المسيحيون والمواطنة الفائضة

عبد الحسين شعبان
drshaban21@hotmail.com

2022 / 1 / 12

مرّت أعياد الميلاد في منطقتنا على نحو حزين هذا العام، فالعديد من بلدان المنطقة يعاني من مشكلات متعدّدة إقتصادية واجتماعية وثقافية، خصوصاً في ظلّ انسداد الآفاق السياسية بصعود موجة التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، وتلك معادلة طرْدية ضربت مجتمعاتنا بالصميم، يضاف إليها تفشّي فايروس كورونا.
وإذا كانت البشرية جميعها تحتفل بعيد ميلاد السيد المسيح وعيد رأس السنة الميلادية، فإن المسيحيين هم المعنيّون الأكثر بهذه المناسبة لاعتبارات دينية إيمانية وتاريخية، لكن ما حصل لهم في العقدين الماضيين بشكل خاص جعلهم يتوجّسون خيفة ويزدادون قلقاً لما عانوه من تفجير الكنائس والأديرة واستهداف مباشر لمؤسساتهم وأماكن سكنهم، إضافة إلى تهجير منظّم أو غير منظّم، خصوصاً في البلدان التي شهدت ظروف عدم استقرار وتوتّر واحترابات مسلّحة، مثل العراق وسوريا ولبنان والسودان ومصر إلى حدّ ما، دون أن ننسى فلسطين التي عانى مسيحيوها من ضغوط مستمرّة لاقتلاعهم من أرضهم ودفعهم إلى الهجرة.
وكانت عمليات الهجرة والتهجير شديدة الوطأة على المسيحيين والمجموعات الثقافية التي أصبحت مهدّدة في وجودها وكيانها وثقافتها وديانتها، والهدف هو محوها من موزائيك الشرق ومجتمعاته متعدّدة الثقافات ومتنوّعة الحضارات، والتي ظلّت طوال قرون من تاريخها تحتضن المسيحيين بحنو بالغ، إضافة إلى المجموعات الثقافية الأخرى، ولا أقول بمصطلح "الأقليات" لأنه يستبطن معنى الإستتباع والخضوع من جهة، ومعنى التسيّد والهيمنة من جهة أخرى، لأن كلّ دين أو قومية أو لغة تُعبّر عن مجموعة ثقافية وخصوصية وتاريخ يخصّ بشراً بغضّ النظر عن عددهم وحجمهم، وبالمعنى العصري لمفهوم الدولة، إنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات طبقاً لحكم القانون ومبادئ المساواة، وحسب مونتيسكيو القانون مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً.
ووفقاً لهذه الرؤية، فإن المسيحيين أو غيرهم من المجاميع الثقافية الأخرى، يمثّلون ديناً معيّناً بغضّ النظر عن عددهم، مثلما يمثّل غير العرب الذين يعيشون في البلدان العربية كالكرد مثلاً قوميةً معيّنة بغضّ النظر عن العدد أو الحجم، وهم مواطنون متساوون في إطار دولة المواطنة الحيوية والمتعايشة.
لا نستطيع حصر ما قدّمه المسيحيون لمجتمعاتنا، فهو أمر يصعب حصره، ولكن أسئلة كثيرة تزدحم في الرأس بمناسبة أعياد الميلاد الحزينة يتقدمها سؤال مركزي يظلّ يتردّد كلّ يوم: لمصلحة من يجري بانتظام إستهداف المسيحيين والمجموعات الثقافية الأخرى في مجتمعاتنا التي يراد تفريغها من التنوّع والتعدّدية وإغلاقها على نفسها في عمليات إزاحة حضارية بهدف جعلها أحادية متناحرة حتى مع نفسها؟
لقد عرفت مجتمعاتنا تاريخ التعايش ما بين المجموعات الثقافية قبل الإسلام وبعده، وثمة شذرات مضيئة على هذا الصعيد وإن كان بعضها معتماً. وكانت (العهدة العمرية التي منحها الفاروق عمر للبطرك صفرنيوس) في العام 15 هجرية بعد فتح القدس أساساً استمدّ منه المسلمون حفظ ديانة المسيحيين وكنائسهم وصلبانهم وشعائرهم وطقوسهم الدينية، وبالطبع حماية حياتهم وأموالهم وممتلكاتهم، بالاستناد إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهّرة.
ولهذا فإن محطات التعايش التاريخي – الحضاري كانت هي الأساس، وهو ما حاولت المجموعات الإرهابية تعريضه للتشكيك والإلغاء، والهدف نسف قيم التسامح والعيش المشترك والمصير الإنساني الواحد، خصوصاً الوطنية الجامعة، مثلما هدفها إقصاء قيم المواطنة بتقسيم المجتمعات المتعدّدة الثقافات إلى أُصلاء باعتبارهم "أغلبية" ومواطنين فائضين باعتبارهم "أقليّة" .
لقد أطْلقت على المسيحيين مصطلح ملح العرب، والملح كما نعلم يُضفي على الطعام مذاقاً مستطاباً، ولهذا لا تكون مجتمعاتنا ذات طعم ومذاق لذيذين دون الوجود المسيحي، وقد ورد في القرآن الكريم أن السيد المسيح هو "روح القدس" و "قول الحق"، فكيف يتمّ جزّ رقاب أتباعه باسم "الإسلام"، وكيف يُعدّ المسيحيون "كفّاراً" كما تذهب إلى ذلك بعض الفتاوى الإرهابية "الإسلاموية".
وبعد ذلك فالمسيحيون ليسوا أغراباً، فهم موجودون قبل المسلمين وعاشوا في أرضهم بعد مجيء الإسلام، وشاركوا واشتركوا في بناء الحضارة العربية الإسلامية دون انقطاع وهم جزء فاعل من نسيج المجتمع العربي و الشرق عموماً على الرغم مما تعرضوا له تاريخياً من أذى وما لحق بهم من غُبن، لكن ما يقع عليهم اليوم يفوق كلّ اضطهاد في السابق، حيث وجدوا أنفسهم بعد قرون من العيش المشترك والتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي وكأنهم على قارعة الطريق: طارئون أو ضيوف غير مرحّب بهم أو حتى غير مرغوب فيهم.
إذا كانت فلسطين موطن المسيح ومسقط رأسه، فهل يمكن تصوّر فقدانها بشكل خاص ودول المشرق للحضور المسيحي الذي أخذ يتراجع وينحسر في ظلّ الحملات الإجلائية ذات الوتيرة السريعة ؟ وهل سيغيب الكهّان في أديرة معزولة والقسيسين في كنائس فارغة ، مثلما خسرنا في خمسينيات القرن الماضي الوجود اليهودي كإحدى المجموعات الثقافية المؤثّرة في مجتمعاتنا؟
وهل يوجد لدينا مواطنون فائضون لكي نتبرّع بهم إلى دول أخرى أم ثمة حاجة إلى إعادة النظر بفكر مجتمعاتنا وممارساته بما يقرّبها انسانياً من المواطنة المتساوية والعيش المشترك واحترام التنوّع والحق في الاختلاف؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن