خريف وربيع... الله والإنسان

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2021 / 10 / 15

قبل سنين قرأت كتابا قديما لا أتذكر حتى عنوانه في بيت أحد الأصدقاء في دمشق، كانت عبارة منقوشة على ظهر الكتاب من أربع كلمات هي (خريف وربيع... الله والإنسان)، شدتني بقوة وسألت مضيفي عن معناها فقال، هذا ملخص ما في الكتاب، وبدأنا حوارا سريعا حول هذا الملخص وحول ما مكتوب في الكتاب يؤكد صاحبي أن الإنسان عندما يضع الله في دائرة الربيع المثمر فلا بد أن تكون نتيجته أن يحيا الخريف، فالربيع مثلا وهو ما يربط الإنسان بالأرض بالسماء تحتم عليه أن يبذل جهدا أضافيا لضمان موسم أنتاج كبير، فهو إضافة للجهد يمثل مرحلة تحول من الموت والتقيد ومحاولة البشر لتجاوز قساوته الذي يمثله الشتاء، لينتقل إلى مرحلة الصيف التي تعني الحرية والحركة والنور وخفة المؤونة أضافة إلى أنه موسم منتج متنوع، هذه المعادلة لم أفهمها في حينها إلا بعد أن تكشف الواقع عنها.
فالإنسان الذي يجعل من الله فصلا متحولا لا يمكنه أن يكون إنسان ثابت وغير متحول يخضع لإرادة لا يمكن له التحكم بها سوى التحايل عليها ليعبر من مرحلة لمرحلة، الإنسان الذي يجعل من الله ربيعا لا بد أن يعمل كفلاح في الحقل ويعطي المجهود الأكبر لمتطلبات الربيع، فيبدا مثلا بتقليم الأشجار حرث التربة فتح السواقي والأنهر، وأن يتوقع موسم مطر في نهاية فصل بارد قد تشح فيه المياه نتيجة تجمدها فتبدأ بالربيع لتذوب، هذا الجهد المبذول لا يبذله عادة في فصول أخرى فهوى يخشى الفوت كما يخشى المفاجأة من أنه ستعصف به عاصفة أو يحاصره الفيضان أو ربما يمضي الربيع سريعا تاركا له الحسرة والندم أنه لم يتمتع به كما هو المطلوب.
المقصود هنا بالربيع أن الإنسان حين يضع الله في منزلة تتطلب منه أن يبذل الجهد للخدمة والتضحية والعمل الشاق، سينتهي به المطاف متعبا مرهقا غير قادر على وقف حركة التغيير القادمة لأنه وقف في موقف ضدي من حيث لا يدري فيتحول الربيع إلى صيف ويتحول هو إلى شتاء، فينتعش الله بموجب هذه المعادلة فيما ينكمش ويقترب من الموت إن لم يمت في الشتاء لينتظر فترة التحول القادمة ليعيش هو ربيعا تاركا الخريف القاسي لله، ولأكن أكثر وضوحا عندما تجعل من حياتك التي وهبك الله أن تعمل فيها لوجودك وتكشف بشريتك وتتعامل مع كون يحتاج منك لكل تدبير لتعيش بأفضل الطرق، وأنت تحول هذه النعمة إلى نقمة فتشتغل بأمور لم يطلبها الله منك، ولا تتوافق مع فرض إرادته إن كانت مدونة أو منقولة لك، فتتحول بها إلى إنسان منغلق على العبودية وتنسى عبادتك وحريتك الفطرية التي وهبها لك بالمجان، مما يقودك الحال إلى أن تبرر أي شيء غير عقلاني على أنه خدمة لله وتلبية لنداء العبودية له.
هذا التناقض بين ما يرى الإنسان نفسه وبين ما هو متوجب عقلي ومنطقي سبب من جملة أسباب جعلت الإنسان محشورا داخل إشكالية فهم الله، فالله قوي لا يحتاج لمساعدة بل هو مصدر كل قوة في الكون ومصدر قوة الكون بأجمعه، ثانيا الله لا تحد قدرته قدره ولا يحد إمكانيته مانع فلماذا تريد أنت أيها الإنسان لتبين لنفسك مقدرة الله، والله الذي خلقك من لا شيء ويرجعك كما كنت لا شيء لا يحفل بك إلا إذا كنت شيئا إيجابيا في الوجود لأن الله لا يصنع شيء غير مفيد ولا إيجابي، الله الذي ملك كل ما في الوجود ليس متوقفا على عطية منك أو رشوة تقدمها من مالك الخاص ليفرح، لكنه جعلك تشعر بالإنسان الاخر وتضع نفسك مكانه لتتبادل معرفة الحاجة، فتتفضل على أخيك بالمساعدة والمساندة ومد يد الخير، حتى عندما تجد نفسك أنت في لحظة حرج مماثلة ستجد من يمد لك اليد وبنفس الفعل، هذه الصورة الأخيرة حكمة وما تفترضه أنك تقرض الله المحتاج عبودية للفائدة، فلا ربحت رضا الله وخسرت مالك لأنك لا تفهم الله.
عندما يقول القرآن أن الإنسان كان أكثر شيء جدلا لم يخرج بالحقيقة عن واقع الربيع والخريف، فهو يفترض أن الله أخبره أوحى إليه كلمه علمه فهو حظي الله والمدلل عنده، ثم يبني إفتراضا أخر ليجادل بأفتراضه هذا على أن ما في أفتراضه الأول كان حقا لا يهتز، ثم يؤمن أن كل جداله هذا هو أنتصار لله لا بد من الدفاع عن بسيف لا ينثني سيف الله المسلول دوما لأعداء الله الذين لا يصل لهم أحد إلا حظي الله وهو المطلوب منه أن يفعله لتصدق كل فرضياته، لأن يريد أن يبقى الله يعيش في نعيم هو متخيله، لا يريد أن يخرج الله من الربيع ما دام هو قادرا أي الإنسان أن يتحمل عيش الخريف بأنتظار شتاء سيقتله حتما.
هنا يختار الإنسان موقف العبودية ويترك موقف العقل والسبب أنه كما قلت عليه أن يختار بين أن يكون الله دوما في الربيع وأن يكون هو في الموقف المقابل له، لذا نرى الإنسان حينما يريد أن يتوجه لله يشخص ببصره للسماء وهو يعلم تماما أن الله فوق المكان ومحيط بالوجود، لكن لماذا يذهب ببصره تلقائيا للسماء، لأنه مؤمن أنه في الأرض فلا بد أن يكون الله في السماء وأنه في التحت والله في الفوق، هذه التقابلية الصورية هي التي جعلته أن يتخذ موقفا أختياريا بين العبودية التي كما يظن ترضي الله، أو العصيان التي تجعل منه شيطانا رجيما مطرودا من رحمة الله، وكأن لا خيار ثالث ولا رابع أمامه حتى يجد نفسه وربه في معادلة منطقية حقيقية.
العبودية إذا هي من تقنعه أن الله راضي بموقعه بالربيع ومرتاح تماما بذلك وما على العبد إلا أن يستمر بخرف بلا أمد ولا تحول ويبقى الوجود قطبين لا ثالث لهما، ربيع وخريق شقاء الإنسان وسعادة الله، هذه المعادلة المنحرفة تبرر لهفة الإنسان لأن يكون كائنا مستعد لتقبل كافة أنواع العبودية ويتحمل وزرها، يقول أحد رجال الدين في تفسير ذكر العبد والعبودية في القرآن حسب ما يرى هو، أنها على درجتين عبودية خاصة لا تتحقق إلا بكامل الإيمان والتسليم وهي أعلى درجات اليقين ولا ينالها إلا ذو حظ عظيم، وعبودية عامة يفسرها بعبودية القهر بقوله (الخلق كلهم بهذا المعنى عبيد لله يجري فيهم حكمه، و ينفذ فيهم قضاؤه، لا يملك أحد لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا بإذن ربه ومالكه المتصرف فيه، هذه العبودية هي التي جاءت في قوله تعالى (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً)، وهذه العبودية لا تقتضي فضلاً ولا تشريفاُ، فمن أعرض عن العبودية الخاصة فهو مأسور مقهور فالخلق كلهم عبيد فمن لم يعبد الله باختياره فهو عبد له بالقهر والتذليل والغلبة) ، بهكذا أفكار يبررون حقيقة الله عندهم حينما يكون الله في الربيع لا بد أن يكون الإنسان عبدا ذليلا مقهورا رغم أنفه ومع ذلك فهو سعيد بجاله وكأن الله كائن نرجسي أستبدادي سلطوي تأخذه السادية إلى عالم العظمة حينما يرى الخلق بحاجة له وهم يقدمون كل فروض الذل والهوان ومظهر الصعف.
في مقابل هذا الفهم نجد العقل العلمي ينظر للمعادلة من زاوية أخرى وبالطبع ليست كافرة بالله ولكنها حقيقية كما يقول " بوهر وهايزنبرج" فهو يرى أن العلم قد استطاع أخيرًا أن يستوعب المشاكل المُتعلقة بالمفاهيم التي ينطوي عليها وصف الواقع، من هذا المفهوم نعرف الإله كما تصوره أينشتاين كان إلهًا مُتعاليًا ولا يُمكن حده في تعريفات معينة، إله غير شخصي ولا يمكن التواصل معه بطريقة شخصية، إله عسير على الوصف أو التشبيه ولكنه ليس بإله خبيث أو شرير، وهو أيضًا إله حازم وإرادته محددة بشكل قاطع، وكما كان يعتقد أينشتاين الإله المُتمثل في التناغم الطبيعي للموجودات تجلى في شتى أنحاء الكون من خلال الالتزام الصارم بقوانين الفيزياء المُرتبطة بقانون السببية، لذا أنا مع مقولة (علينا الأخذ في الاعتبار دائمًا أن ما نقوم برصده ليس هو حقيقة الله في ذاتها، ولكن هي الحقيقة الظاهرة لنا بناءً على طريقتنا في التساؤل عن حقيقة الله).
كل ما دار عن حديث الله والربيع هو حقيقة نتاج طريقتنا في التفكير بالله، ليس بكونه حقيقة مطلقة بقدر ما نرمز له ذهنيا عبر مخطط ظني، أي أننا لا نعرف الله كحقيقية موضوعية نتعامل معها كما تعامل أينشتاين، وإنما نتعامل مع منظومة رمزية صورها لنا العقل المنغلق على أفتراضاته المتوالية والذي يرمز لكل شيء روحي برمز مادي، ويجعل منه جنجلوتية تدور في أفق مظلم كلما توغلت فيها تجد نفسك غارقة في متاهة تنزل بك بإنحدارا رهيب نحو الهاوية، وتجد في كل زاوية هناك من يقول لك تقدم... "شارفت على الوصول"، وتقضي فرصتك الوحيدة للمعرفة دون أن تكتشف نهاية المتاهة، لتجد أخيرا حقيقة الفناء أمامك كما يشرحها رجل الدين أنفا.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن