من الدين إلى الألحاد

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2021 / 10 / 9

المنطق المعتاد أن الإنسان في تطوره المعرفي ينتقل من المجهول للمعلوم عبر وسائل ووسائط معرفية ممكن أو متاحة له، لكنه لا يمكن أن ينتقل من المعلوم للمجهول بنفس الطريقة لأنه أصلا لديه خزين معرفي معلوم، ولو تكاسل أو أهمل خزينه المعرفي فالواقع يقول أنه لا يمكن أن يكون جاهلا بأي صورة، قد يكون في مرحلة توقف أو إنقطاع ولكن لا يمكن أن ينكص للمجهول إلا إذا فقد بشكل كامل خزينه المعرفي أي بفقدان العقل الطبيعي عنده، من هذا المنطلق نطرح التساؤل حول حقيقة وأهمية التحول من الدين للإلحاد بمعناه الأصطلاحي وليس بمعناه اللغوي، وهو نكران الدين وأسسه ومنطقه ونسقه ليتحرر الملحد من معلومه المعرفي إلى الجهة المناقضة له؟.
للوهلة الأولى ومن خلال الحقيقة التي قدمناها أنفا يتضح أن عملية التحول هذه ليس ممكنة بالصورة التي يطرحها الملحدون، والسبب أن الملحد هنا لا ينكص عن معرفته وعلمه بالمعلوم ليذهب ويقول أنه لا يعرف أو لا يعلم أو لا يدرك وجود خالق أو دين أو إيمان بهما، ولكنه وحسب مكتسبه المعرفي ينتقل من معلوم أولي إلى معلوم أخر، فهو في مرحلة تطور قد لا يكون بالضرورة هذا التطور قد سار إلى هدف حقيقي، ولكنه بأي حال يمكن أن نصنفه بنوع من الخيارات المعرفية المعلومة التي تحتاج قبل إعلانها إلى الكثير من الفحص والتدقيق والتفسير والفهم حتى تكتسب صوابية التبرير والأعتناق، هؤلاء المتحولة في غالب الأحيان يتخذون موقفا إلحاديا أما رفضا للشكل الذي وصل لهم عن الله والدين بسبب النسق المزيف لهما، أو الخيار الثاني وهو الأقل نسبيا يأت من وعي لمشكلات عقلية لم يجد لها الملحد تفسيرا سوى الإنكار والتنكر.
إذا الإلحاد عند الفئة الأخيرة تحديدا هو موقف فكري وفلسفي أحيانا يحاول أن يرسم طريقا أخر للإيمان ولكن بنسق جديد، نسق يعتمد المقاربة العلمية المنطقية بأدوات جديدة لا تتناسب مع نسق الدين المعرفي، فبين العلم والمعرفة خصائص محددة تفرز العام عن الخاص وتمنح لكل منهم شخصية فكرية مميزة، فالمعرفة إطار عالم لكل المكتسبات العقلية التي تلعب دورا من خلال كل روافدها في العقل، ومن هذه الروافد ما لا يتلاءم أصلا مع العلم وإن كان هو جزء من المعرفة، تماما كما نجد الأمر ذاته بين المعرفة والدين فالأخير أيضا له خصائص نسقية قد لا تجدها في المعرفة عموما، ومنها الجانب الغيبي أو الروحي بالشكل الذي تلعبه في بقية المعارف، هذا لا يعني أن العلم والدين لا بد لهما أن يخرجا من دائرة المعارف الإنسانية ليستقلا بمفهوم خاص أو مغاير للمعرفة ذاتها.
فالملحد الثاني صانع فكرة ذاتية وليس متلقي من الوضع على أنه نسق سليم ولكنه مختلف يالأستعمال، وإنما هو يخرج بدأ من أوليات وأركان النسق المتداول لعلة عقلية أو لسبب جوهري أما متعلق بموضوع الدين أو ذاتي لأنه لا يرى في الموضوعية الدينية حقيقة وأنه أختار البديل الذي يتناسب مع شروطه، فالإلحاد هنا ليس رفضا للدين ولا إنكارا لله أو له ولكن القواعد المؤسسة التي من المفترض أن تنتج الإيمان قد تغير مسارها نحو طريق مختلف، قد يوصله لإيمان بوصف ما ولكنه ليس الإيمان بالدين حتما، وبالتالي فهو لا ينساق للإيمان الكلاسيكي أو المتداول بقدر ما يكتشف أن الصورة الأولية للدين لا تتطابق مع مخرجات النسق الذي أختاره.
أيضا سنجد من يقول أن النسق ليس أختياريا للفرد بل هو تبع للنظام مجموعي تأريخي ومعرفي للدين ولا يجوز أن يكون لكل شخص نسقه الخاص، الجواب صحيح وخطأ أيضا لو أخترنا الدين كنسق تاريخي معرفي مجموعي لكان ولا بد أن تأتي نتائج الإيمان موحده أو بشكل متقارب، وهذا ما لم نجده واقعا، فالحقيقة أن لكل منا نسقه الخاص في فهم الدين لكنها جميعا لا تخرج عن قوانين النسق الرئيسية، وهذا ما يقودنا إلى القول أن المعرفة بالأصل إطار عام للمجتمع ولكنها أيضا إطار خاص لكل فرد حسبما يتعامل معها الفرد بذاتيته لا بذاتية المعرفة، ومن هنا قيل أن المعرفة عنوان فردي تراكمي صالح لأن يتحول من خلال الصورة المكثفة والمجمعة من عدة أشخاص لتكون معرفة جمعية تتحول مع الأستقرار والأستعمال المتكرر إلى معرفة أجتماعية.
من هذه النقطة يمكن لنا أن نفهم أن الإلحاد هو موقف معرفي فكري خاص لا يشكل بحد ذاته جهالة ولا نكوص عن المعرفة الدينية، بقدر ما يسجل من موقف فكري رافض لجزئيات وأحيانا كامل النسق الديني الأجتماعي المتداول، وإن كان الموضوع ظاهريا لحقيقة أن الإيمان في طبيعته وخاصة الإيمان بالدين والروحانيات ليس له مظاهر خارجية تؤكد أو تنفي ما هو مستقر في ضمير وعقل الإنسان، ولكن نتعامل معه بناء على معطيات المواقف العملية والقضايا التي يثيرها خارجا، فليس كل ناقم على الدين أو منظومته العاملة وإن كان متمردا عليها أو خارجا منها فهو ملحد بالحقيقية، لكن هذا الموقف يسجل على أنه جزء من المزاج العقلي والفكري الذي عليه الشخص أو مجموعة أشخاص حتى لو تطرف الأمر أكثر من محاولة التمرد والخروج المبشر به علنا.
الملامح الأولى في عملية خرق نسق الدين جاءت مع بروز فكرة ان "الدين" هو من صنيعة البشر ابتكروها لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية او نفسية او اجتماعية على أنها جزء من محاولات الإنسان الأولية والبدائية في تفسير تلك الظواهر، فكان الغرض منه تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب ما يراه مؤسس الدين مناسبا لها، فهي إذا نظرة ونظرية بشرية مصطنعة تتوافق مع سيل الحاجات المتراكمة التي رافقتها تساؤلات عن الحل مهما كان، ولم تكن حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن عدم القدرة لديهم للوصول للأسباب الحقيقية والعلات المؤسسة لها، لذا قرروا منذ البدء بالالتزام بمجموعة من القيم المتوافرة والمستخدمة بدواعي الحاجة والضرورة دون محاولة خرق أو كسر لها، فمن المستحيل إذا ان تكون كل هذه الديانات من مصدر واحد يعمل وفق رؤية ثابتة ومتحفظ عليها من التبدل والتنوع، فالإله الشديد البطش الذي انزل مصائبه على المصريين القدماء وقتل كل مولود اول ليخرج اليهود من ارض مصر، هو ليس نفس الاله الذي ينصحك بان تعطي خدك الآخر ليتعرض للصفع دون ان تعمل شيئا".
كان هذا رأي آرثر شوبنهاور (1788 - 1860) وتزامنت فكرته هذه مع أفكار وابحاث تشارلز داروين الذي كان مناقضا تماما لنظرية نشوء الكون في الكتاب المقدس، ومن جهته اعلن فريدريك نيتشه من جانبه موت "الخالق الأعظم" وقال ان الدين فكرة عبثية وجريمة ضد الحياة اذ انه من غير المعقول ان يعطيك الخالق مجموعة من الغرائز والتطلعات وفي نفس الوقت يصدر تعاليم بحرمانك منها في الحياة ليعطيك اياها مرة اخرى بعد الموت، كما اعتبر كارل ماركس أن الدين أفيون الشعوب يجعل من الشعب كسولا وغير مؤمنا بقدراته في تغيير الواقع، وان الدين هذا قد تم استغلاله من قبل الطبقة البورجوازية لسحق طبقة البسطاء, اما سيغموند فرويد فقد قال ان "الدين" هو مجرد وهم أفتراضي حينما كانت البشرية بحاجة اليه في بداياتها، وان فكرة وجود الاله هو محاولة من اللاوعي لوصول الى الكمال في شخص يمثل نموذج أعلى يتمتع بأرقى صور الأعتقاد الطفولي، وجعل منه بديل لشخصية الأب السوبر اذ ان الأنسان في طفولته حسب اعتقاد فرويد ينظر الى والده كشخص متكامل وخارق، ولكن بعد فتره يدرك انه لا وجود للكمال فيحاول اللاوعي ايجاد حل لهذه الأزمة بخلق صورة وهمية لشيء اسمه الكمال.
هذه الأفكار والفلسفات لا تنكر حقيقة وجود الدين أو وجود خالق للكون بقدر ما تنكر أن يكون ذلك مطابق لنسق الدين كما عرفناه كقانون أو نظام كلي يصدر من جهة واحدة كما عند شوبنهاور، أو كمسئول عن تطور ونشوء الكون عند دارون، وكان أعتراض نيتشه ليس ضد الخالق الأعظم ولكن ضد ما جاء في النسق المطروح للإيمان، حتى كارل ماركس كان سبب أعتراضه مبنيا على سوء الأستعمال والأستخدام، أما فرويد فشكك بنتائج الإيمان حين تفشل في الفرز بين ما هو نسبي وما هو مطلق في تصورات الإنسان عن الدين.
من الظلم والسخف أيضا أن نطلق مفهوم الإلحاد على هؤلاء وأمثالهم من أصحاب النظريات ما لم نفهم رؤيتهم الخاصة التي أنتجت هذه الأفكار وترسخت بشكلها الحاد وليس الطبيعي في المجتمعات، المؤمنون الحقيقيون إن شاءوا أن يكونوا هم أيضاً لمبدئهم الإيماني الحقيقي الحي وليس لتصوراتهم الذهنية وأهوائهم المتوارثة، عليهم أن يأخذوا عن ماركس قضية إلحاده بالإله الطاغية، بالإله الذي يضمن الظلم ويناصره لأن القوة بيد من لا يؤمن به، عليهم أن يلحدوا بالإله الذي يدعو الناس إلى الجبن والهروب حفاظا على وجودهم، كما عليهم أن يؤمنوا بإلحاد نيتشه الذي عاب على إله المتدينين المصاب بإنفصام الشخصية، لكل واحد من هؤلاء سبب وجيه يصحح به مسار الإيمان الأستسلامي وليس إلحادا بالإيمان العقلي المنطقي الذي يحاكم الفكرة ويدينها علنا دون أن يخشى الغوغاء.
ونعود لرفض ماركس ومثله دعاة ما يسمى خطلا بالإلحاد لنرى علات الرفض وأسبابها، لقد جعل ماركس من لله وحسب النسق الذي أقترحه أو أختاره أن يحصر الإنسان في بعده الاقتصادي ويحرمه من ذلك البعد الروحي، ذلك البعد الذي هو أيضا مسئول أساسي عن كرامة الإنسان الفائقة ودعوته الفريدة للوصول للإيمان الحق، لذا ليس بإمكان الفكرة الماركسية أن تبلغ ملء الهدف الذي من أجله قامت وهو تحقيق جدي لإنسانية الإنسان، لا بل تذهب إلى أبعد من ذلك عندما فشلت الماركسية في ضمان أن تحافظ الفكرة على انطلاقتها الأولى والهامها الأصلي، وتتبرجز كأمر طبيعي مرتبط بالنزعة البشرية…. وهذا يبدو لأول وهلة أمراً محتوماً إذا اعتبرنا أن النزعة الفطرية لدى الإنسان تبقى تنادي إلى بذل أقل مجهود ممكن مقابل أكبر منفعة ممكنة كناموس شامل.
بالتجربة الشخصية يمكنني القول أن الإلحاد المتعلق بالنسق الديني لا يعني خروجا عن الميل الفطري والروحاني المضمر في الذات البشرية، فعندما كنت أظن نفسي شديدا وصحيحا في الإيمان أكتشفت في لحظة وعي أني كنت ملحدا كاملا بالأوصاف والحقيقية، وكان علي أن أعود لألحد بذلك "الإيمان" بشكل نقدي لأصل لدرجة الإيمان المطلوبة لتفعيل العقل وتوظيفه لمرحلة ما بعد الإيمان، هذه المرحلة تقتضي أن نضع الحقائق التي كنا نضنها حقائق على طاولة النقد والفحص والتقرير، وليس على طائلة القبول والتبرير والتسليم لنجر العقل إلى فحص دورنا في عالم مبني على النسبية، ولا يمكن أن نجد فيه مطلق لا معنوي ولا أفتراضي إلا كون الوجود محكوم بقانون ثابت لا يتغير ولا يتبدل وذلك من صنع الله وحده.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن