موازين الإدراك

راندا شوقى الحمامصى
randa9992001@gmail.com

2021 / 10 / 28

17 أبريل نيسان 1912
الخطبة المباركة بفندق أنسونيا،
تقاطع طريق برودواي والشارع الثالث والسبعين، نيويورك

نفلا عمّا دوّنه هوارد ماك نت

هو الله
إبّان زيارتي للندن وباريس في العام الماضي كانت لي محادثات شتى مع فلاسفة أوروبا الماديين. وكل استنتاجاتهم مبنية على أن تحصيل العلوم المتعلقة بالكائنات والظواهر الطبيعية يتأتى عن طريق قاعدة ثابتة لا تتغير – وهي قاعدة ذات مدلول رياضيّ قطعيّ من حيث أنها تعمل من خلال الحواس. فهذه العين مثلا ترى مقعدا فلا شك إذن في وجود هذا المقعد. والعين أيضا تجول في السماء فتبصر الشمس؛ وعلى هذا المنوال يقول قائلهم: أرى زهورا على هذه المنضدة وأشم أريجها، أو أسمع أصواتا تأتي من الخارج، وهكذا. ويقولون إن هذه قاعدة رياضية ثابتة للإدراك والاستنباط، لا يعتريها أيّ شك كان، نظراً لأن الكون خاضع لإحساساتنا فالدليل بديهي إذا على أن إدراكنا له يجب أن يكون عبر الحواس. وفحوى هذا هو أن الماديون ينادون بأن معيار الإدراك الإنسانيّ وميزانه هو الفهم الحسيّ. أما معيار الإدراك لدى اليونان والرومان فكان العقل – أي أن كل ما يمكن برهنته وقبوله بواسطة العقل هو الحقيقة بالضرورة. وهناك معيار أو ميزان ثالث للإدراك، وهو ما يراه علماء اللاهوت وهو أن النصوص المنقولة من الكتب المقدسة أو التصريحات والتفسيرات النبوية تشكل أساس المعرفة عند البشر. وهناك أيضا ميزان رابع يتمسك به المتديّنون والمهتمون بالغيبيات، فهم يرون أن منبع ومسار كل إدراك بشريّ للغيب هو الإلهام. والخلاصة إذن أن هذه الموازين الأربعة طبقا لما ينادي به الناس هي أولا الميزان الحسيّ، والثاني الميزان العقليّ، والثالث الميزان النقليّ والرابع ميزان الإلهام.
وقلت لهؤلاء الفلاسفة و العلماء الماديين في أوروبا أن ميزان الإدراك الحسيّ لا يعوّل عليه. فإليك مثلا المرآة وما ينعكس فيها من صور، فهذه الصور ليس لها وجود ماديّ فعليّ. بيد أنك إن لم تكن قد رأيت مرآة من قبل فإنك ستجزم حتما بأن تلك الصور حقيقة واقعة. وكذلك ترى العين سرابا في الصحراء على هيئة بحيرة ماء ولكنه وهم صرف. كما أننا لو وقفنا على سطح قارب يبدو لنا الشاطئ متحركا في حين أننا على علم بأن الأرض ثابتة ولكننا نحن الذين نتحرك. أيضا كان الإعتقاد السائد هو ثبات الأرض ودوران الشمس حولها، ولكن على الرغم من أن ما يترائى لنا هو ذلك، فإن الحقيقة المعروفة الآن هو العكس تماما. والشعلة الجوالة تراها العين دائرة من النار بينما نعلم أنها ليست سوى نقطة ضوء واحدة، كما أننا نرى الظل يتحرّك على الثرى والحال أنه يخلو من أيّ وجود ماديّ أو عنصريّ. والعوامل الجوية في الصحاري على وجه الخصوص تُحدث صورا خادعة للبصر. ولقد رأيت ذات مرة سرابا بدت فيه قافلة بأكملها وكأنها تسافر صاعدة نحو السماء. وفي الدائرة القطبية الشمالية تتجلى ظواهر خادعة أخرى تحيّر بصر الإنسان. فتلمع في بعض الأحيان ثلاثة أو أربعة شموس في آن واحد يسميها العلماء شموسا زائفة، بيد أننا نعلم أن النجم الشمسيّ العظيم هو نجم واحد مفرد دائما أبدا. وخلاصة القول أنّ الحواس دائما ما تنخدع، ولا يتسنى لنا تبين ما هو حقيقيّ مما هو زائف.
أما عن الميزان الثاني – ميزان العقل – فهو أيضا ميزان لا يعوّل عليه ولا يمكن الإرتكان إليه. فعالم البشر هذا خضم من الآراء المختلفة المتباينة. فإذا كان العقل ميزانا ومعيارا كاملا للمعرفة فلماذا تتضارب الآراء ولماذا يختلف الفلاسفة فيما بينهم اختلافا تاما؟ وإن هذا لبرهان واضح على أن العقل البشريّ لا يعوّل عليه بوصفه ميزانا منزها عن الخطأ. فأعظم اكتشافات القرون الماضية وإجتهاداتها على سبيل المثال لا تلبث أن تنقض وترفض من قِـبَـل حكماء الحاضر. فهاهم الرياضيون والفلكيون وعلماء الكيمياء لايكفون عن دحض استنباطات القدماء ورفضها – أي أنه لاشئ قطعيّ أو بات، فكل شئ دائب التغيير لأن العقل البشريّ يطرق مسالكا جديدة من البحث ويتوصل إلى الجديد من الإستنباطات كل يوم. وبالمثل فإن ما ينادي به العقل اليوم ويقبل بوصفه حقيقيّ سوف ينبذ ويبطل مستقبلا. وسيبقى الحال على هذا المنوال دائما أبدا.
وعندما نبحث في الميزان الثالث – ميزان النقل الذي يتمسك به اللاهوتيون منهجا ومعيارا للمعرفة، نجد أن هذا المصدر هو الآخر لايعتمد أو يعول عليه : ذلك لأن المنقول هو محصّلة وتدوين لفهم كتب القبل وتفسيرها. فبأيّ وسيلة ترى قد تم التوصل إلى ذلك الفهم أو ذاك التفسير؟ والجواب أنه قد تم بإعمال العقل البشريّ، إذ عندما نقرأ كتاب الله فإن ملكة الفهم التي نتوصل بفضلها إلى الإستنتاجات هي العقل. والعقل هو الفكر، فإذا لم نملك عقلا كاملا كيف يتسنى لنا فهم ما تعنيه الكلمة الإلهية؟ فالعقل البشريّ بطبيعته محدود و غير قاطع في استنتاجاته كما أوضحنا. فهو لا يحيط بالحقيقة الكلية وبالكلمة الجامعة. وبما أن أصل المنقول و تفسيره هو العقل البشريّ، وبما أن العقل البشريّ غير كامل، فكيف نرتكن إلى إستنتاجاته من أجل الوصول إلى كبد الحقيقة؟
والميزان الرابع الذي ذكرته لكم اليوم هو الإلهام الذي يقال أن الوصول إلى حقيقة المعرفة ممكن من خلاله. ولكن ترى ما هو الإلهام؟ فالإلهام هو ما يخطر على قلوب البشر. فإذا ما تساءلنا أيضا عن ماهية الخواطر الشيطانية التي تصيب البشر لوجدناها أيضا من خاطرات القلب. فكيف يمكننا إذن أن نفرق بين هذه وتلك؟ أي أن السؤال هو كيف نتبين ما إذا كنا نتبع إلهاما إلهيا أو خاطرا شيطانيا. وبالاختصار، فالمسألة هنا هي أن تلك الموازين الأربعة هي الموازين أو طرق المعرفة المتاحة ولاشئ سواها في عالم الكائنات والظواهر الطبيعية، وجميعها معيبة لا يعوّل عليها. فما الذي يبقى لنا إذن؟ وكيف نصل إلى حقيقة المعرفة؟ والجواب أن هذا ممكن بنفثات وإلهامات الروح القدس التي هي النور والمعرفة بعينها، وبواسطتها يستيقظ العقل البشريّ ويقوى على استنباط الحقيقة والوصول إلى المعرفة الكاملة. وهذا برهان قاطع على أن كافة الموازين المتاحة للبشر خاطئة معيبة في حين أن ميزان المعرفة الإلهيّ منزّه عن الخطأ. فلا يصح للمرء أن يقول"أنا أعلم لإنني أدرك بحواسّي" أو"أنا أعلم لأنني برهنت على صحته بقوّة عقلي" أو أن يقول"أنا أعلم لأنه مطابق للمنقول وموافق لتفسير الكتاب الإلهيّ" أو"أنا أعلم لأنني أُلهمت به". ذلك لأن كل موازين الفهم البشريّ خاطئة ومحدودة. (حضرة عبدالبهاء)



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن