار مع الفيلسوف والمفكر الأقتصادي الاستاذ عمر أكتوف أجري معه مؤخرا يشير إلى الحقيقة السالفة في زيف بعض المعايير الفكرية التي أبتدأت بها العولمة وفرضتها، فهو مثلا يفرق بين الأقتصاد الحر وبين الحرية الأقتصادية كما تجلت في الممارسات الأقتصادية اليوم مما أبعدها عن المعنى المعياري للتوجه نحو اللا أخلاقية في تصرفها، وتثبيت حدود المعنى لدى زعماء المال العالمي الذي يمنهج الفكر الأقتصادي بشكل أيديولوجي، ويضيف مثلا على هذه النظرية قول مستنتج منها يشير إلى التبادلية بين الأنتاج والبيئة وهذا ما أهملته سياسات العولمة المعاصرة (إن المشكل الأكبر في نظري هو أن هذا الادعاء الكوني يحمل معه الاعتقاد بأن العالم كله يحب الهامبرغر على الطريقة الأمريكية، وأن الجنس البشري في كل مكان تحركه نفس النوازع وهذا هو الخطأ الكبير الذي تدفع ثمنه اليوم الإدارة والتدبير على الطريقة الأمريكية، والذي لطالما تم تقديمه نموذجاً كونياً دون أدنى جهد لفهم ما معنى الخصوصية، واختلاف الآخر يمكننا صنع السيارات أو(السندويتشات) في أي مكان في العالم، لكن النجاح في ذلك يتوقف على جعل هذه المنتوجات متناسبة من حيث الجودة والقيمة مع المنطقة والإقليم) .
إذا نحن نشهد تبدل بالمفاهيم المعيارية التي تقوم وقامت عليها العولمة هذا التبدل ليس مظهريا فقط، بل أنه جوهريا ويتصل حتما بأسس النظام العولمي وما يمكن أن تستبعه من نتائج خطيرة قد تقوض كامل بناء النظام، فلكل رؤية قواعد تستند عليها في تبرير وجودها وعندما تتغير القواعد تتغير الصور المتأتية عنها، وبالتالي تعطي مفاهيم مغايرة تماما للأصل، قد تكون هذه المفاهيم في بعض أوجهها ليست مصاديق للفكرة الأولى وللأفتراضات المبدئية، هنا تكمن الإشكالية وتكمن أيضا ضرورة البحث عن الصور الجديدة الناتجة عنها، وهو ما هو العالم الذي تستهدفه أو تسعى لصنعه أيا كانت النتائج فهي بالمؤكد صورة متطورة أو خارج أطار العولمة التي جادت بها سنوات أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
إن حضور التناقضات في البنيان العولمي مع إتباع السنة التأريخية التي تلغي مبدأ الثبات الحركي للفكر وللحضارة وللتجربة الإنسانية العميقة، التي أظهرها التبدل والتحول المستمر في حياة الإنسان وخاصة ما هو قريب من الذاكرة تحول الحداثة وما بعد الحداثة وظهور مبدأ الحداثة الإنعكاسية وتطورهما نحو ظهور فكر العولمة، كل تلك المبررات تتيح لنا أن نصيغ شكلا من أشكال العالم لما بعد العولمة ولما بعد بَعد العولمة، أنه عالم يعود عن مسار الفردية والقطبية الواحدة نحو مبدأ التشاركية في الأنطلاق نحو أنسنة الوجود بدل الوجود الكوني المتأطر بقراءات فرضها واقع تشكل في لحظة إنهيار معنوي لجانب مهم من طرفي القوة المحركة والدافعة للتطور.
إن أنسنة العالم الكوني والأخذ بضرورات الجانب الروحي وإعادة الأعتبار الحقيقي له ليس فيه تناقض مع التجديد والسعي الحقيقي لأن تكون الحياة الإنسانية أفضل، لقد صاغ الجانب الروحي وعلى مر التاريخ وخاصة تلك الأسس التي تفهم حقيقية الإنسان والتي نجحت بأن تسير فيه عبر الزمن التأريخي دون أن تصطدم بما يمنع من التطور، صاغت وبلورت خطوط الحركة التي نتجت نهاياتها اليوم واقع ما نحن عليه، لقد كانت محرك عظيم دفع عجلة التأريخ دون أن ينكر أحد هذا الدور، لكن ما يمكن الحذر منه هي تلك الإسقاطات اللا تنتمي له والتي أدعت زورا تلك المكانة أو أن البعض ألصقها عنوة بالجانب الروحي الرفض ليس حلا دوما لتلك الإشكالية، الحل وحده بالنقد الموضوعي الذي يسبقه نقد ذاتي للمنهج والوسائل والمقدمات، إنها الوعي بأحقية التجدد وحرية الروح في أن تكون جزءا من الحل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن