البربر والمسألة الموريسكية في مرآة اليهود السفرديم

خالد سالم
khaledsalem8@yahoo.es

2022 / 1 / 2

"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

في مثل هذا اليوم منذ خمسماية وثلاثين عامًا، صباح يوم السبت الثاني من يناير عام 1492، يوم مشهود له بطقسه البارد، الموافق الثاني والعشرين من صفر عام 897 هجري، سُلمت مدينة غرناطة ومعها قصر الحمراء إلى الملكين الكاثوليكيين، فرناندو وإسابيل، لينتهي بذلك الحضور العربي بصورته السياسية في الأندلس، وإن استمر قرنًا آخر مستترًا تحت مسمى الموريسكيين. كان سقوطًا متماشيًا مع قوانين الطبيعة والقوة، بعد حرب استمرت عشر سنوات على شكل حملات موسمية، في الربيع والصيف، تحت ضغط جيوس مملكتي قشتالة وأراغون بينما كانت غرناطة تئن تحت حصار الجيوش المسيحية ووطأة حرب أهلية طاحنة وأوضاع تذكرنا بالعالم العربي اليوم.
وعليه فإن سقوط غرناطة، آخر إمارة عربية في الأندلس، كانت تحصيل حاصل، ونهاية انهيار مؤجل بدأ بسقوط إمارة طليطلة في نهاية القرن الحادي عشر، وهو ما أوجزه الشاعر ابن العسّال في أبياته المشهورة القائل فيها:
أهل أندلس شدوا رواحلكـم *** فمـا المقـام بها إلا من الغلـط
الثوب ينسل من أطرافـه وأرى *** ثوب الجزيرة منسولاً من الوسـط
من جاور الشر لا يأمن بوائقـه *** كيف الحياة مع الحيَّات في سفـط

وببصيرته ورؤياه الشعرية أدرك ابن العسال أن سقوط الأندلس وقع حين سقطت طليطلة، أي قبل ضياع غرناطة بحوالي ثلاثة قرون، فالاحتلال يكون عادةً من الأطراف وليس من الوسط، مثلما حدث في طليطلة، أي وسط الأندلس. وهنا لجأ إلى الصور البلاغية، فالثوب ينسل من الأطراف وليس من الوسط، ولهذا لا يمكن العيش مع الأعداء في فضاء شببه بالسفط. وكانت مقارنته في موضعها، وهنا ربما يحملنا خيالنا المعاصر إلى نكسة 1967، عندما نسل ثوب العروبة من الوسط، بتأمر إقليمي وعالمي، فكان ما شهدته المنطقة العربية من تصدع واحتراب داخلي، ما جعلها أمة تأكل أحشاءها، وانتهى الأمر إلى انبطاح وتطبيع لم يكن يحلم به الأعداء. الموازاة واضحة، ومن سوء طالعنا أن الأندلس كانت تتوزع في قرونها الأخيرة على اثنتي وعشرين طائفة، دويلة، وهو عدد الدول العربية اليوم! والاحتراب بين الأشقاء يمكن قراءته في مرايا العرب اليوم من حروب بينية وتهجير بدءًا بفلسطين ومرورًا بالعراق وسورية واليمن.
لست من مؤيدي فكرة الفردوس المفقود، فالأندلس كانت حلقة من حلقات التاريخ، كأي حضور أو استعمار في أرض لم تكن للمستعمر مسبّقًا رغم أنها دانت له وأصبح جزءًا من اللحمة المحلية. لكن المشلكة تكمن في ما أُطلق عليهم الموريسكيون، العرب والمسلمون، الذين عاشوا في كنف الحكم المسيحي بعد سقوط غرناطة حتى طردهم بقرار رسمي في العشرية الثانية من القرن السابع عشر.
ومع سقوط غرناطة، طُرد اليهود من الأندلس أيضًا، فلجأوا إلى دول المغرب العربي والشرق الأوسط وتركيا، أي إلى دول إسلامية، بعد أن طالتهم يد التنكيل. عاش يهود الأندلس السابقون، السفرديم، في هذه البلدان، وحافظوا على هويتهم السفردية، من بينها اللغة إلى جانب العبرية ولغة مواطنهم الجديدة. وبعد اغتصاب فلسطين هاجر كثيرون منهم إلى دولة الاحتلال وشكلوا فيها جماعة لا يستهان بها اجتماعيًا وسياسيًا.
أما الموريسكيون الذين ظلوا في إسبانيا بعد سقوط غرناطة حتى طردهم في الفترة بين عامي 1609 و1614 فقد طُردوا رسميًا ولحقوا بمن سبقوهم قسرًا أو طواعيةً بعد أن أجبروا على التنصر أو أن تتولى أمرهم محاكم التفتيش البغيضة. نقل الموريسكيون معهم، في رحلة عكسية، ما ورثوه من تراث غنائي واجتماعي ومعماري إلى شمالي إفريقيا، فتركوا بصماتهم الجلية في عمارة بيوت ومساجد لا تزال قائمة حتى اليوم.
لم يكن التعايش بين الأديان الثلاثة في الأندلس سلميًا خلال القرون الثمانية، فالفتن السياسية التي قادها البربر مشهورة، واضطهاد اليهود على أيدي الممالك المسيحية بعد تراجع الجغرافية العربية في الأندلس، موثق تاريخيًا. حافظ السفرديم على هويتهم مزدوجة، وخاصة أمام تعالي الإشكناز، في الكيان الصهيوني. ولا تزال مدينة الزهراء، على أطراف قرطبة، التي يرممها الإسبان منذ أكثر من قرن، شاهدة على فتنة كبرى أتت عليها وحولتها إلى هشيم.
ظل السفرديم ينظمون أنفسهم ويعقدون المؤتمرات لاثبات هويتهم القديمة ويوثقون ما لديهم. ومع وصول الديمقراطية إلى إسبانيا بعد رحيل طاغيتها في القرن العشرين، الجنرال فرانكو، سنة 1975، أخذوا يطالبون بالاعتراف بهويتهم السفردية، الإسبانية القديمة، بغية الحصول على جنسيتهم القديمة. وأمام ضغوطهم داخل إسبانيا وخارجها، رضخت الدولة الإسبانية واعتذر لهم ملك إسبانيا السابق، خوان كارلوس، لطردهم من الأندلس، وصادق مجلس النواب الإسباني على قانون بالاعتراف بأحفاد اليهود السفرديم الذين طردوا من إسبانيا في الفترة بين عامي 1492 و1498. ومنحهم هذا القانون حق الحصول على الجنسية الإسبانية خلال فترة محددة.
الملفت للنظر أن رئيس البرتغال الأسبق، الإشتراكي جورجي سامبايو، اعتذر في خطاب رسمي ألقاه في مؤتمر مشترك بين العرب والبرتغاليين في خريف 1997، على طرد العرب من البرتغال، الشق الثاني من الأندلس، لكن العرب والمسلمين لم يعيروا هذا الحدث اهتمامًا وظلوا يتباكون على الفردوس اللامفقود إلى اليوم، ويتغنون على مآثرهم العسكرية والحضارية في الشق الأكبر من الأندلس، إسبانيا اليوم. وفي غمرات الزهو بتلك المآثر لم يبحثوا في أسباب ضياع الأندلس الحقيقية: الفتن الطائفية وتسامح الإسلام! لعل في تنصير الأميريكتين وفرض لغات الغزاة تعضيد لرأيي هذا.
بعد ثورات الربيع العربي المؤودة هبت على الوطن العربي رياح شعوبية وخوض في أنساب سكانه عرقيًا تاريخيًا وثقافيًا، تماشيًا مع نظرية "الفوضى الخلاقة" الأميركية، بعد أن كانوا قد عثروا على عدو جديد، العدو الأخضر، بعد انهيار الكتلة الشرقية بقيادة الإتحاد السوفيتي، وهو ما أعلنه المفكر الأميريكي صامويل هاننغتون في مقاله المشهور.
أن يخطط خصوم الماضي والحاضر لمواصلة السيطرة علينا نحن العرب بغية مواصلة تفوقه علينا أمر ليس منطقي، لكن ليس فيه مبرر لاستمرائنا الشعور بالدونية وتمزيق الذات. فكم من نعرة إقليمية ودعوة للشعوبية والتخلص من الهوية العربية لدى بعض شركاء الوطن خرجت واستفحلت بعد الربيع العربي المشؤوم!! الأشقاء البربر، أو الأمازيغ كما يحلو لهم أن يسموا أنفسهم مع بدء تطبيق الفوضى الخلاقة، يقفون على رأس دعاة هذه التوجهات الجديدة، وكأنهم كانوا في غفلة طوال التاريخ وفجأة اكتشفوا أنهم يتقاسمون الوطن مع العرب الذين ينعتونهم بالغزاة وعليهم أن يعودوا إلى موطنهم الأصلي! لا أدري أين هذا الموطن الذي يسع هذه الملايين. هذا ناهيك عن جلد الذات والادعاء بأن غزو، أو فتح، الأندلس ما كان له أن يتم.
لم يقتصر هذا الادعاء على شمالي إفريقيا بل طال الأندلس، أكثر الحلقات إشراقًا في تاريخ العرب والمسلمين، بل البشرية جمعاء، رغم الدماء التي سالت على سهول ووديان الأندلس، تارةً جراء الفتن بين البربر والمسلمين، وتارةً أخرى بسبب الصراعات الدموية الموسمية بين الممالك العربية والممالك المسيحية.
اليوم تتكاثر دعوات نسب الأندلس إلى البربر، تحت ادعاء أن العرق العربي كان ضئيل العدد، وهذا الطرح يجافي الواقع التاريخي ويلوي عنق الحقيقة إلى حد الكسر، فنظرة إلى القبائل العربية التي هاجرت إلى الأندلس ولغة سكانها وإدارتها وثقافتها وتراثها تفند هذه الترهات. أذكر هذا وأنا على يقين من أن دماء بربرية تجري في عروقي نظرًا، فعائلتي الموريسكية تعود في جذورها إلى الأندلس، إذ هاجرت إلى فاس ثم انتقل جزء منها إلى وهران، واستقرت شريحة منها في فترة لاحقة في مصر.
وهنا أستشهد برأي عالم الأندلسيات الدكتور محمود علي مكي في برنامج تلفزيوني عن الأندلس إذ رد على الخلاف حول تسمية الأندلس بالعربية أو الإسلامية قائلاً "عندما نتحدث عن العروبة لا نعني هنا العرق، بل عروبة اللسان، عروبة الثقافة، فكل المسلمين في تلك الفترة كانوا يعيشون في كنف الدول العربية لقرون طويلة (1).
هناك حرب شعواء وجهود حثيثة وخبيثة، ليست أكثر من حرث في البحر، لاثبات بربرية الأندلس بدءًا بطارق بن زياد، رغم ما يثبت أنه كان من بلاد الشام، وامتدادًا على ممالك الطوائف التي ضيعت الأندلس مملكةً تلو الأخرى.
كان حريًا بالأشقاء الأمازيغ أن يوحدوا الجهود مثل اليهود لتوثيق العائلات الموريسكية، بعد دراسة وتمحيص وتنقيب في الوثائق التي تعج بها المكتبات العربية والإسبانية، بغية المساواة مع اليهود السفرديم في المطالبة باسترداد حقوقهم التاريخية على لسان ملك إسبانيا ومجلس نوابها. أبواق الأمازيغ كثيرة وتعمل على تشويه التاريخ، وهنا يذكرونني بالصهاينة في تزويرهم لتاريخ فلسطين من أجل إثبات أنها كانت لهم منذ آلاف السنين. بعضهم أخذ يدعي أن مُورثات –جينات- الإسبان والبرتغاليين تتطابق مع مورثات سكان شمالي إفريقيا، ونسوا أن النقاء العرقي لأي شعب من ضرب الخيال والافتراء، وخاصة في الدول المعبرية بين حضارات وثقافات مثل العراق ومصر والمغرب وإسبانيا.
هذا التشرذم حمل البعض على ادعاء من الطرف الآخر، الإسباني، مفاده أن العرب لم يغزوا شبه جزيرة أيبيريا، إسبانيا والبرتغال، وأن هذه الحضارة من صنع السكان الأصليين! ولم لا وهم السكان الذين استقروا في شبه الجزيرة رغم تعرضها لحالات غزو عديدة على أيدي شعوب أخرى مثل الفيكينغ والفينيقيين والسليتيين...إلخ.

(1) انظر شريط الفيديو:
https://www.youtube.com/watch?v=49xgmbjjX3A
الموجود في شبكة المعلوماتية وكان العنوان المكتوب تحت الفيديو" الحضارة الإسلامية في الأندلس | لقاء يجمع د محمود علي مكي و د الطاهر أحمد مكي "



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن