السياق التاريخي لحرب أوكرانيا

الطاهر المعز
husseinahwazy@gmail.com

2022 / 3 / 6

ما وراء الأخبار المُعْلَنَة

قد لا يأتي هذا المقال بجديد، ولكنه قد يُسلّط الضّوء على بعض الجوانب التي لا يأتي على ذِكْرِها الإعلام السائد، ويتجاهلُها، بل يتعمّد قَلْبَ الحقائق، وتَزْيِيف الوقائع التّاريخية، وتهدف هذه الفقرات إعادة التّذكير بالمَسار التّاريخي الذي أدّى إلى الحرب الحالية في أقصى الشرق الأوروبي.

هل يُعيد التاريخ نفسه؟
تتكرّرُ عملية تشكيل المليشيات اليمينية المتطرفة ( منها الدّينية، الإسلامية والمسيحية) في أوكرانيا، حيث دعا المسؤولون الأوكرانيون والرئيس الأوكراني (فولوديمير زيلينسكي)، يوم السابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، إلى تشكيل "فيلق دولي" من المرتزقة، والإنضمام إلى الفَيْلَق الدّولي الذي شكّلته حكومته لمحاربة الغزو الروسي، وأكد سفير أوكرانيا، بتل أبيب، خلال مؤتمر صحفي، يوم الثاني من آذار/مارس 2022، وُجُود العديد من المُقاتلين "الإسرائيليين" في أوكرانيا لمحاربة القوات الروسية، ورَفَضَ الإفصاح عن عددهم، وأعلنت وزارة الخارجية البريطانية، يوم السابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، دعمَ البريطانيين الذين يريدون محاربة روسيا في أوكرانيا، أي مُخالَفَة القانون البريطاني الذي يَحْظر على مواطني المملكة المشاركة في الحروب، بدون إشراف الجيش البريطاني.
في روسيا، أعلن الرئيس "فلاديمير بوتين"، يوم الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، أن حكومته حاولت، لعدّة أشهُر، بل منذ 2014، الحوار، واعتماد المسالك الدبلوماسية لحلّ المشاكل القائمة، مع التّمسّك بالإتفاقيات السّابقة التي يتخلّى بموجبها حلف شمال الأطلسي على سياسة التّوسّع شرقًا، وعلى ضَمِّ الدّول المُتاخمة لروسيا، وأهمُّها "أوكرانيا"، وتقضي الإتفاقيات السابقة بنزع السلاح وإعلان أوكرانيا محايدة، وأعلن الرئيس الروسي "إن هذه العملية العسكرية تهدف حماية الأمن القومي الروسي، على الحدود" التي تريد الولايات المتحدة التّمَرْكُز بها، ولم تذهب الجيوش الرّوسية إلى حُدود الولايات المتحدة البرية أو البحرية أو الجوية، في حين يتمركز الجيش الأمريكي (بغطاء حلف شمال الأطلسي) على حدود روسيا، علما أن المسافة بين واشنطن وموسكو تُقارب خمسة آلاف كيلومترًا.
بعد ساعة واحدة من خطاب الرئيس الروسي، تمكّنت القوات الرّوسية من شَلّ حركة مراكز قيادة الجيش الأوكراني، واعتقلت القوات الروسية العديد من المرتزقة الذين دربتهم شركة "بلاك ووتر" الأمريكية التي استخدمها الجيش الأمريكي في العراق (أصبح إسمها "أكاديميا" الآن، ومقرها بالإمارات)، ومجموعات ممن وصفتهم وسائل الإعلام الروسي ب"الجهاديّين السّلفِيّين"...
خلافًا لما ألِفْناه من صمت وتجاهل أو من تأييد العدوان الصهيوني المستمر على المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، وتبريره بذريعة دفاع الكيان الصهيوني عن النفس، أو تأييد العدوان السعودي الإماراتي على شعب اليمن، تجَنّد الإعلام "الغربي" (أمريكا الشمالية وأوروبا ومستوطنات أستراليا وأمثالها، واليابان...) وكذلك الإعلام الخليجي والتّركي، للتنديد بالغزو الروسي وب"اللُّيُونة الأمريكية والأطلسية" تجاهه، ولم تُندّد وسائل الإعلام السّائد بالإحتلال الأمريكي لأجزاء من سوريا، وسرقة إنتاجها من الحبوب ومن الطاقة، واحتماء المجموعات الإرهابية بقاعدة "التنف" الأمريكية، بشمال شرقي سوريا، كما شاركت جيوش أوروبا في احتلال أفغانستان إلى جانب الولايات المتحدة التي تبعد عاصمتها واشنطن عن كابول، عاصمة أفغانستان، حوالي سبعة آلاف كيلومترًا.
بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، سنة 1991، ورغم الوُعُود التي قطعتها الولايات المتحدة، منذ سنة 1986، قامت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بتطويق روسيا وأمرت أوروبا بضم معظم دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، رغم عدم توفر الشروط في اقتصاد ومؤسسات دول مثل رومانيا وبلغاريا وبولندا والمجر وغيرها، وضمّت الولايات المتحدة كلاًّ من ألبانيا وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك والمجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا والجبل الأسود وسلوفينيا، إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بعدَ حَلّ حلف وارسو، في مرحلة أولى، قبل ضَمِّ دُوَيْلات البلطيق المتاخمة لروسيا ( إستونيا ولاتفيا وليتوانيا )، وحاولت الولايات المتحدة توكيل جورجيا ثم أوكرانيا للعب الدّور الرجعي والمعادي لروسيا، وهو الدّوْر الذي لعبته بولندا، مباشرة بعد الثورة الإشتراكية، سنة 1917، والدور الذي لعبته البرجوازيات البولندية والأوكرانية والفنلندية، وكذلك البرجوازيات العميلة بلاتفيا وليتوانيا وإستونيا، لدعم الإحتلال النازي للإستحاد السوفييتي، من 1941 إلى 1943، خلال الحرب العالمية الثانية، وتكفّلت المليشيات العميلة بارتكاب المجازر ضد الشيوعيين المحليين، دعمًا لألمانيا النّازية، ونكايةً بالإتحاد السوفييتي...
كأن التاريخ يُعيدُ نفسه اليوم، حيث أصبحت أوكار القوى الرجعية، المُضادّة للثورة الإشتراكية في أوكرانيا ودُوَيْلات البلطيق وبولندا وفنلندا، وغيرها، روافد للجيش العدواني الأمريكي وقوات حلف شمال الأطلسي، خلال احتلال العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها، وأعادت إحياء "تقاليد" المليشيات الفاشية التي دعمت الإحتلال النّازي ( حزب "سفوبودا" و"القطاع الأيْمَن"... ) تُشارك في تطويق روسيا التي لم تعُدْ اشتراكية، بل تتبنّى الرأسمالية، لكنها تُحاول ألاّ تكون تابعة للولايات المتحدة أو أوروبا، أي إنها قُوّة رأسمالية مُنافسة للولايات المتحدة، وللإتحاد الأوروبي، وهي قُوى تدّعي الليبرالية وحرية السوق وحرية المنافسة...
يُشكّل الإعلام إحدى ساحات الحرب، في جانبها الإيديولوجي والدّعائي، أو ما يمكن تسميته "حرب المعلومات"، واعتبرت الولايات المتحدة وبريطانيا مساعي البلدان الفقيرة، بين 1976 و 1980، كسر احتكار الإعلام، وإرساء "نظام عالمي جديد للمعلومات والإتصالات"، اعتداءً على حُرّيّة الصحافة، وكان ذلك أحد أسباب تعليق الدّولَتَيْن انتماءهما لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، ولذلك سارع الإتحاد الأوروبي، يوم 26 شباط/فبراير 2022، إلى حَظْرِ بث وسائل الإعلام الروسية ( روسيا اليوم، و "سبوتنيك") في كافة دول أوروبا، وحرمان المواطنين المقيمين بأوروبا من الإطلاع على وجهة نظر روسيا أو أي وجهة نظر مُغايرة للإعلام الرسمي الأوروبي، ومَنْعِ أي تنوّع أو اختلاف في وجهات النّظر، وتحليل الأحداث من زوايا مختلفة، والإكتفاء بالمحطات الدّاعمة للحروب الإمبريالية، مثل بي بي سي (بريطانيا) وفرنس 24 (فرنسا) ودويتشه فيللّه (ألمانيا) وسي إن إن (الولايات المتحدة)، التي تُورِد بشكل مستمر، وعلى مدار الساعة تصريحات الأمين العام لحلف شمالى الأطلسي، وقادة الجيش الأمريكي وتحليلات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ووكالة الأمن القومي... مع الإشارة أن روسيا اليوم وسبوتنيك تَبُثُّ برامجها المكتوبة والمسموعة والمرئية باللغات الروسية والإنغليزية والإسبانية والألمانية والفرنسية والعربية. أما في الوطن العربي فتُهيمن دُويْلات الخليج على الإعلام المكتوب، والسّمْعِي-البَصَرِي، ولا يختلف هذا الإعلام عقائديًّا عن الإعلام الأمريكي والبريطاني، سوى في الشّكل، حيث دافعت قنوات "الجزيرة" أو "العربية" وأمثالهما عن "الثورات المُلَوّنة" في أورةوبا الشرقية، وعن الثورات المُضادّة في الوطن العربي، ودعمت الجزيرة الإخوان المسلمين و"المُجاهدين" (أي القوى الأكثر رجعية لدى العرب) فيما دعمت وسائل إعلام السعودية والإمارات المجموعات الإرهابية الوهابية، ودعمت جميعها قصف وتخريب وتقسيم ليبيا وسوريا...
تجاوزت تصريحات رؤساء دول وحكومات حلف شمال الاطلسي المجال العسكري (الحَرْبِي) لِيُهدّدوا الإقتصاد الرّوسي، من خلال الحَظْر والقُيُود، وأعلن العديد من أعضاء حكومة ألمانيا (كصَدَى لصوت الحكومة الأمريكية) "ضرورة تدمير الصناعة الروسية وإلحاق الضّرر باقتصادها من خلال مُصادرة الإحتياطيات الروسية بالمصارف الأجنبية، وحرمان روسيا من التحويلات المالية الدّولية وإقصائها من نظام سويفت"، رغم حاجة دول الإتحاد الأوروبي إلى شراء المواد الخام الروسية، كالكوبالت والبلاديوم، والمحروقات، كما تحتاج دول عديدة، من مختلف أرجاء العالم، إلى القمح الروسي (والأوكراني أيضًا)، وتتوقع وكالة "بلومبرغ" المتخصصة في الأخبار والتحليلات المالية والإقتصادية، "إن طرد روسيا من نظام سويفت للتحويلات الدّولية قد يُؤَدِّي إلى نتائج عكسية ومنها ارتفاع التضخم، وتقريب روسيا من الصين وتطوير بديل، يحمي معاملاتهما المالية من التّطَفُّل الغربي، وقد تلتحق دول أخرى تتعامل مع الصين وروسيا، بهذا النظام الجديد، ما قد يُقَوِّضُ هيمنة الدّولار، على مدى متوسط..."، وهدّدت روسيا ب"مُصادَرَة التكنولوجيا"، أي توقُّف روسيا عن الإعتراف ببراءات الإختراع الأمريكية، وتحرير المِلْكِيّة الفِكْرِيّة، من جانب واحد، ونَسْخ التقنيات الأمريكية في مجالات الأدوية والصناعات الإلكترونية الدّقيقة، بالتحالف مع الصين التي لها خبرة كبيرة في هذا المجال، ما قد يُسبب أضرارًا ماليةً للشركات الأمريكية، قد تصل قيمتها إلى عشرة تريليونات دولارا...
من جهتها، تجاوزت ألمانيا حُدُود الإقتصاد، لِتُسَلِّحَ (سنة 2022) المليشيات اليمينية المتطرفة في أوكرانيا (مثل "كتيبة آزوف")، سليلة المليشيات التي عزّزت جيش ألمانيا النّازية، أثناء احتلال روسيا والإتحاد السوفييتي، سنة 1941، ولا يُعَدُّ نموذج ألمانيا شاذًّا، بل دعا ناطقون باسم حكومات غربية عديدة، علنًا، إلى تجنيد "المُتَطوّعين" من الأوروبيين ومن "المُسلمين"، وتسليحهم، وإرسالهم إلى أوكرانيا...
أعلنت المُفوضية الأوروبية تمويل الاتحاد الأوروبي شراء الأسلحة وتسليمها إلى أوكرانيا، وأعلن المستشار الألماني "أولاف شولتز" يوم الأحد 20 شباط/فبراير 2022، أنه سيتم تخصيص 110 مليارات دولار إضافية للجيش الألماني (لم يُحَدّد الفترة)، أي ضعف مبلغ ميزانيته السنوية، وأعلن عن تقديم مساعدة عسكرية مباشرة لأوكرانيا، وأعلن حلف شمال الأطلسي إرسال قوات قتالية خاصة إلى أوكرانيا، لتشكيل فيلق دولي لمحاربة روسيا (راجع فقرات سابقة)، وأعلنت وزيرة الخارجية البريطانية، يوم الأحد 20 شباط/فبراير، تأييد حكومتها القَطْعِي لإرسال مقاتلين بريطانيين إلى أوكرانيا، لإعادة تجربة سنة 2014، بأوكرانيا، ونَشر المرتزقة من العناصر اليمينية المتطرفة من جميع بلدان العالم، وأعلنت الحكومة الأمريكية والبريطانية دعم هذه الشبكات التي تُقدّم خدمات (لم يتم الإفصاح عن ماهِيّتِها) للجيش الأمريكي، الذي يُشرف على قوات حلف شمال الأطلسي (حوالي 107 آلاف في أوروبا الشرقية)، بالتوازي مع الحملة الإعلامية التي خلقت جوًّا من الحقد والكراهية ضد روسيا والروس، من رجال أعمال ورياضيين وفنانين، يُراد مَنْعُهُم من المُشاركة في تظاهرات دولية... صَدَرَتْ جميع هذه التصريحات قبل إعلان الحرب بأربعة أو خمسة أيام، وهي صادرة عن حكومات دول أوروبية، نقلتها وسائل إعلام أوروبية وأمريكية...

مُسلْسَل تدهور العلاقات الدّولية:
بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التفاوض مع الإتحاد السوفييتي، منذ سنة 1944، قبل تأسيس منظمة الأمم المتحدة، رسْميًّا، مُباشرة بعد إعلان انتهاء الحرب، سنة 1945، بهدف مُعْلَن يتمثل في خلق فضاء للتفاوض وللوقاية من الحُروب والدّمار والخراب الذي تُخلّفُهُ الحُرُوب، لكن لم تحترم الولايات المتحدة التزاماتها، وأطْلَقَتْ ما اصطُلِح على تسميتها "الحرب الباردة، ثم انْهَارَ هذا النظام رسميا بانهيار الإتحاد السوفييتي، وتحويل الأمم المتحدة إلى أداة مشلولة، في مقابل تعزيز نفوذ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الذي يفتقد إلى "شرعية" الأمم المتحدة)، واستبدال المفاوضات واللقاءات الدبلوماسية بالتهديد وباستخدام القوة العسكرية لحلف شمال الأطلسي الذي توسّع نفوذه، وعملت الولايات المتحدة على بسْطِ نفوذها في كافة أنحاء العالم (سياسة القُطْب الواحد، و"القَرْن الأمريكي"، وقيادة أمريكا للعالم...)، ورفض تقاسم النّفُوذ مع أي قُوّة أخرى، بما فيها الحلفاء الأوروبيون واليابانيون، وأصبح حلف شمال الأطلسي الوسيلة المُفضّلة لفرض "السلام الأمريكي"، أو باكْس أمريكانا، ومنذ 2012 (كان باراك أوباما رئيسًا وهيلاري كلينتون وزيرةً للخارجية الأمريكية) أعلنت الحكومة الأمريكية بداية الحصار أو التّطويق العسكري لروسيا، كما للصّين، ومحاولة خنق اقتصادهما...
لم يتوقف حلف شمال الأطلسي منذ ثلاثة عُقُود عن استفزاز نظام الحُكْم الروسي، من خلال تكثيف التدريبات العسكرية وتكديس الأسلحة على حدود روسيا، ودعم المنظمات النّازية التي أشرفت على انقلاب أوكرانيا سنة 2014، رغم الإتفاق المُوَقّع في السادس من آذار/مارس 1991، بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، من جهة ثانية، والقاضي بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي، إلى البلدان الواقعة شرقي ألمانيا بحسب التّذكير الذي كتَبَتْهُ صحيفة "شبيغل" الألمانية بتاريخ 19 شباط/فبراير 2022، لمّا أورَدَتْ تصريح الأمين العام لحلف ناتو "ينس ستولتنبرغ"، في مؤتمر ميونخ للأمن: "لقد مثَّلَ توسيع الناتو، من 16 إلى 30 دولة، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، نجاحًا كبيرًا ومَهَّدَ الطريق أيضًا لمزيد من التوسع في الاتحاد الأوروبي..." (حيث فَرَضت الولايات المتحدة ضَمّ هذه الدّول إلى الإتحاد الأوروبي، رغم عدم توفّر الشّروط)، وفي الأثناء ارتفع الإنفاق العسكري الأوروبي (لشراء سلاح أمريكي) بين 2014 و 2021، بمقدار 270 مليار دولارًا، على حساب الإنفاق الاجتماعي والاستثمار الإنتاجي، وعلى حساب صحة المواطنين الأوروبيين وجودة تعليم أبنائهم، وأرسل حلف شمال الأطلسي أنظمة أسلحة متطورة إلى أوكرانيا، فيما أرسلت الولايات المتحدة دعمًا عسكريا بقيمة مليار دولار لأوكرانيا، سنة 2021، وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية تقديم 350 مليون دولارا، يوم 20 شباط/فبراير 2022، لدعم مواجهتها لروسيا (قبل إعلان الحرب) كما حصلت أوكرانيا، قبل ذلك، على مُعدّات حربية عديدة ومُتَنَوِّعَة، منها صواريخ ستينغر المضادة للطائرات وصواريخ جافلين المضادة للدبابات...
في مواجهة تعدد الإستفزازات، قدّمت روسيا العديد من المقترحات التي تجاهلتها الولايات المتحدة ومعها حلف شمال الأطلسي، بل هدّدت "فكتوريا نولند"، باسم الحكومة الأمريكية، في تشرين الأول/اكتوبر 2021، بتدمير الإقتصاد الروسي، وأدّت جملة هذه الإستفزازات إلى حالة الحرب التي انطلقت يوم الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022...
يبدو أن الجيش الرّوسي كان مُتهَيِّئًا لهذه الحرب، واستعدّ لها بجدّيّة ووفَّرَ لها شُرُوط النّجاح، حيث لم تتمكن أي طائرة أمريكية بدون طيار أو طائرة حربية إلكترونية تابعة لحلف الناتو من التحليق فوق أوكرانيا، بسبب تعطيل جميع الأنظمة الإلكترونية للناتو قبل العملية مباشرة، وفاجأت روسيا حلف شمال الأطلسي بتطوّر معدّاتها للحرب الإلكترونية القادرة على تحييد أي قمر صناعي عسكري ... أما الرّد الأمريكي والأوروبي والأطلسي (باسم "المجتمع الدّولي") فكان إقصاء روسيا من التظاهرات الرياضية ( كانت أمريكا وأوروبا تدّعي "عدم تَسْيِيس الرياضة، وإبقاءَها بعيدًا عن السياسة!!! " ) ومَنْع المواطنين من الإطلاع على وجهة النّظر الرّوسية أو أي وجهة نظر مُغايرة لما تَدّعيه الإمبريالية الأمريكية من "دفاع عن حقوق الإنسان وعن كرامة الشعوب وعن حقها في تقرير مصيرها..."
تعمل أوروبا والولايات المتحدة على تعزيز السيطرة على حدودها وتمنع ضحايا حروبها (من أفغانستان إلى مالي) من العثور على ملاذ آمن، شمال المتوسط أو شمال القارة الأمريكية، أي في أراضي الدّول التي تتنافس على إرسال الأسلحة والمرتزقة والمساعدات الغذائية إلى أوكرانيا، بالإضافة إلى تنافسها للترحيب باللاجئين الأوكرانيين (البيض والمسيحيين)، بشرط أن يكونوا مؤهلين، وتشجع الأمم المتحدة الدول "الغربية" على "المزيد من الكرم من أجل الترحيب بمليون شخص غادروا أوكرانيا"، وعبر الناطقون باسم الأمم المتحدة عن سرورهم لتدفق كل هذه المساعدات، بينما لم يتجلى هذا الحماس أبدًا بخصوص ضحايا الاعتداءات الإمبريالية الأخرى في أفغانستان وفلسطين وسوريا واليمن وليبيا والصومال ومالي والكونغو، إلخ، بل أصبحت منظمات الأمم المتحدة عاجزة على توفير التمويل اللازم لبرامج مساعداتها للاجئين الفلسطينيين واليمنيين والأفغان...
لم يستَفِد الأجانب غير الأوروبيين الموجودين في أوكرانيا (طلاب أو عمال عرب وأفارقة وآسيويون ...) من التسهيلات التي تمكنهم من مغادرة هذا البلد الغارق في الحرب، ولا يتم الترحيب بهم في أي مكان آخر، بينما دعا بعض النواب والمسؤولين الحكوميين في أوروبا إلى إنهاء تمويل برامج المساعدة المخصصة لمواطني البلدان غير الأوروبية، وهي برامج الأمم المتحدة والمنظمات "غير الحكومية" التي عادة ما تُقدّم خَدَمات ومعلومات مُفيدة للحكومات وللأطراف التي تُساعدها على تنفيذ برامجها في سوريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى واليمن وبنغلاديش وجنوب السودان، وغيرها، وتتضمن الدّعوة "إعادة توجيه المُساعدات وتبرعات الدّول المساهمة في إشعال الفِتَن في آسيا وإفريقيا، كما في أوكرانيا، وأعلن آخرون علنًا أنهم يفضلون المهاجرين الأوكرانيين، من ذوي المؤهلات العالية لتستفيد أوروبا من خبرتهم ومؤهلاتهم، وقال صحفي من قناة فرنسية على الهواء مباشرة: "لن نرحب باللاجئين السوريين الفارين من القصف، بل نرحب بالأوروبيين الذين يغادرون بلادهم أوكرانيا في سيارات تشبه سياراتنا، في محاولة لإنقاذ حياتهم، فرارًا من الهمجية الرّوسية"، ونُذَكِّرُ بأن فرنسا تترأس الإتحاد الأوروبي، خلال النصف الأول من سنة 2022، كما نُذَكِّرُ بغرق الشعب الأوكراني في الفَقْر (ثاني أفْقَر بلد أوروبي) منذ تَمَسُّحِ حُكومته بأذيال الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي...
إن دعوات المساعدة والتضامن مشبعة بالعنصرية التي تحاول السلطات ووسائل الإعلام الأوروبية تبريرها بـ "روابط التقارب الثقافي والجغرافي والاقتصادي ..."، لكن هذه العنصرية تعكس قبل كل شيء المواقف السياسية للمجموعات والأحزاب، والشركات الإعلامية، وتعكس أيضًا عُنْصُرية مُتَأصِّلَة في أجهزة الدّولة، فهي عنصرية مُؤسّسات رسمية، نابعة من عقلية أو "ثقافة" استعمارية راسخة في المُؤسّسات والمُجْتَمَعات الأوروبية...
يقدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن مبلغ أربعين مليار دولار ضروري للإغاثة الطارئة للسكان الذين يواجهون صعوبات في العالم، ولم تُسدّد الدّول التي تُطلق على نفسها صفة "المانِحَة" أكثر من 40% من المبالغ الموعودة، بينما يعتقد المواطنون والنّاخبون في الدّول الرأسمالية المتطورة أن سلطات بلدانهم اقتطعت هذه المبالغ من الميزانية، لمساعدة الفُقراء واللاجئين في تلك البلاد البعيدة، ولا تُدْرِجُ الأنظمة الرأسمالية الإمبريالية في أمريكا الشمالية وأوروبا وغيرها (أستراليا واليابان...) الشعب الفلسطين الواقع تحت الإحتلال، وفي مخيمات اللُّجُوء والشتات، ضمن الشعوب التي تتمتع بحق تقرير المصير، وبالمُساعدة، بل تسارعت خطوات القضاء على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، في مُحاولة لِمَحْو أحد شواهد الإحتلال منذ سنة 1948.
عندما تحول الاهتمام فجأة ليتركّز على مصير السكان الأوكرانيين، تم الحصول على 10% فقط من المبالغ المالية التي طلبتها الأمم المتحدة، لمقاومة المجاعة التي تركها الجيش الأمريكي وراءه في أفغانستان، بل تُرَحِّلُ حكومات أوروبا اللاجئين الأفغانيين الذين جاؤوا ضمن الحشود التي بثت صُوَرَها جميع محطّات التلفزيون في العالم، في مطار العاصمة "كابول" هربًا من عوْدَة طالبان إلى السلطة، وتعدّدت الرحلات الجوية بين بلدان أوروبا الشمالية وأفغانستان لإعادة اللاجئين إلى سلطة "طالبان". أما في اليمن فقد انخفض حجم المساعدات الإنسانية (منها الغذائية) بنسبة 40%، بحسب الأمم المتحدة، وربما قد يحصل ذلك في أوكرانيا أيضًا، بعد نسيان حملة التّضامن الواسعة الحالية...

برامج التّجسُّس في أوكرانيا:
أطلقت الولايات المتحدة، منذ سنة 1945، بالتّعاون مع حكومات أوروبا الغربية، وعُملائها في أوروبا الشرقية، وفي مناطق أخرى من العالم، مجموعة من برامج التّجسُّس، تحت عنوان ( Stay Behind )، لجمع المعلومات وللقيام بعمليات سرّيّة ضد الحكومات التي تعمل الولايات المتحدة على إسقاطها، وكثّفت وكالة الإستخبارات الأمريكية من نشاطها التّجسُّسِي بأوكرانيا، سنة 2015، وعززت فريق المُتعاونين بعناصر وتقنيات جديدة، كما كثفت التنسيق مع وكالات التجسس الأوروبية في أوكرانيا، وتبادل المعلومات التي تُرسلها أقمار التجسس الصناعية، واشارت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، إلى تكثيف المناورات العسكرية الروسية، داخل أراضي روسيا، لكن بالقرب من الحدود الأوكرانية، وبناءً على هذه المعلومات، طلبت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى من رعاياهما، منذ يوم الحادي عشر من شباط/فبراير 2022، مغادرة أوكرانيا.
على جبهة الدعاية، نبهت الحكومة الأمريكية (أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2021) حلفاء الناتو، وكذلك الحكومة الأوكرانية، إلى "غزو روسي وشيك لأوكرانيا"، ولمّا طلبت الحكومات الأوروبية أدلة، رفضت واشنطن تقديمها، لكن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي كانت تدرب الوحدات السرية الأوكرانية منذ العام 2014، زودتهم بأسلحة ووسائل اتصال إضافية، منذ بداية العام 2022 ...
أنشأت وكالة الإستخبارات الأمريكية "خلايا نائمة" يتم تدريب أعضائها على تقنيات الاتصالات وحرب العصابات، وذكرت الصحافة الروسية أن شحنات الأسلحة التي تصل عناصر هذه الخلايا من عُملاء الإستخبارات الأمريكية، تضاعفت منذ بداية العام 2022، حيث تهبط طائرات الإمداد بانتظام في البلدان المتاخمة لأوكرانيا من الغرب، ويتم نقل المعدات عن طريق البر إلى غرب أوكرانيا، ثم تتكفل أجهزة المخابرات الأوكرانية باستقبال الأسلحة وتوزيعها على الوحدات الموجودة خلف الخطوط الروسية. اعترضت المخابرات العسكرية الروسية معدات وأسلحة من أوروبا والولايات المتحدة، وفقًا لموقع "روسيا اليوم" الخاضع للرقابة، وتم حَظْرُ بثّه في أوروبا منذ اندلاع الحرب، لكي لا يطّلع المواطنون على أي رأي أو خبر أو موقف مُختلف عن موقف الحُكُومات الأوروبية (باسم الدّيمقراطية وحرية الرأي والتعبير؟؟؟).
رغم تواجد أجهزة مخابرات العالم (خصوصًا الولايات المتحدة وأوروبا)، فوجئت أجهزة المخابرات الأوروبية (الألمانية والفرنسية) بالحرب، بحسب الصحافة الألمانية الصادرة يوم 25 شباط/فبراير 2022، وقررت المفوضية الأوروبية، في 27 شباط/فبراير 2022، تمويل شراء وتسليم أسلحة ومعدات عسكرية إلى أوكرانيا، من خلال عمليات سرية على الأراضي الأوكرانية، تنفذها أجهزة التجسس الفرنسية والألمانية وغيرها، وتقديم المساعدة العسكرية، وتسليم الأسلحة والتدريب على استخدام هذه الأسلحة (وردت المعلومات بشأن عمليات التجسس، بموقع مؤسسة "جيمستاون" ( Jamestown Foundation ) 25 شباط/فبراير 2022 )


من تداعيات الأسبوع الأول من الحرب:
حذر صندوق النقد الدولي، يوم السبت 05 آذار/مارس 2022، من "العواقب الإقتصادية الخطيرة والمدمرة" في جميع أنحاء العالم، بسبب هذه الحرب، التي تُؤدّي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الأساسية كالغذاء، وتتضرر الأُسَر ذات الدّخل المنخفض والمتوسط من هذه الزيادات، لأن الإنفاق على الطاقة والغذاء يُمثل نسبة هامة من ميزانيات هذه الأُسَر، وسوف يكون للعقوبات الغربية المفروضة على روسيا تأثير كبير على الاقتصاد العالمي والأسواق المالية...
من جهتها، قَدّرت وكالة الطاقة الدّولية حجم واردات الإتحاد الأوروبي، لسنة 2021، بنحو 140 مليار متر مكعب من الغاز من روسيا عبر خطوط الأنابيب و 15 مليار متر مكعب في شكل غاز طبيعي مسال. ، أو ما يُعادل 45% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز ، وحوالي 40% من إجمالي استهلاكه، ويؤدّي ارتفاع أسعار الطاقة بمستوها خلال الأسبوع الأول من آذار/مارس 2022، إلى ارتفاع نفقات الطاقة للأسر الأوروبية بمقدار 400 يورو سنة 2022 ، ليصل متوسط ميزانية الطاقة السنوية إلى قرابة ثلاثة آلاف يورو للأُسرة الأوروبية الواحدة...
تعتبر أوكرانيا وروسيا من كبار مُنتجي الحبوب، وأدّت الحرب، إلى ارتفاع أسعار القمح ( يوم الجمعة 04 آذار/مارس 2022) بنسبة حوالي 8% ليتجاوز سعر الطن الواحد 450 دولارا، والذرة بنسبة 6,5% ليتجاوز سعر الطن الواحد 440 دولارا، وهي مستويات قياسية، فيما ارتفع سعر النيكل إلى أكثر من ثلاثين ألف دولارا للطن الواحد...
نشرت وكالة رويترز، يوم السبت 05 آذار/مارس مُلخّصًا لنتائج أسبوع من الحرب على أسواق المال، حيث يلجأُ المُضاربون إلى "الملاذات الآمنة"، ما أدّى إلى تراجع معظم مؤشرات بورصة نيويورك، يوم الجمعة 04 آذار/مارس 2022، وسجلت أسهم المصارف أكبر انخفاض، بسبب التخوفات من تأثير العقوبات الغربية ضد روسيا على النظام المالي الدولي، وتأثيرها السّلبي على نمو الإقتصاد.
في أوروبا، كانت نسبة الإنخفاض أكبر بكثير من أسواق نيويورك، وبلغت معدّلات قياسية، لأن معاملات أوروبا وشركاتها ومصارفها، مع روسيا أهم بكثير من معاملات نظيرتها الأمريكية،ة وبشكل عام تتوقع تحليلات خُبراء الوكالات المختصة في الدراسات الإقتصادية والمالية ( "رويترز" و "بلومبرغ" ) خسائر كبيرة للإقتصاد العالمي (الناتج المحلي الإجمالي لكافة الدّول)، سنة 2022، وخسائر أكبرَ منها سنة 2023، وسوف تُعاني الأُسَر الفقيرة ومتوسطة الدّخل من ارتفاع أسعار السّلع الأساسية...
اهتمت العديد من الحكومات، كعادتها، بتأثير الحرب على الشركات الكُبرى، فقرّرت دعمها من المال العام، مع الإشارة أن دعم المصارف والشركات الكبرى، مُسْتَمِرٌّ منذ 2008، بالتّوازي مع خفض الإنفاق الحكومي على الرعاية الإجتماعية وعلى مؤسسات الصحة العمومية والتّعليم...

كي لا نُخْطِئ العَدُوّ الحقيقي:
لا حديث عن الثورة في الدّول الرّأسمالية المتقدّمة، فالكلمة أصبحت في عداد المَفْقُودين، أو من اختصاص عُلماء الآثار والحَفْرِيّات، ولكنها محمودة في البلدان الفقيرة، وتُطْلِقُها وسائل الإعلام "الغربية" والخليجية لوصف أي ثورة مُضادّة تُنَفِّذُها الحركات المُوغلة في الرّجعية، ولذلك وُصِفت قوى الثورة المُضادّة في ليبيا وسوريا بالثّورية، وتسامحت السلطات الأوروبية والأمريكية مع التحاق عناصر مليشيات اليمين المتطرف والدّين السياسي بالمليشيات الإرهابية في سوريا، مُرُورًا بالأردن ولبنان والعراق وبالأخص بتركيا، لتضُمّ هذه الثورات المُضادّة مليشيات اليمين المتطرف والإسلام السياسي، الذي تدرّب في أفغانستان ضد الغزو السوفييتي، ثم في يوغسلافيا (كوسوفو البوسنة والهرسك) والشاشان، وأذربيجان، بدعم من الصهاينة وإخوانهم من حُكام الخليج العربي، ثم من تركيا الإخوانية...
جاء التّجْدِيد من سوريا، حيث موّل صهاينة الخليج، استجلاب نساء فقيرات، للمُساهمة في تخريب سوريا، بعنوان "جهاد النّكاح"، بإشراف نظام الإخوان المسلمين بتركيا، وفي ظل صمْت منظمات النسويات الليبراليات بالدّول الرأسمالية المتقدّمة، لأن هذا التسليع للنساء يكتسب بُعْدًا طبقيًّا، حيث لم تأتِ نساء الولايات المتحدة أو السعودية والخليج، بل تم تَوْرِيد النّساء (مثل أي سِلْعَة رخيصة) من دول فقيرة مثل تونس، بإشراف الإخوان المسلمين (النهضة وتوابعها) الذين كانوا يحكمون البلاد، وتركوها في حالة إفلاس اقتصادي وتَصَحُّر ثقافي، مع الإشارة إلى مُشاركة مجموعات من اللوطيين الأوروبيين في تدمير سوريا، واشتكى بعض اللوطيين الفرنسيين من كثرة الإعتداء الجنسي والإغتصاب من قِبَلِ من وَصَفُوهم ب"الثُّوّار" الذين ذهبوا ليقاتلوا معهم، بحسب ما أورده الرفيق عادل سمارة في كتابه "جهاد النّكاح" (رام الله 2014)
يتكرر الأمر حاليا في أوكرانيا بدعم من حُكومات دول حلف شمال الأطلسي وحتى الدّول التي تَدّعي الحياد، مثل سويسرا وفنلندا، حيث يتم إرسال السلاح ومرتزقة من عناصر مليشيات اليمين المتطرف والإسلام السياسي إلى أوكرانيا، لمُحاربة الجيش الرّوسي الغازي...
اعتَبَرَ الرئيس الروسي تهديدات (وأفعال) الولايات المتحدة وأوروبا "خَطَرًا وُجُودِيًّا" على بلاده، خصوصًا منذ 2014، لَمَّا تمكّنت أوروبا وأمريكا وحلف شمال الأطلسي من تنصيب نظام حُكْمٍ تابعٍ لها في أوكرانيا، وألْصَقَت صفة "المُقاوَمة" والوطنية بمليشيات اليمين المتطرف التي دربتها وسلّحتها المخابرات الأمريكية والصهيونية، مثل حزب "سفوبودا"، الذي لا يُخْفِي عقيدته النّازية، بينما تُلْصِقُ أمريكا وأوروبا صفة "الإرهاب" بجمعيات حُقُوقية فلسطينية...
ادّعى ساسة أوروبا أن الفارِّين الأوكرانيين من أَهْوال الحرب "أُناس أوروبيون بيض مثلنا" ولذلك وجب التّرحيب بهم، بينما تُطارد الفِرَق المُسلّحة والرادارات والكلاب، من تمكّنَ من الفرار من جحيم الحرب التي أطلقتها الولايات المتحدة وأوروبا في بلاد العرب، وفي إفريقيا وآسيا، بل تم قَطْع التمويلات عن المنظمات الإنسانية التي تُحاول إنقاذ هؤلاء من الموت غرقًا في البحر الأبيض المتوسط، أو الموت بَرْدًا في غابات وجبال أوروبا، واستنكارًا لهذا التّمييز، أصدرت ثلاث وثلاثون منظمة غير حكومية، يوم الجمعة الرابع من آذار/مارس 2022، وثيقة تُدِين الوجه العنصري لأوروبا الإستعمارية، ضد اللاجئين والمُهاجرين السود، على إثْرِ التصريحات والممارسات المُهينة وغير الإنسانية التي يتعرّضُ لها المواطنون الإفريقيون المقيمون في أوكرانيا، منذ بداية الحرب في الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير 2022، سواء من قِبَل الشرطة والسّلُطات في أوكرانيا التي تمنع إجلاءهم، أو على حدود البلدان التي حاول هؤلاء الأفارقة اللجوء إليها، خصوصًا "بولندا"، ولم يدافع الإتحاد الإفريقي ولا حكومات الدّول الإفريقية والعربية عن مواطنيها العالقين في أوكرانيا، فضلاً عن توفير الحماية لهم، أما المنظمات المشبوهة لحقوق الإنسان الأمريكية والأوروبية، فاعتبرت هذا الموضوعَ هامشيًّا ولا يستحق الإهتمام ...
صادرت الولايات المتحدة حق تقرير المصير الشعوب في أمريكا الجنوبية وفي آسيا وإفريقيا، قبل أن يأتي دَوْر أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وهي، بالتحالف مع أوروبا، تُصادر حق تقرير مَصِير شُعوب سوريا وليبيا وأفغانستان واليمن والعراق وشُعُوب إفريقيا، ومنذ 2014، تُصادر حق تقرير المصير للشعب الأوكراني، من خلال تنظيم ثورة مضادة ضد رئيس وبرلمان منتخبَيْنِ ديمقراطياً، لتَجْعَلَ من أوكرانيا ثاني أفقر دولة في أوروبا (بحساب نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا) بعد أن كان اقتصادها مُزدهرًا زمن الإتحاد السوفييتي، وأدّى الفقر والبُؤس إلى هجرة نحو 15% من السكان، ومنذ الغزو الرّوسي غادرها ما يقرب من مليون مواطن، ابتهجت الشركات الأوروبية بقدومهم وتتهيّأُ لاستغلال أصحاب الخبرات منهم، بأرخَصِ الأسْعار...
تستغل الإمبريالية الغربية حق الشعب الأوكراني في الدفاع عن نفسه والدفاع عن استقلاله وطموحه لتقرير مستقبله وحل مشاكله بشكل ديمقراطي، لتدّعي مُساعدته، لكن أظهرت التجارب أن حُكّام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يهتمون بمصير البشر ولا يُساعدوهم، فهم، كمُمَثِّلِين لمصالح مجموعات مالية وشركات عابرة للقارات، لا يهتمون سوى بالثروات والموقع الجغرافي الاستراتيجي لأوكرانيا، كما غيرها من البلدان الأخرى كفنزويلا والعراق وأفغانستان والصومال، ولا يعنيهم مصير الشعب الأوكراني في شيء، بل على العكس، فكلما تدخلت الإمبريالية الأمريكية والإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في بلد، باتَ أفْقَرَ من ذي قبل، وأصبح مُجزّأً ومنقسمًا إلى طوائف وأقليات، وفي أوكرانيا، أوكلت دول حلف شمال الأطلسي، مهمة التخريب والتّفتيت إلى وُكلائها من الميليشيات الإرهابية لليمين الأوروبي المتطرف والإسلاميين الذين أظْهَروا تفانيا وخبرةً وبراعةً في خدمة مصالح الإمبريالية في أفغانستان، ثم في كوسوفو أو سوريا أو ليبيا أو أي مكان آخر، وتُقدّم لنا وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية والخليجية هذه المليشيات الإرهابية كأفْضَل مُدافع عن الحرية وعن الحقوق الوطنية الديمقراطية للشعوب !!!
لا يمكن إِدْراج فلاديمير بوتين (وما يُمثِّلُهُ من تحالف حاكم في روسيا) كنصير لحق الشعوب في تقرير المصير، لا في سوريا ولا في فلسطين ولا في أوكرانيا، وما على الشُّعُوب المُضْطَهَدَة سوى الإعتماد على قُواها الذّاتية. إنه قومي شوفيني يدافع عن مصالح برجوازية قومية محلية تأمَلُ تَوَفُّرَ أرضية تُساعد على التنافس الحُرّ، في "عالم متعدد الأقطاب"، وفق عبارة الرئيسَيْن الصيني والرُّوسي، لكن الرأسمالية الأمريكية تريد عالمًا يُسودُهُ قُطْبٌ واحدٌ، تقوده الرأسمالية الأمريكية التي تستفز وتهاجم كل من لا يخضع لها، ما اضطر النظام الروسي للرد في مواجهة هذه الاستفزازات وعسكرة السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية (بواسطة حلف ناتو)، ما لا يترك مجالا للتفاوض وتسوية الخلافات بوسائل دبلوماسية وسِلْمِيّة، بين قوى رأسمالية متقدّمة.
في المجال الإقتصادي، أعربت الدّول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (بلسان وزير خارجية ألمانيا) إنها تسعى إلى إخضاع روسيا الكامل لحلف شمال الأطلسي، من خلال التهديد العسكري المستمر، وكذلك من خلال العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الرّامية إلى شل الاقتصاد الروسي، خلال أربع وعشرين ساعة، بعد فصل البنوك الروسية الكبرى عن نظام "سويفت" لتحويل الأموال عبر الدّول، وتجميد أُصُول المصرف المركزي الرّوسي، ما سوف يؤدّي إلى حرمانه من التصرف في مئات المليارات من الدّولارات، وإلى انهيار العُمْلة الرّوسية (روبل) وارتفاع التضخم وانكماش النشاط الاقتصادي، وتدمير الاقتصاد الروسي، وخلق حركة سخط الاجتماعي، كمقدّمة لتغيير النظام ولِتفكك الدولة، بحسب موقع صحيفة "نيويورك تايمز"، في العشرين من شباط/فبراير 2022.
إن أكبر الخاسرين في هذه الحرب، هي الفئات الشعبية والعاملون والفُقراء من الشعبين الأوكراني والروسي، فيما دُفِنَت المطالب الاجتماعية بالمساواة والعدالة، في أوروبا والولايات المتحدة، تحت ضجيج أحذية جنود الناتو، وتحت ضجيج وسائل الإعلام المهيمنة التي تمتلكها الشركات متعددة الجنسيات ...
أما نحن من العرب ومن الشعوب الواقعة تحت الإستعمار والإستغلال والإضطهاد، فنعيش هذا الوضع منذ القرن التاسع عشر، وربما منذ حُروب الفَرَنْجة، ومررنا بحالات مد وجَزْر، ولا خيار لنا سوى المقاومة والصّمود اللّذان يُؤدّيان إلى التغلّب على الأعداء، الدّاخليين والخارجيين، وإن طالت فترة المقاومة، ما يتطلّب طول النّفس والإيمان بعدالة قضايانا العادلة، واعتبار الدّعم الخارجي، غير المشروط، رافدًا ضروريا وهامًّا، ولكنه ليس عاملاً أساسيا...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن