قصاصة ورق غيرت مجرى التاريخ: هكذا بيعت فلسطين (1)

خليل اندراوس
aljabha.org@gmail.com

2021 / 12 / 3


وعد بلفور أو إعلان بلفور بيان أصدرته الحكومة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى لإعلان دعم تأسيس "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، التي كانت محتلة وتحت سيطرة امبراطورية الظلام والاضطهاد العثماني، وكانت حينها أقلية يهودية (حوالي 3-5%) من إجمالي سكان فلسطين. ونص هذا الوعد أي وعد بلفور لا بل قصاصة ورق بلفور التي غيرت مجرى التاريخ يقول:

"تنظر حكومة جلالة الملك بعين العطف إلى اقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية على أن يفهم جليا انه لن يؤتي بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا بالحقوق أو بالوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر". ضمن هذا الوعد ضمن رسالة بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 موجه من وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني وذلك لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العظمى وايرلندا. نُشر نص الوعد (أو الإعلان) أو نص قصاصة الورق هذه في الصحافة في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917.

وعد بلفور جاء بعد نجاح المؤامرة السياسية التي أدت إلى خلع رئيس حكومة بريطانيا المناهض للصهيونية اسكويت عام 1916، واستبداله بالثلاثي: دافيد لويد جورج وونستون تشرشل، وآرثر جيمس بلفور.

وهناك من كتب بأن استقالة اسكويت خطط لها بشكل مدروس، عندما حاول أحد أعضاء البرلمان الإنكليزي أن يفضح أمر "النادي الزجاجي" الذي أقيم في أحد القصور القديمة، وهو قصر قديم كبير جدًا تحول إلى ناد خاص لتوفير كل وسائل الترفيه والتسلية وتسهيلات المتعة لضباط الجيش البريطاني. وحدث في شهر تشرين الثاني من عام 1916 أن وصلت رسالة إلى احدى الشخصيات الهامة في حكومة اسكويت تطلب من صاحبها القدوم إلى النادي لتلقي معلومات غاية في الأهمية، فقاد سيارته الخاصة وطلب من سائقه الانتظار، ثم دلف إلى داخل "النادي الزجاجي" القصر حيث اصطحبه المسؤولون في النادي إلى غرفة فخمة ثم تركوه منفردًا، ولم يلبث أن دلفت إلى الغرفة امرأة شابة ما أن شاهدته، أي شاهدت الشخصية السياسية الهامة، حتى كاد أن يغمى عليها فقد كانت زوجته وهي تصغره بسنوات عديدة، وتقوم بعملها مضيفة للضباط في اجازاتهم منذ وقت ليس بالقصير. ولقد كان الموقف حرجًا بالفعل، فالزوجة لا تعلم شيئًا عن المخطط الذي جمعهما، وليس لديها أي معلومات سرية لتفشيها فقد كانت مقتنعة أن البحث عن اللذة هو الذي جمعهما. وأن المصادفة السيئة هي التي جمعتهما وجهًا لوجه. ثم تم المشهد، فأخبر الزوج، الشخصية السياسية المهمة في حكومة اسكويت، عن دور المضيفة التي تقوم به زوجته في النادي "الزجاجي"، ولكن شفته لم تتحرك وكأنها ميتة. فهو عضو في حكومة اسكويت ولا يمكن أن يتحمل الفضيحة. ولقد استخدم نظام الجاسوسية في هذا النادي "الزجاجي"، فكل عضو رجلا كان أو امرأة كان جاسوسا على الآخرين ينقل أخبارهم إلى رؤسائه فتتكون من الاخباريات معلومات كانت تطبع وتسجل في ما يسمى "الكتاب الأسود" فيذكر في هذا الكتاب عيوب الأفراد ونواقصهم ورذائلهم الخاصة، ونقاط ضعفهم، كما تذكر أوضاعهم المالية وأحوالهم العائلية ومدى تعلقهم بأقربائهم وأصدقائهم، كما تدون صلاتهم بكل من رجال السياسة المرموقين، ورجال الصناعة، ورجال الدين وتأثيراتهم عليهم.

وقد اشتكى ثلاثة من الضباط الانجليز بأن هذا النادي "الزجاجي" يحاول ابتزاز المعلومات منهم بعد أن دخلوا في عضوية النادي. وقد أشرك أيضًا في هذه المغامرة سيدة استرالية وسائقها والعديد من زوجات الرسميين في حكومة اسكويت وبناتهم. ولكن المحاولة لكشف حقيقة النادي آلت إلى الكتمان في حين أن ذكر "الكتاب الأسود" كان قد تم وصوله إلى البرلمان وإلى الصحافة. فكانت سياسة حكومة اسكويت تميل إلى الاعتقاد بأن فضيحة بهذا الحجم قد تسبب كارثة وطنية في وقت تواجه بريطانيا ضربات بحرية وبرية وجوية قاسية. عندئذ بدأت الصحافة البريطانية وخاصة تلك التي تهيمن عليها الحركة الصهيونية تهاجم رئيس الوزراء فاتهمته باستخدام غير الأكفاء في المناصب الحكومية، كما اتهم بأن له ارتباطات واسعة مع صناعيين وممولين ألمان، في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وبأنه يميل إلى القيصر واتهم أيضًا بأنه غير قادر على اتخاذ التدابير الحازمة والقرارات المستعجلة واستعملت عبارة "انتظر وسترى اسكويت". وهذه الفضائح التي تتعلق بارتباط بعض الرسميين ذوي المناصب العليا في حكومة اسكويت بالنادي "الزجاجي" أدت إلى استقالة حكومة اسكويت. ولما استقال تلته وزارة ائتلافية من مؤيدي الحركة الصهيونية يرأسها دافيد لويد جورج، أما وينستون تشرشل وبلفور فكانا من أبرز أعضائها.

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كان اسكويت رئيسا للوزراء بحكومة بريطانيا، وكان معاديًا للصهيونية. فقررت الحركة والصهيونية والممولون الدوليون إزاحة حكومة اسكويت واحلال حكومة ائتلافية مكانها على أن يكون للويد جورج ووينستون تشرشل مؤيدي وداعمي الحركة الصهيونية عمل كبير فيها. وكان دافيد لويد جورج محاميًا عن الحركة الصهيونية التي خططت لها ومولتها عائلة روتشيلد أما وينستون تشرشل فكان مؤازرًا للصهيونية السياسية منذ دخوله إلى المعترك السياسي.

وهنا لا بدّ أن نذكر بأنه في الخامس من نيسان عام 1917 أعلنت الحكومة البريطانية عن إرسال آرثر جيمس بلفور وزير خارجيتها إلى الولايات المتحدة للاتصال بممثلي المصارف الأمريكية وإبلاغهم رسميًا بأن الحكومة البريطانية ستتبنى رسميًا مشاريعهم المتعلقة بالصهيونية مقابل تعهدهم بإدخال الولايات المتحدة إلى جانب الحلفاء. وهكذا دخلت الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا، وهبطت الكتائب الأمريكية الأولى في فرنسا في السابع من حزيران عام 1917. وفي 18 تموز كتب اللورد روتشيلد إلى السيد بلفور ما يأتي:

عزيزي السيد بلفور، أخيرًا أصبح في إمكاني أن أرسل لك الصيغة التي طلبتها. فاذا تلقيت ردًا إيجابيًا من حكومة صاحب الجلالة ومنكم شخصيًا سأقوم بإبلاغ ذلك إلى "الاتحاد الصهيوني" في اجتماع خاص سوف يُدعى إليه لهذا الغرض خصيصًا.

وجاء في نسخة النص الأولية ما يأتي:

تقبل حكومة صاحب الجلالة بمبدأ وجوب إعادة تأسيس فلسطين وطنًا قوميًا لليهود. (نلاحظ بأن الوثيقة اتخذت اسم فلسطين وليس إسرائيل).
سوف تبذل حكومة صاحب الجلالة كل طاقتها لتأمين الوصول إلى هذا الهدف وسوف نتناقش في ما يتعلق بالطرق والوسائل التي يتطلبها تحقيق هذا الهدف مع المنظمة الصهيونية.
وهكذا خضعت الحكومة البريطانية ممثلة بالمستر بلفور من دون قيد أو شرط للشروط التي وضعها اللورد روتشيلد وزملاؤه وزعماء المنظمة الصهيونية.

ويتبين لنا ارتباط هذه الحكومة، أي حكومة دافيد لويد جورج وينستون تشرشل وآرثر جيمس بلفور بالحركة الصهيونية بقبولها لطلباتها الأخرى، أي طلبات الحركة الصهيونية، وخاصة طلب تعيين اللورد ريدبنغ رئيسًا للبعثة الاقتصادية البريطانية في الولايات المتحدة، في حين أن اللورد ريدينغ هذا ليس سوى السير روفوس إسحاق الذي اقترن اسمه بفضيحة فاركوني الشهيرة.

وقد تبنى اقناع الحكومة البريطانية بتعيينه لهذا المنصب الحساس، اللورد روتشيلد ذاته وزملاؤه من الزعماء الصهيونيين، السير هربرت صاموئيل (الذي أصبح فيما بعد أوّل مندوب سامي لبريطانيا في فلسطين)، والسير الفرد موند (الذي أيضًا لقب لورد فيما بعد).

وقد أجرى اللورد ريدينغ محادثات مالية هامة مع الحكومة الأمريكية. وكان من نتائجها إعادة تنظيم بنك إنجلترا على أسس جديدة بعد عام 1919 ونشوء بعض الارتباطات المالية الخفية. وفي رسالة أرسلها يعقوب شيف ممثل مؤسسة كوهن – لوب في نيويورك إلى أحد الزعماء الصهيونيين المدعو فريدمان في شهر أيلول عام 1917: "انني أعتقد الآن جازما انه أصبح أمرًا ممكن التحقيق مساعدة بريطانيا وأمريكا وفرنسا لنا في كل الظروف للبدء بهجرة مستمرة واسعة النطاق لشعبنا إلى فلسطين ليستقر فيها وسيكون من الممكن فيما بعد الحصول على ضمانة من الدول الكبرى لاستقلال شعبنا، وذلك حينما يبلغ عددنا في فلسطين مقدارًا كافيًا لتبرير مثل هذا الطلب".

وهناك رسالة أخرى تحمل ما هو أخطر من ذلك، فالحركة الصهيونية كما تقول الرسالة ما هي الا مشجب مريح لتعليق سلاح قوي جدًا. ففي 26 أيلول عام 1917 كتب لويس مارشال، الممثل لمؤسسة كوهن- لوب إلى صديق له يدعى ماكس سينيور، وهو أيضًا صهيوني معروف، وجاء في الرسالة: " لقد أخبرني الماجور ليونيل دي روتشيلد من التنظيم اليهودي البريطاني ان مؤسسته على اتفاق مع المجلس اليهودي الأمريكي... وأن وعد بلفور وقبول الدول الكبرى به لهو عمل دبلوماسي من أعلى الدرجات، والصهيونية ما هي إلا عمل مؤقت من خطة بعيدة المدى، وما هي إلا مشجب مريح يعلق عليه السلاح الأقوى. وسنبرهن للقوى المعادية أن احتجاجاتها ستذهب هباء وسنعرض أصحابها لضغوط كريهة وصعبة".

وهذا ما تفعله طبقة رأس المال العالمي وخاصة الولايات المتحدة الآن ضد إيران ومحور المقاومة، ولكن فشل المؤامرة على سوريا وصمود اليمن، وصمود ايران دليل واضح بأن هذا النضال والصمود والتحدي لم يذهب هباء، ومن يتعرض للضغوط الكريهة هو الثالوث الدنس – أمريكا وإسرائيل ودول الاستبداد الرجعي العربي، وخاصة في الفترة الأخيرة وقلق إسرائيل في الفترة الأخيرة أكبر دليل على ذلك، وقد يكون هذا بداية لكون مؤقت من خطة بعيدة المدى فاشلة.

والخطة بعيدة المدى المذكورة أعلاه ما هي إلا سيطرة وهيمنة طبقة رأس المال والممولين الدوليين على اقتصاديات العالم وشعوب العالم، وعلى جميع مصادر الطبيعة والقوى البشرية في الكون بأسره.

وهنا نريد ان نكرر بعض التفاصيل الأخرى التي تستكمل مجموعة الحقائق السابقة وتلقي مزيدًا من الضوء على الجوانب المجهولة من نفوذ السلطة الصهيونية الخفية وآل روتشيلد والممولين الدوليين، طبقة رأس المال على بريطانيا: ففي يوم 28 كانون الثاني عام 1915 دوّن رئيس الوزراء الإنجليزي المستر اسكويت الفقرات الآتية في سجله اليومي: " تلقيت للتو من هربرت صاموئيل، مذكرة بعنوان (مستقبل فلسطين) وهو يظن أننا نستطيع إسكان ثلاثة أو أربعة ملايين من اليهود الأوروبيين في ذلك البلد. وقد بدت لي فكرته هذه كنسخة جديدة من أقاصيص الحروب الصليبية، واعترف بنفوري من هذه المقترحات التي تضم مسؤوليات إضافية إلى مسؤولياتنا...الخ".

وتقدم لنا هذه العبارات البرهان الكافي على ان المستر اسكويت لم يكن ميالا للصهيونية. ولذلك كانت مؤامرة الإطاحة به، حيث استعملت المؤامرة سلاح التشهير والفساد من قبل آل روتشيلد والممولين الدوليين وطبقة رأس المال، ونقل السلطة في بريطانيا إلى الثلاثي الصهيوني لويد جورج وتشرشل وبلفور.

وهكذا أصبح التأثير الصهيوني اليهودي في السياسة البريطانية أكثر وضوحًا وعمقًا وتأثيرًا وحاسمًا. وهذا التأثير الحاسم مستمر الآن في الولايات المتحدة وبريطانيا.

(يتبع)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن