مقال : الحداثة الفردانية

مراد الحسناوي
Elhasnaouymourad@gmail.com

2022 / 3 / 5

لطالما تحدثنا مثلما كتبنا عن الحداثة بمفهومها العام و المشترك في وطننا العربي، بتعدد الرؤى و باختلاف زوايا النظر إليها، إلا أن ما أصبحت تثيره الحداثة أو العصرنة اليوم بما هي تحديث و تجديد لم يعد أمرا مشتركا، بل أمر يؤول إلى الفردانية في حقيقته، و ذلك أن أصبح لدينا اليوم حداثة شخصية لدى أفراد المجتمع، هذه الحداثة الفردية التي غالبا ما تبنى من خلالها ذواتهم على أنانية نرجسية مرضية، لا تنظر إلى الوحدة و التكتل و التلاحم الإجتماعيين إلا من خلال ثقب المصلحة الفردية/الشخصية العقيمة.
و قد حدث ذلك بعدما صار مواطن اليوم كائن أكثر منه إنسان بل كائن معيشي أكثر منه كائن مفكر، أصبح اليوم عبدا لرغبات دونية مزيفة و مصطنعة لا يكاد يلبيها حتى تتجدد و تتولد معها رغبات أخرى جديدة، تجعله بعيدا عن حقيقته جاهلا لها. بفعل سياسات الإحتكار و تغول الفكر الرأسمالي الذي جعل هذه الحداثة مستنقع لقيام المزيف و سقوط الحقيقي، و ذلك ما نشاهده اليوم في رغبة عالم الشركات العابرة للقارات و المتعددة الجنسيات الراغبة بالشخصيات السيكوباتية و النفسيات المرضية للترويج لها بفعل اختلال التوازن و انعدام الأساس الأخلاقي لدى أغلبها، حتى تصبح مادة متداولة و مستهلكة مقبولة لدى الآخر بل و قدوة له، من خلال الترويج لكل المنتوجات الربحية، حتى الملابس فعارضات الأزياء ذوات القوام الممشوق و العقل الفارغ الذائب في طلاء الوجه و أحمر الشفاه الفاقع عند اعتلائهم للخشبة و المشي فوق السجاد الأحمر، أمر لا يهدف في حقيقته إلى الترويج لماركات الملابس بل يتجاوز ذلك إلى الترويج لأشكال أجساد جديدة و قصات شعر جديدة و إثارة الغريزة بدل العقل. إعمالا لمبدأ نوم العقل من يقظة الغريزة. إن هذا "التراث المريض" كما وصفه المفكر وائل حلاق، لهو يستمد مرضه من فقره الأخلاقي، فحداثة اليوم في صورتها الأولى الغربية و بما أن حداثتنا العربية تقوم مقام صورة مكررة عنها ما يجعلني أراها مجرد تشويه لواقع مغاير للواقع الذي ابتدأت فيه الحداثة الغربية، لهي حداثة مريضة في حد ذاتها و فقيرة لانعدام توفرها على أساس أخلاقي، و هو ما نتفق عليه و كل من طه عبد الرحمان و وائل حلاق و محمد سبيلا...إلخ.
يقول المفكر وائل حلاق "نحن البشر لا يمكن أن نعيش و نزدهر دون سبب أخلاقي" و عليه يمكنني إخاء القول أن العيش دون أن يكون لنا أساس أخلاقي لهو ضرب من الضياع، إذ كل عيش لا أخلاقي هو عيش مشوه، و كل فرد لا تقوم سلوكياته على أساس أخلاقي لا تصنف سلوكياته إلا في خانة الإضطرابات، إذ يستحيل استواء سلوك الفرد و هو لا يملك مرجعية أخلاقية ينطلق منها و يقوم عليها، تماما كما يستحيل قيام أي عقيدة دون بعد أخلاقي حتى و إن كانت الأخلاقية تضعنا أمام الكثير من المسؤوليات فهي ضرورية لتماسك الشخصية الإنسانية، و كذا تكاثف النسيج الإجتماعي، و الحد من الجري وراء الرغبات الزائفة التي أصبحت تستحدث كل يوم بصوور مختلفة و مثيرة.
إن دهرانية الإنسان منذ ما قبل التاريخ إلى حدود اليوم لم تعرف استقرارا إنسانيا و صلاحا نفسيا إلا في الفترات التي اتحد فيها السلوك البشري بالبعدين العقلاني و الأخلاقي. هذان البعدان اللذان تفتقد لهما حداثة اليوم، هذه الحداثة التي أسست لحداثة شخصية و فردانية مريضة، تقوم على الأنانية النرجسية و النفسية البسيكوباتية، التي أدت بدورها إلى تفسخ الذات الإنسانية و تفكك المجتمعات من خلال اغتراب الإنسان عن مجتمعه، و الأكثر من هذا أننا اليوم أمام فردانية مغتربة عن ذاتها، أي أننا اليوم أمام إشكالية اغتراب الإنسان عن نفسه.
إن العيش في ظل حداثة فاقدة لأي بعد أخلاقي و استقلال حقيقي أمر يؤدي بنا إلى الضياع الإجتماعي و تفكك الذات الإنسانية، فاليوم نحن أمام عملية كبرى من التشييء للإنسان و تبخيس لقيمته الوجودية في ظل سيادة الآلة و إحلالها محله و كذا بإحلال الرغبة محل العقل، إذ حتى باعترافنا بتسهيل خدمات عيشه إلا أن هذا التسهيل و التطور جاء بتحصيل جثة كرامة الإنسان و ضرب قيمة كينونته بالنسبة للإنسان الغربي، أما فيما يخص "نحن" العالم العربي والإسلامي بما لنا من خصوصية تاريخية و زمكانية أيضا، فلنا من المشكلة مشكلتين، تتمثل الأولى في أننا نعيش حالة صدمة حداثة ما نتج عنه العيش تحت وطأة حداثة مشبوهة مشوهة و غير مستقلة، فيما تتجلى الثانية في اغتراب الإنسان عن نفسه و مجتمعة و كذا حصده لحداثة شخصية مشوهة و مريضة، قد تكون أسبابها عديدة لكن أبرزها أننا لم نخلق حداثة خاصة بنا وفق شروطنا الوجودية و التاريخية الخاصة، و الأسوء من هذا أننا حتى لم نستطع تبني الحداثة بشكل صحيح يسمح لنا بإنمائها وفق مصلحتنا، الأمر الذي جعلنا نعيش في وقع صدى صدمة حداثية كبرى هي في حقيقة الأمر أو تكاد تكون صورة حداثة مكررة لحداثة الآخر الأصلية. ما يضعنا اليوم أمام معضلة كبرى نفقد من خلالها الفرد و المجتمع معا، خصوصا و أننا فقدنا في ظل هذا التشوه الحداثي أكثر ما كان يميزنا و يربطنا بالواقع و المجتمع عبر مر العصور ألا و هو الأساس الأخلاقي لقيام معتقداتنا، أفكارنا و كل سلوكياتنا، الأمر الذي كان يرسخ كينونتنا و يرفع من قيمتنا الوجودية في وجه التاريخ البشري.
لن نستغرب بروز نفسيات مريضة إعلاميا و تروج لأفكار مريضة اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا، بل لن نستغرب من اعتلائها الترندات عبر السوشيال ميديا و تحقيقها لمشاهدات و متابعات مرتفعة من خلال ما تروج له، في ظل هذه الحداثة الشخصية المريضة لدى أفراد المجتمع و نرجسياتهم الأنانية، إذ لا يمكن للذات المريضة أن تبحث عن انعكاسها عبر مرآة الذات الحقيقية، لذا فهي تبحث عنها في ذات مريضة مثلها، و هذا بالضبط ما تفعله بنا الحداثة اليوم. إن حداثتنا اليوم تحتاج إلى إصلاح حداثي أو بالأحرى إلى تأسيس حداثة جديدة و مستقلة لها روح و بعد أخلاقي لا يجعل الإنسان يستعبد أخاه الإنسان، أي أننا نحتاج إلى حداثة مضادة لما هي عليه حداثة اليوم الوليدة للرأسمال المادي بفكرته الربحية. إن عالم اليوم يكاد يكون عالما لا عقل له، عالم ربه الدولار و ملذاته الشذوذات و البذاءات و القاذورات، بل و كل ما يخالف طبيعة تكويننا كإنسان. كل هذه الأمور من شأنها أن تجعل المرء يعيش على حواف إنسانيته إن لم نقل بعيدا عنها كل البعد، غارقا في اغتراب ذاتي، واقفا في هذا العالم بذات نرجسية أنانية مريضة لا ترى في ظلمة ملامحها سوى الأنا، إنه لمصير أسود ذاك الذي يصنعه الإنسان بنفسه اليوم. إذ يكفي أن نحكم العقل الذي باتت مساحته تضيق بسرعة جنونية بفعل تبعيتنا الحداثية اليوم، لندرك كم أضعنا من الوقت و نحن نصنع من أنفسنا بأنفسنا ذوات مريضة فارغة، مقعرة لا تتجاوز رغباتها حدود رغبات نرجسية مفردة. كما أننا نحتاج إلى قدر زائد من الحكمة لكي ندرك أن أكثر ما نعده عاديا في حياتنا ليس عاديا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن