حامد عبدالصمد في قبضة سامح عسكر

سامح عسكر
ascooor@gmail.com

2021 / 10 / 7

طرح السيد حامد عبدالصمد مقالا في صفحته بالفيس بوك بتاريخ أمس 5 أكتوبر 2021 مضيفا له صورا من عرضه في مجلة ميريت الثقافية، واليوم طرح مقالا شارحا موضحا بتاريخ 6 أكتوبر..ولكني اخترت الرد على مقال الأمس لشموليته وتعرضه لمذهب حامد عبدالصمد الحقيقي تجاه العلمانية المسلمة أو الاستنارة الإسلامية بشكل عام، والسبب أن المقال الشارح تراجع فيه عن كثير من أفكاره بمقال الأمس وأقواله ضد هبة دربالة، مع إشارات تدل على ثباته في موقفه العدائي من العلماني المسلم الذي وصفه (بالمُرقّع أو الترقيع) وأضاف وصفا آخر له في إعلان حلقته باليوتيوب مع أرنست وليم ب (المرقعة) وهي إهانة بالطبع كان يجب الاعتذار عنها لكنه تعفف عن حذفها حتى من موقعه..

وقد أشار العديد من المعلقين لديه في المقال الشارح أنه رد على سامح عسكر، لكنه لم يصرح والمفهوم أنه رد وتوضيح..لكني فهمته هروبا وتلميعا لم يتضمن كشفا لمواقفه الحقيقية من العلماني المسلم..وهل سيتراجع عن مطالبه بضرورة إلحاد المستنير المسلم التي طرحها بوضوح في لقائه المصور مع هبة دربالة أم لا..

نأتي للمقال..

قال حامد : لماذا فشل التنوير في منطقة الشرق الأوسط؟

قلت:السؤال نفسه خاطئ فهو يتناول التنوير كمطلب سياسي وليس كمشروع فكري إنساني، فالتنوير بالشرق الأوسط بدأ منذ القرن 19 ومستمر إلى اليوم، لم يفشل أو ينجح..وليس عرضة لكليهما بالأساس..والذي حدث هو طفرات عقلية منذ بداية القرن 20 لمدة نصف قرن بأثر التنوير الأوروبي وترجمات المستشرقين، ثم غيبة رجعية منذ الستينات وإلى اليوم مع بزوغ طفرة عقلية جديدة بأثر القفزة التكنولوجية العلمية لوسائل التواصل الاجتماعي بالترافق مع ظهور داعش وتطبيقات الإسلام السياسي في سوريا والعراق وخطرهم الداهم على مصر وعدة دول أخرى..

قال حامد "التنوير في نشأته وتطوره هو تجربة أوروبية خالصة نقلتها بعض البلدان والثقافات ورفضتها أو تجاهلتها ثقافات أخرى، إما بسبب بُعد هذه الثقافات عن دائرة التأثير الأوروبية أو بسبب شدة قربها من وشدة عدائها التاريخي لأوروبا. "

قلت: هذا غير صحيح ..فالاستنارة العقلية كانت لها محطات داخل وخارج أوروبا مثلما حدث للفلاسفة المسلمين بالشرق الأوسط "الكندي والفارابي وابن سينا..وغيرهم" بينما التنوير الأوروبي المعاصر والذي نشط منذ القرن 17 وإلى اليوم استفاد من ترجمات علماء المسلمين بالجمع مع منتجات الفلسفة الإغريقية، علاوة أن هذه الفرضية تعزز منطق الإنسان الأبيض بسيادته وعقلانيته على سائر الأعراق..وهذا غير صحيح، فحامد عبدالصمد هنا تأثر بالنزعات القومية الأوروبية التي نسبت لنفسها السيادة والأستاذية طوال التاريخ بالاعتماد فقط على نمو الحركة العقلية والعلمية منذ عصر نيوتن..

وهنا لمحة.. فليقرأ حامد عن امبراطورية "سونغاي" Songhai Empire التي حكمت وسط وغرب أفريقيا أكثر من 140 عاما طوال القرنين 15، 16م، ولها حضورا علميا متعددا، وكذلك عن مملكة الأمير الأفريقي "منسا موسي" Mansa Mussa الذي عاش في زمان ابن تيمية وكتب عنه مؤرخي المسلمين كالمقريزي، ووصلت قوة مملكته لوصف أنها أغنى مملكة في التاريخ، وكذلك عن الفيلسوف الأثيوبي "زيرا يعقوب" Zera Yacob الذي كان معاصرا لديكارت وتوفى عام 1692 م، وله كتاب مفقود إسمه (التحقيق) لكن جمِعت بعض أفكاره في كتب حكماء أثيوبيا في الغرب بعدة ترجمات، وقيل عنه أنه أذكى من ديكارت نفسه وأدق منه وأعمق فلسفيا..

أفريقيا لم تتخلف وتضعف سوى على يد المستعمرين ، وترحيل شبابهم ورجالهم كعبيد في أوروبا والأمريكيتين والشرق الأوسط وتركيا، ويمكن اعتبار أنه بداية من القرن 18 لوحظت شواهد تخلف أفريقيا علميا واقتصاديا لهذه الأسباب المرتبطة بالغزو الأوروبي والرجل الأبيض، يكفي العلم أن مملكة سونغاي الأفريقية سقطت على يد مملكة السعديين المغاربة في معركة "تونديبي" سنة 1591 بسبب السلاح المتقدم وقتها للسعديين المسمى "بالقربينة" وهو أول أشكال البندقية والسلاح الناري الأوروبي، وأن الأفارقة لم يعرفوا تلك الأسلحة لصوفيتهم الدينية التي كانت تمنع احتلال شعوب الغير وطرد أهلها قسريا، ولا زالت هذه الطبيعة الدينية فيهم فهم أكثر شعوب العالم تسامحا وسلاما نفسيا وممارسة للتدين على شكل طقوسي لا سياسي..

وخلاصة خطأ حامد هنا أنه لم يفرق بين النشأة والتطور، فنشأة التنوير لم تكن جغرافية بل ظرفية إنسانية وفقا لعوامل البيئة والسياسة والاقتصاد وغيرها، لكن التطور التنويري حدث بأوروبا بالفعل..وعليه فالنشأة التنويرية متعددة لكن أوروبا استفادت ونجحت بتطوير كل ما سبق في صورة نهضة علمية عقلية..

قال حامد: "لم يكن التنوير وليد عصر الأنوار في العصر الثامن عشر فقط، بل له تاريخ طويل يبدأ بالأسطورة اليونانية التي كان بها من البراح والخيال ما سمح بمولد الفلسفة وتعظيم دور العقل، ثم جاء الإنسانيون الأوائل من الفلاسفة السفسطائيين، ثم جاءت الغنوصية التي حاولت مصالحة المسيحية مع الفلسفة.."

قلت: الغنوصية نفسها دين بدائي يفضل الروحانيات والسحر على العالم المادي الحسي، وللدكتور خزعل الماجدي نشاط كبير في ذلك ربط فيه بين الغنوصية والسحر والفكر الباطني، وهذا يعني أن معناها أقدم من المسيحية واليهودية أيضا، بل تمتع بها الدين المصري القديم كما تقدم في دراستنا بعنوان "أضواء على الدين المصري القديم" وشُرِحَ بالتفصيل في كتب "الجذور الشامانية لمتون الأهرام لجيرمي نيدلر" و "رحلة باطنية لمصر القديمة لآلان ريتشاردسون وبيلي ووكر – جون" ولكن حامد لم يفرق بين صياغة المصطلح ووجوده، فالمصطلح الغنوصي ضارب في التاريخ وسمة لمعظم الأديان القديمة خصوصا الشرقية منها، لكن صياغة المصطلح ترافق مع ظهور المسيحية ولاقى عداء طفيفا من الأفلاطونية المحدثة..

وكذلك حصر حامد الأسطورة في اليونان كمؤثر لصياغة عقائد الغنوصيين..وهذا غير صحيح، فالغنوصية تأثرت بأساطير وقصص اليهود أيضا بالخصوص حكايات الخلق في سفر التكوين، والراجح عندي أن عبدالصمد لا يمكنه رفض الكتاب المقدس أو انتقاده بأي شكل..فعَرض الغنوصية دون مناقشة تأثير عقائد اليهود الأوائل في صناعتها..ومناقشة الغنوصية بالذات ملف شائك في الثقافة المسيحية لارتباطها بالصراع مع الأديان الأخرى السابقة ومنها اليهودية بالطبع..

قال حامد: ثم مر التنوير بأزمة أثناء القرون الوسطى في أوروبا حين سيطر الفكر الديني على الحكام والعوام وتم شيطنة الفلسفة، ثم استرجع بعض قواه في عصر النهضة مع ظهور تيارات جديدة في الفن والأدب أعادت بناء الجسر بين أوروبا والثقافة الإغريقية القديمة وفلسفتها، وكان للعرب دور هام في إعادة بناء هذا الجسر

قلت: هنا يتناقض قوله الأخير بأن للعرب (دور هام) في النهضة الأوروبية بما قاله في المقدمة ونصه كالتالي " التنوير في نشأته وتطوره هو تجربة أوروبية خالصة" انتهى، فكيف يتسق ذلك مع اعترافه بدور هام للعرب في النهضة؟..مع التركيز على لفظ (هام) مما يعني أن مصطلح (جسر) الذي صاغه يتعارض مع مصطلح (تطور التنوير) ..ففي الأولى اعتبر الدور الإسلامي جزءا من تطور العلوم العقلية..بينما في الثاني نفى هذا الدور بالمطلق..!!

قال حامد: ثم ظهرت الحركة الإنسانية الجديدة وتلتها حركة الإصلاح الديني ونقد الكنيسة الكاثوليكية، ثم جاءت الثورة الفلسفية الجديدة التي لم تكتف بطرح أسئلة مجردة عن الخير والحق والجمال، ولا حتى بمسألة وجود الله، بل تطرقت إلى قضايا الدولة والعقد الاجتماعي بين المواطن والدولة وقضايا التعليم والقانون، الفن والأدب والفلسفة غيروا علاقة الشعوب بالنصوص الدينية وطريقة قراءتها وتأويلها. العلم غيّر نظرة الإنسان للكون، فلم تعد الأرض بعد كوبرنيكوس وجاليليو هي مركز الكون كما كان يظن الناس قديماً، ونظرية التطور لداروين غيرت نظرة الإنسان لنفسه ولقصة الخلق ولعلاقته بالكائنات الأخرى. ونظريات فرويد في علم النفس غيرت نظرة الإنسان لتصرفاته ومشاعره وعقله الباطن. الثورة الصناعية خلقت ديناميكية اقتصادية ومجتمعية جديدة وخلقت طبقات أخرى غير طبقة الارستقراطيين والفلاحين، والثورة الجنسية غيرت العلاقة بين الجنسين وحررتهما من أدوارهما التقليدية.

قلت: هذا لا شئ فيه

قال حامد: ديكارت وسبينوزا هم أبناء أرسطو، وتوماس هوبز وجون لوك وروسو هم أبناء أفلاطون. وفولتير وجون ستيوارت ميل ونيتشه هم أبناء أسطورة بروميتثيوس الذي سرق النار من الآلهة ليعطيها للبشر. مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي هم أبناء الفن الهيلينيستي، وآينشتاين هو ابن نيوتين، ونيوتين هو ابن أرخميدس وأبيقور. وأفلام هوليود ومسلسلات نيتفلييكس هم أبناء شيكسبير وجوته، وشيكسبير وجوته هم ابناء سينيكا وهوميروس. كل هؤلاء أبناء منظومة تنويرية لها عدة روافد مثل مجموعة جداول تلتقي في مكان وزمن ما فتصير نهراً كبيراً يجرف معه كل شيء في طريقه. كان الجديد من هؤلاء يستفيد من القديم ثم ينتقده كي يطوره ثم يتخطاه إلى فضاءات وتجارب جديدة. هكذا يتطور الفن والعلم والفلسفة، وهكذا تتطور المجتمعات.

قلت: هذا أيضا لا شئ فيه..محل اتفاق

قال حامد: إذاً فالتنوير ليس مجرد ثمرة يمكن لأي أحد أن يقطفها ويأكلها، ولكنه شجرة كبيرة لها جذور ضاربة في أعماق الأرض وغصون لا تتوقف عن النمو ولا تتوقف عن طرح ثمار جديدة. هو تراكم معرفي ومجتمعي عبر قرون طويلة. هو أسلوب حياة ونظرة متكاملة للإنسان والمجتمع والدولة قائمة على العقل ونظرية المعرفة. التنوير ينظر إلى حرية الفرد وتطوره وأمنه وتعايشه السلمي مع الآخرين كأول أولويات التعليم والتشريع.

قلت: سيضرب هذا الكلام بالنص التالي

قال حامد: أما الدين فليس قضية من قضايا التنوير إذا ظل مجرد رافد روحاني وأخلاقي للمجتمع. وقد حاول فلاسفة التنوير الأوائل تجاهل الدين أو تجنبه، ولكن بدأت مشكلتهم مع الدين حين رفضت المؤسسات الدينية العلم لأسباب دينية وحين أعلت من شأن النص المقدس وتشريعاته على حساب الإنسان وحريته ومصالحه.

قلت: هنا يناقش العلمانية ويعتبرها شأنا تنويريا لا علاقة له بالأديان، وهذا غير صحيح بالمطلق، فالعلمانية تعني فقط أن لا يكون للدين شأنا بإدارة الدولة والحكومة، ولا شأن لها على الإطلاق بمسائل اللاهوت وقضايا الإيمان الميتافيزيقي، بينما الإلحاد يرفض الآلهة (فقط) ولا شأن له بالطريقة التي تدير بها الحكومة دولتها، مما يعني أن الإيمان في جوهره إذا لم يتعارض مع فصل الدين عن الدولة فهو صحيح لغيره وحامله، ولا يجب نزع أو مصادرة ذلك الحق من صاحبه، وتفسير حامد هنا سينزع فورا إيمان المسلمين إذا أرادوا الاستنارة أو تطبيق مبادئ العلمانية، وهو اتجاه إقصائي دكتاتوري متجذر في أنفس كثير من الملحدين من جماعة حامد هذه الأيام...وهذا بالضبط ما يزعمه السلفيون والمتشددون الذين يؤكدون أن العلمانية تعني الإلحاد والمروق من الأديان..

قال حامد: الصراع بين التنوير والدين كان ولا يزال صراع بين الحرية والغصب، وبين الأسطورة والعقل.

قلت: هذا الكلام مبني على مقدمة مُضمِرة وهي أن الدين يعني الاستبداد والأذى، وهو أسطورة قولا واحدا وحكايا ملفقة يجب أن تختفي من الوجود ليسود العقل الإنساني دون أديان، ويمكن للقارئ الكريم أن يتأمل قول حامد منذ قليل " فالتنوير ليس مجرد ثمرة يمكن لأي أحد أن يقطفها ويأكلها" انتهى...فهذه الجملة منه تنسف تلك الفقرة نسفا، فالجملة لا تحصر التنوير في جهة..لكن الفقرة نزعت التنوير قولا واحدا من الأديان والمؤمنين بها بشكل حاسم، مما يعني أن الرجل يعارض نفسه ليظهر متسامحا فقط وليس إقصائيا، وهذا لُب جهوده الآن لتلميع نفسه بعدما قمنا بشن الحملة عليه قبل أيام، فهو كثير الكتابة – على غير عادته – في مسائل الحريات وآخرها مقال منذ قليل على صفحته بالفيس بوك قال فيه كلاما جيدا عن التنوير والحريات..ينسف هذه المعتقدات الإقصائية عنده بالكامل، مما يثبت أن لجهودنا ثمرة في الضغط عليه ودفعه للتراجع..

التنوير هو اتجاه نقدي بالأساس..لو لم تنقد أوضاعك السلبية كلها فلست مستنيرا بل مغلقا مثلك كمن تنتقدهم أحيانا، واتجاهات النقد كثيرة منها نفسية وعقلية وعلمية ونصية واجتماعية ووجودية..بحر واسع من مذاهب النقد كلنا يمارسها دون علم، وحين نختلف لا نعلم كيف اختلفنا، وأقرب نماذج الاختلاف في مذاهب النقد الأدبي واللغوي أنك ستجد طريقة لويس عوض مختلفة عن سلامة موسى مختلفة عن العقاد، كذلك نقد الموروث طريقة بحيري مختلفة عن عبده ماهر مختلفة عن ابراهيم عيسى، مختلفة عن عدنان ابراهيم والرفاعي..مختلفة مع شحرور، هذه المذاهب التي أقصدها، جميعهم يتدبرون النصوص والنتيجة أصبحت لهم مدارس مختلفة وأتباع يتعصبون أحيانا لرموزهم.

الجيد في تعدد المذاهب النقدية أنها تعالج آفات بعضها وتسد ثغراتها بنفسها، وبالتالي هي ضرورة من حيث كونها مُكمّلة، أنا شخصيا طريقتي أزعم أنها فريدة جدا لا يمتلكها أحد غيري ولن يحدث..مذهبي في النقد والعلم مختلف عن كل هؤلاء، إنما نشترك جميعا في هدف تنويري واحد وهو مقاومة التشدد الديني والإرهاب والتكفير والأصوليين وخلط الدين بالدولة..وبالتالي فالتنوير هو طريقة تفكير تؤدي لحياه أفضل وتصحيح الأخطاء..ليس مذهبا على الإطلاق يحصر نفسه ويضيق داخل الإيمان أو الإلحاد مثلما يريد الأخ عبدالصمد ورفاقه.

نعم..التنوير ليس مذهبا عقائديا بل طريقة تفكير إصلاحية، ومن يجعله مذهبا عقائديا فهو ضال مُضلّ، فلن يرضيه ما وصل إليه من علم..بل سيسعى لإقصاء كل مختلف معه..وهذا ما وقع فيه الرجل عن جهل وعن علم..فعن جهل عدم قدرته على التفريق بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة، فيقول على الدولة أنها لادينية حتى يُسقِط ذلك على الأفراد..وهذه سذاجة عرضتها في مقالي عنه منذ أيام معنونا له بالسذاجة الإلحادية، فمعنى عدم التفريق بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة ..والخلط بينهم يعني سذاجة فكرية وسطحية كمن يخلط الدين بالدولة، وزبدة القول أن لادينية الدولة لا تعني لادينية الفرد، فقد يكون الفرد مؤمنا بطريقته لكنه إذا تبنى مبادئ الاستنارة والتسامح الديني والإصلاح الفكري والنقد فهو (علماني حداثي) لكن المقدمة المُضمرة التي أشرنا إليها منذ قليل في نفس حامد منعته من الاعتراف بأهلية الإسلام للإصلاح والتنوير..فلو آمن بأهلية الإسلام للاستنارة سوف يكون مذهبه الإلحادي غير ذي جدوى..!

قال حامد "ولب مشكلتنا كسكان الشرق الأوسط مع التنوير هو علاقتنا بالزمن والتاريخ والأسطورة والمقدس والفن والأدب والعلم والفلسفة، وعلاقتنا بالفرد والمرأة والآخر، وعلاقتنا بالجسد وبالحرية. علاقتنا بالزمن مضطربة لأننا نرى لحظة البعثة المحمدية كتتميم للتاريخ، فكل ما قبلها جاهلية وظلام وكل ما بعدها غير ذي قيمة"

قلت: كلام مكرر يقوله العلمانيون المسلمون..

قال حامد "فخير القرون هو قرن الرسول ثم الذي يليه ثم الذي يليه. وكلما ابتعدنا عن زمن النبوة قلت قيمتنا، ولا كرامة ولا ازدهار إلى في إعادة استنساخ تجربة دولة المدينة المنورة واتباع تعاليم القرآن والرسول، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وهذه النظرة تجعل علاقتنا بالعلم مضطربة، فحين نبحث عن العزة في الدين فقط يفوتنا قطار العلم، وحين نضطر للتعامل معه نحاول إخضاعه للدين عن طريق أكذوبة الإعجاز العلمي. "

قلت: العلماني المسلم أيضا يقول ذلك فما الخلاف إذن وما وجه التمييز؟
كنت شخصيا من أوائل الثائرين على عقيدة خير القرون بدارسة علمية موثقة قبل 9 سنوات ضمّنتها في كتابي "رسائل في التجديد والتنوير" لاحقا، وغالب ظني أن هذه الفقرات هي مجرد (حشو) لتمرير عقيدة حامد وإقصائيته تجاه العلمانيين المسلمين ورفض الاستنارة العقلية للمسلمين بالمطلق..

قال حامد: الدين جعلنا نقسم التاريخ لجاهلية ونور ونقسم العالم لمؤمن وكافر، ونحن بهذا نقطع الطريق بيننا وبين الثقافات التي سبقتنا والتي جاءت بعدنا ونحرم أنفسنا من تجاربهم ومعارفهم. الأصولية الدينية جعلتنا نستنجد بالماضي لنحل مشاكل الحاضر فازدادت هذه المشاكل تعقيداً. جعتلنا نفصل النص المقدس عن سياقه التاريخي والسوسيولوجي وعن الفلسفة والأدب والتحليل اللغوي.

قلت: هذا أيضا حشو مكرر يقوله العلمانيون المسلمون، والفارق أن حامدا يرفض فكرة الدين من الجذور والإيمان بالمطلق ويجعلها حكما..بينما العلماني المسلم: ينظر في دينه ليستنتج قدرته على الاستنارة والنقد والفصل دون الإخلال بإيمانه..وهذا التنوع الفكري المطلوب يرفضه الإقصائيون بالعموم فيُلزمون الغير على مذاهبهم في النقد والمزايدة على مواقفهم والعمل على حصر القيم الإنسانية في جماعاتهم، مثلما يحصر السلفيون قيمة الإسلام – الإنسانية بنظرهم – في جماعاتهم..وهنا يفعل حامد نفس الشئ فيحصر التنوير في جماعته ودليله في ذلك أنه (ملحد حر يطير فوق الأديان ولا يلتزم بقيودها)

والرد على ذلك أن الحرية وفقا لإيمانويل كانط مثلا هي تتعارض مع مفهوم العقل والتفكير الذي هو عاجز عن الإحاطة بالميتافيزيقا، مما يعني أن حرية الفرد لا يمكنها مناقشة ما وراء الطبيعة إلا بتجلياتها الفيزيائية وظواهرها على الأرض..مما يعني أن المؤمنين بالآلهة إذا اتفقت أعمالهم (الظاهرية) مع مصالح المجموع فهو لا يتعارض مع الحرية، وبما أن حامد عبدالصمد يرى الإسلام دين شيطاني فأبنائه بالمجمل شياطين لا يمكنهم العلم والتنوير وبالتالي سيصادرون حرية الغير، وبالقياس يمكن محاكمة هذا الرأي على الدين المسيحي والتطبيق التنويري له نرى أن الآباء المؤسسين للعلمانية الأمريكية كانوا مسيحيين، وكثيرا من فلاسفة أوروبا في عصر الأنوار هم أيضا مسيحيون كفرانسيس بيكون الإنجليزي وجان جاك روسو الفرنسي..

وحامد لا ينتبه لإشكالية عقلية كبيرة وهي أن مطالبته بإلحاد العلمانيين يجعل من العلمانية غير ذي جدوى ولا معنى لها، فالتعلمن قائم على تمييز السلطة الدينية من المدنية، على تمييز العهد الإلهي من العقد الاجتماعي..فيكون إلحاد الجميع هنا نافيا للتمييز وبالتالي صار الكل واحدا..!!

أشير أن الفيلسوف الفارسي "أبو نصر الفارابي" كان يميز بين الإرادة والاختيار في معرض بحثه عن الحرية، فقال أن الإرادة هي استعداد قائم على الإحساس والخيال، بينما الاختيار يتميز بالعقل والتريث، ومعنى ذلك أن حرية الناس يسبقها الاستعداد النفسي لتصور الموجودات وما ينطبع في أذهانهم ، ثم يعقب ذلك فترة اختيار يقارن فيها ويختار الأصلح وفقا لتفكيره الشخصي، وهنا ستكون الحرية متعلقة بالصور الذهنية للموجودات بالأساس..فلو كان حامدا يرى المسلمين شياطين والعلمانيين المسلمين منافقين جهلة فكيف سيُعاملهم؟..هنا سيقع الرجل وأنصاره في خطيئة الإقصاء والتي تعني لديهم حرية فردية دون حرية المجموع، فما يقوله حامد في الحقيقة يؤدي لتعارض حرياتهم مع حريات المسلمين، وغالب ظني أن الرجل من فرط ما يعانيه من ألم نفسي شرحت بعض أبعاده في مقالي الماضي بعنوان "خطر بعض الملحدين على العلمانية" سوف يؤدي به للبطش بالمسلمين والتنكيل بزعمائهم إذا دانت له السلطة..

وقد تحدثت مع الدكتورة هبة دربالة التي ناظرته في اللقاء المشار إليه في مقالي "السذاجة الإلحادية ..حامد عبدالصمد نموذج" وقلت لها حرفيا أن الرجل لا يطلب فكرا..بل يطلب سلطة..

قال حامد "جعلنا الدين معياراً لكل شيء. حتى حين نتحدث عن التنوير نجعل الدين مقياساً له فنظن أن التنوير هو مجرد تطوير الخطاب الديني"

قلت: إذا كانت مشكلة المسلمين في دينهم فلماذا لا نقول بكفاية إصلاح وتطوير هذه المشكلة؟؟!!..على فرض أن العلمانيين المسلمين يقولون بذلك..فهي مغالطة رجل قش وقع فيها الرجل من فرط جهله بالثقافة الإسلامية واتجاهات الفكر للمسلمين الحداثيين، فتجديد الخطاب الديني أو تطويره هو نقاش داخل الصندوق الإسلامي لمخاطبة العقل الأصولي الجامد، وهو مطلوب وضروري جدا للإصلاح..لكنه ليس كافيا لأن مسائل التنوير والإصلاح أشمل إذ يمس ذلك قضايا تجديد الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفلسفي، والنظر بجدية في أحداث التاريخ ونقد الماضي المتمثل..وهذا يعني أن نقد الماضي غير المتمثل ليس شأنا تنويريا حيث يقفز على تطوره ونهايته واختفاءه من التاريخ..

قال حامد: جعلتنا ننظر للفرد والمرأة والجسد من منظور أخلاق القبيلة لا من منظور المجتمع المفتوح، وهكذا أهدرنا طاقات النساء والرجال في محاولة التوفيق بين متطلباتهم النفسية والجسدية وبين توقعات الدين والمجتمع (القبيلة) منهم. أما ما تبقى من هذه الطاقة فيضيع في النفاق لأنهم في الغالب لا يستطيعون خلق هذا التوازن بين احتياجاتهم وتوقعات المجتمع. جعلتنا الأصولية الدينية نقرأ التاريخ كأنه خط مستقيم فيه الغرب شرير على طول الخط ونحن طيبون ومظلومون على طول الخط، فلا نستفيد من منتوجه الفكري والعلمي ونهدر الطاقات في كراهية تسممنا ولا تضر من نظنهم أعداءنا.

قلت: هذا أيضا حشو..وكلام مكرر يقوله العلمانيون المسلمون

قال حامد "التجارب التنويرية عندنا تجارب فردية كجداول صغيرة لم تلتق أبداً لتكون تياراً قوياً، فجفَّ معظمها وسط صحراء الرجعية الدينية وصخور الاستبداد السياسي"

قلت: التيار التنويري قوي جدا لكن حامد بإقصائيته (يُضعفه) وأتساءل إذا استبعدنا العلماني المسلم من قضايا الاستنارة في ظل مطالبتك بالتيار التنويري القوي..فكيف ستحصل على تلك القوة من غير المسلمين؟؟؟!!

هذه التعارضات والتناقضات كثيرة جدا في كلام الرجل، فهو يكثر من الإنشاء والحشو لذا يتعارض مع متطلباته الأساسية باستبعاد المسلمين من قضايا التنوير، وقديما قلت نصيحة لنفسي وقرائي أنقلها لحضراتكم " التنوير (قضية تعاونية) لديك فرصة فيها للعمل مع من هم أقوى وأذكى منك، فلا تحصر التنوير في دين أو حزب أو مذهب أو شخص أو طريقة، لا تستبعد دور أي طريقة في التنوير مهما كنت تراها غبية، فمن تنتقدهم أحيانا من السلفية يخدمون التنوير أحيانا من حيث لا تعلم، بينما هناك علمانيين يضرون مبادئ الاستنارة، واعلم أن الحياة تستمر دائما بصراع المتناقضات.. وأن يكون معيارك للحقيقة يتصف بالسلام والتسامح والعدالة المطلقة دون تمييز على أساس الدين والجنس واللون...إلخ، أن تحب الإنسان لأنه إنسان وليس لأنه كذا وكذا، وأي فرد يخالف تلك المعايير لديك لا تثق فيه واشرع فورا في انتقاده بطريقة موضوعية علمية.." انتهى

يقول حامد: كيف تحررت المسيحية واليهودية في الغرب من التراث القبلي الإبراهيمي؟ الإجابة هي: الفلسفة. الفلسفة هي أم العلوم وأم نظرية المعرفة. الفلسفة هي التي روضت الأسطورة الدينية ووضعتها تحت مظلة العقل. ولعل تجربة الإصلاح اليهودي في أوروبا (الهاسكلا) هي أقرب لواقعنا اليوم من تجربة التنوير الأوروبية، وكان أحد رواد هذه الحركة هو فيلسوف ورجل دين في نفس الوقت وهو موسي مندلسون في القرن الثامن عشر. كان اليهود في عصره يعيشون في أحياء مغلقة معزولة عن المجتمع الألماني وكانوا يرتدون القفطان والملابس التقليدية فكانوا يبدون كجسد غريب داخل المجتمع الألماني وكانوا يصرون على تطبيق شريعتهم اليهودية في كل الظروف، لكن مندلسون ذكرهم بمبدأ تعطيل الشريعة القديم من زمن الأسر البابلي والذي ابتكره حاخامات اليهود للتعايش مع ثقافة غريبة عليهم ألا وهو مبدأ "دينا دي ملكوتا دينا"، أو القانون هو قانون الملك. ثم طالبهم بنزع ثيابهم الغريبة عن المجتمع الألماني وارتداء الملابس الحديثة، وراح يهتم بتدريس بالعلوم والفلسفة داخل معابد الطائفة اليهودية،

قلت: في الإسلام حدثت أشياء مشابهة قفز عليها حامد، فالشيخ شلتوت شيخ الأزهر السابق له كتاب بعنوان (الإسلام عقيدة وشريعة) قال فيه أن العقيدة تؤخَذ من القرآن فقط أما الشريعة فمن القرآن والحديث والرأي..أي الاجتهاد، وهو نفس ما قاله حامد عن موسى مندلسون الذي طالب بتعطيل الشريعة اليهودية..وهنا يطالب الشيخ شلتوت أيضا بتعطيل الشريعة الإسلامية عبر تشريحها ونقدها وعرضها للاجتهاد، علما بأن الشيخ شلتوت في هذا الكتاب أنكر حد الردة بنقله عن علماء كثيرين أن العقوبات لا تثبت بخبر الواحد وأن الكفر ليس مبيحا للدم..ذكر ذلك في معرض التنوع والقبول لا الإنكار..

ورأي الشيخ شلتوت في التفريق بين العقيدة والشريعة كان عملا تنويري منع فيه أي اعتقاد بالقصص والحواديت والأحكام الروائية سوى بتصريح مباشر من القرآن، ومنع أيضا تقبيح الرأي وقال بمصدريته للشريعة ، علما بأن الذي قام بذلك شيخا مسلما يوصف (برجل دين) وليس فيلسوفا مثلا كالفارابي وابن سينا وابن رشد...وللأخير رؤى علمانية متميزة ينشط في عرضها د مراد وهبة في شروحاته المتعددة لفكر ابن رشد..

علما بأن للفيلسوف الفارسي المسلم "أبو نصر الفارابي" المتوفي عام 339هـ رأيا في العلمانية، حيث كتب كتابا اسمه (التنبيه إلى سبيل السعادة) قسّم فيه العلوم إلى اثنين رئيسية وخمسة فرعية..فالعلوم الرئيسية عنده هي أولا: (النظريات) وفيها "علم التعاليم" أي الرياضيات والموسيقى والفلك..وغيرها و"العلم الطبيعي" – أي التجريبي كالطب والمعادن والنبات والحيوان.. وغيرهم - و"ما وراء الطبيعي" – أي الكلام وعلوم الغيب..ثانيا: (المدنيات) وفيها علوم "الأخلاق" و"السياسة"..(رسائل ابن حزم 4/ 15)

وبهذا التقسيم يظهر أن الفارابي كان يرى العلم الديني الذي هو (ما وراء الطبيعي) بلغة أهل زمانه، أو الميتافيزيقا بلغة العصر هي (منفصلة عن السياسة) التابعة لأصل المدنيات التي كان يسميها "بالحكمة العملية"، وكذلك فالعلم ما وراء الطبيعي (الدين) منفصل عن الأخلاق، وبالتالي فالأخلاق عنده وليدة مجتمع مدني..ويظهر كذلك أن الفلسفة هي (وسيلة) لفهم كل ما سبق، لذلك فهو يصف كل هذه العلوم مجتمعة بالفلسفة، فيقول فلسفة السياسة..فلسفة الأخلاق..فلسفة الطب والفلك..إلخ

كان هذا أول تقرير فكري واضح للعلمانية من فلاسفة مسلمين، أثر لاحقا في رؤية فلاسفة المشائيين بعده كابن سينا وابن رشد، ومن خالفوهم كانوا يخلطون بين علوم الغيب الإيمانية وبين علوم الدنيا فقالوا بالخلافة والشريعة وصنّفوا في وجوب اتباع الفقهاء وعدم الاعتراض على كبار زعماء المذهب..بينما عند ابن سينا مسائل السياسة خاضعة كليا (للدنيا) ومعيارها الأوحد هو المصلحة..الفارابي هنا التزم النموذج المشائي الفلسفي المأخوذ عن الفلسفة اليونانية، فالإغريق كانوا يفصلون بين الإلهيات والسياسة، ومعظم فلاسفة اليونان كانوا على هذا النحو، فالدين شئ خاص بالمعبد والسلوك الاجتماعي وغايته إرضاء الرب، بينما السياسة خاصة بالحكم والانتخاب وغايتها المصلحة، بينما سائر الفقهاء والقساوسة والأحبار الذين يؤمنون بالحكم الديني قالوا ذلك لخلطهم بين (الإلهيات والسياسة) كمصدر، حتى صار لديهم الملك ممثلا للإله في الأرض..

وأتحدى حامد عبدالصمد أن يكون تعرض لهذا النموذج من قبل، فالرجل أمي تماما في الثقافة الإسلامية ولا يعرف عنها سوى من الخصوم..

قال حامد: هكذا خرج من بين يهود أوروبا في ظرف قرنين من الزمان عباقرة في الطب والفيزياء والفن وعلم النفس وشاركوا في تجربة التنوير الأوروبية بقوة. خرج منهم عشرات الحاصلين على جائزة نوبل في كل مجالات العلوم والآداب، كما خرج منهم سيجموند فرويد الذي أزال القدسية عن القصص اليهودية وعن شخصية موسى عن طريق التحليل النفسي، واستخدم معهم نفس أسلوبه في تحليل الأسطورة الإغريقية. واليوم يفتخر اليهود بعباقرتهم حتى الذين أنكروا تاريخية القصص اليهودية وحتى من أنكروا وجود إله من الأساس.

قلت: لقد فعل نفس الأمر عباقرة مسلمين معاصرين كطه حسين وأحمد لطفي السيد، فالأول طرح الوجود التاريخي للأنبياء للشك في كتابه "في الشعر الجاهلي" والثاني كان شهيرا بمطالبه في التنوير وفقا للغات المحلية، وكان يرى الفصحى العربية عقبة في طريق الاستنارة، وهنا فائدة التنوع..والأمثلة غير هذين المفكرين كثيرة..كمحمد خلف الله مثلا في القصص القرآني الذي قال برمزيتها دون أن يتخلى عن إيمانه، وكذلك الإمام الماتوريدي في تفسيره حين أنكر تسمية الخضر على قصة العبد الصالح في سورة الكهف وأنكر كذلك التمسك بها واعتبارها دليلا تاريخيا بل يجب تصورها في مقام العظة فقط على الصبر..وأمثال الماتوريدي وفقهاء المعتزلة الذين نقلت تصوراتهم للقرآن في تفاسير متعددة كانت تقول برؤة مستنيرة متشابهة خصوصا في العصر العباسي الثاني..

والمشهور أن النهضة الإسلامية العقلية حدثت في العصر العباسي الثاني الذي نشط فيه علماء المعتزلة والرأي والفلاسفة في تصور شريعتهم ودينهم، حتى برع المئات منهم في علوم الطب والهندسة والفلك..إلخ، ولو كانت نوبل على زمان هؤلاء لانحسرت جوائز نوبل في المسلمين، مما يعني أن الاستنارة العقلية لا تتعارض مع تدين الأفراد بل تعمل وتتفاعل معها وفقا لقدرات الفرد، ومما سبق يظهر أن حامدا يحاكم التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية بخطايا الأفراد والحكومات، والراجح عندي أن هذه الطريقة النقدية مستوحاة من "ريتشارد داوكينز" في كتابه وهم الإله..

وقد قرأت أجزاء من كتاب وهم الإله وجدت الرجل ينتقد سلوكيات مؤمنين ثم يستنتج بذكاءه الخارق أنه لا يوجد إله..!!..ولا أعلم كيف استدل بهذه الطريقة....!..فالمفترض به حسب المنهج العلمي أن يحاكم الأسس والثوابت التي اصطلح عليها كل المتدينيين، لا أجزاء منها كما يفعل الفقهاء والكهنة في الرد على أنفسهم، داوكينز هنا هو نسخة مكررة من الأخ رشيد الذي يحاكم تراث المسلمين وتفاسيرهم مستنتجا ببراعة أنه لا يوجد إسلام..!! فما فعله داوكينز في وهم الإله والأخ رشيد في برنامجه نفعله هنا كثيرا، ومع ذلك لم نتخلى عن الإيمان، لأن لوازم التخلي عن الإيمان وأدلته ومتطلباته أظنها غير متوفرة سوى في عدد قليل جدا ألحد بناءً على قناعة فلسفية دقيقة ومناقشة لكل تفاصيل الإيمان دون اختزال..مع العلم أنه لا يوجد مشاهير ملحدين ألحدوا بهذه الطريقة، بل أكثرهم كان لهم موقفا نفسيا من الدين وأشهرهم نيتشة..

والنقطة التي يبرر بها داوكينز موقفه في مناقشة وهم الإله بطريقة اجتماعية لا فلسفية علمية أنه يستشعر خطر الدين على المجتمع، وهذا موقف إقصائي لم يحدد نوعية الخطر الذي يشكله رجل متدين بسيط يرى أن الله أمره بعدم الكذب والقتل والسرقة والظلم، وبرنامج حياته من البيت للشركة والعكس، وهذا يعني أن داوكينز إما قصد جماعة مؤمنين بعينها فبالغ بتعميمه وإما له موقفا نفسيا من الدين كما رأى ذلك الدكتور "بول فيتز" عالم النفس الأمريكي في جامعة نيويورك خلال محاضرة له على يوتيوب بعنوان "سيكولوجيا الإلحاد" أن أسباب الملحدين غالبا في ترك الأديان هي نفسية وليست عقلية، وكتبت هذه الحقيقة عندي في رسائلي عن الإلحاد المضمنة في كتاب "رسائل في التجديد والتنوير" سنة 2014

وقد اطلعت على مقتطفات من ردود الفيلسوفة الإنجليزية عليه "ماري ميدغلي" والبروفيسور الإنجليزي وعالم الأعصاب "ستيفن روز" في رده على كتاب "الجين الأناني" لنفس الكاتب، وفهمت أن ثمة مناهج تفكير (نفسية) تتحكم في داوكنز وأحيانا في خصومه.

وفي رأيي أن الشئ الجيد في داوكينز أنه لا يشوه الحقائق الاجتماعية للمتدينين فقد عرض مشاكلهم وقصورهم وغبائهم بطريقة صحيحة، لكنه أخطأ في الاستدلال بها على نفي الإله، لأن الفلسفة تجبره على مناقشة معنى الله والوجود وتحريرهما فلسفيا على نحو ما كان عليه ديكارت وكانط مثلا..لكنه أضعف منهم بكثير وقدراته الذهنية في الفلسفة فقيرة، وشخصيا أنا متابع لحساب داوكينز على تويتر ورأيت أن ذكاءه المحدود ظهر هناك، إنه نسخة من الأخ رشيد ..كثير الأحكام والتعميمات دون نقاش التفاصيل المهمة والاهتمام بإثبات صحة الاستنتاج، وبرأيي أن حساب تويتر كان يجب أن يدخره لنشر ثقافة السلام والمحبة أكثر أو يعرض رأيه لكن بتغريدات مسلسلة كي لا يخطئ متابعيه في الفهم، فالرجل حرفيا ينشئ جيل من الملحدين بلهاء ولا يعرفون كيفية الاستدلال ويقعون في أخطاء منطقية مشهورة، وفي تقديري أن حامد من هؤلاء الذين تتلمذوا على يديه مع فرقة كبيرة من الملحدين الناطقين بالعربية..

وكي لا أقع في الاختزال أنبه أن هذا إسقاطا لداوكينز كعالم أحياء تطوري، لكنه عرض أولي كمدخل نفهم به دوافع الرجل واللمحة العامة لكتاباته، ومن يشأ التأكد فليفتح كتاب "وهم الإله" تجد الرجل ينتهج أسلوب القصاصين في سرد الحكايات والأمثلة للاستدلال بها على نتيجته المسبقة، وهو خطأ فاحش بالاستدلال ، ولأن المنهج العلمي يتطلب الرد على كل أو معظم حججه أو محاور أفكاره..وأظن أن أفضل من قام بذلك هو عدنان ابراهيم في موسوعته متعددة الحلقات، فحقيقة رغم خلافي مع د عدنان في أمور كثيرة لكن هذه السلسلة – مطرقة البرهان - كانت في معظمها قوية علميا وموضوعية إلى حد بعيد كان فيها الباحث أكثر أمانة..

علما بأنني رأيت داوكينز يحقر من شأن الإدراك عن طريق إثبات وهم الحس..وهذا عجيب، فالإدراك الذي أدرك خطأ الحواس هو يعمل بطريقة صحيحة فكيف يكون موهوما؟..وأظن أن هذا الخطأ نتيجة لضعف الرجل الفلسفي، فوهم الأدراك كما سماه سيوهم كل شئ بعده حتى اكتشاف خطأ الحواس..! وملخص ذلك أن التعصب ضد الأديان والمعتقدات جميعها يساوي التعصب ضد الإلحاد واللادينية، فمحاولات القضاء على أي منهم ستبوء بالفشل، فكما أن هناك ملحدين خدموا البشرية والعلم هناك مؤمنين أكثر خدموا البشرية والعلم، وما نحتاجه هو الخروج من هذا الإطار النظري لعالم أكثر منفعة وأسئلة صحيحة، كمثل استبدال سؤال هل تؤمن حقا بالله إلى سؤال آخر: ماذا لو تعاوننا نحن كمؤمنين وملحدين في إعمار الأرض ونشر السلام؟

فالسؤال الأول كان معلوم الجواب مسبقا وسؤاله خطأ منطقي لأنه يفترض إنكارا مزيفا، أما السؤال الثاني يترتب عليه نتائج اجتماعية أكثر واقعية من هذا الجدل الساذج الذي أكل من تاريخ وجهد الناس أجيالا، فالإنسان لن يتخلى عن الدين كما أنه لن يتخلى عن الشك فيه، وهكذا ستستمر دورة الحياه، وعلى المعترضين أن يقدموا أوراقهم لمحكمة التاريخ التي ثبت فيها أن جدل الإيمان والإلحاد لم ينتهي منذ آلاف السنين، ولن يتوقف مهما وصل الإنسان من علم، والأولى أن نقبل أنفسنا كما نحن أو نريد.

قال حامد: رحنا نسجن من ينادون بتنقية التراث وتجديد الخطاب الديني دفاعاً عن القرآن والرسول، فظلت ثقافتنا محبوسة في العاطفية والقبلية الساميّة وفي العقلية السحرية التي تعيش في الماضي وتنتظر الخلاص في المعجزات أو في القائد الملهم المخلص، في حين تحرر العقل الغربي من الخرافة والعاطفية واعتمد على الابستمولوجيا والمنطق والتجربة فأنتج عقلية الصانع المحلل المنتج،

قلت: من يمدحهم الرجل هنا من نقاد التراث ومجددي الخطاب الديني وصفهم منذ قليل بغير المستنيرين وغير العلمانيين..!!
فياسيد حامد يمكنك دعمهم لو أردت..هذا أقل ما يطلبوه..
وبالنسبة لتحرر العقل الغربي من الخرافة ..هذا غير صحيح، فما زالت الخرافة شائعة بالغرب ويمكن التأكد من ذلك بقراءة ثلاثة كتب هي 1- أكاذيب وخرافات وغباء محض لجون ستوسل 2- أساطير من الغرب لسليمان مظهر 3- معجم الخرافات الشعبية في أوروبا لبيار كانافاجيو
ولماذا نذهب بعيدا وفلاسفة عصر الأنوار الأوروبي أنفسهم كانوا مخرفين، كيوهانس كيبلر الذي روى فؤاد زكريا في كتابه "التفكير العلمي" أنه كان يخاف من (العفاريت) وأساطير روسو وكانط عن المرأة واحتقارها مثلما ساق ذلك د إمام عبدالفتاح في كتبه عن موقف فلاسفة أوروبا الرجعي من النساء..

ورأي حامد هنا وعموميته لا يختلف عن شعارات الإسلاميين في رفع الشريعة، ويقفز على مسائل كالثورة الصناعية والاستعمار والانفتاح في تطور العقل الأوروبي بالتدريج..ومركزية ميثاق حقوق الإنسان العالمي في تشكيل دساتير أوروبا والعالم في الأربعينات..وبالتالي فالرجل يتحدث سياسة ..لا فكر، فلو توفرت ظروف للمسلمين بالديمقراطية والتنوع مع صدمات وتجارب مشابهة لما حدث في أوروبا فهل يمكن أن يؤدي ذلك لتنوير المسلمين دون التخلي عن دينهم؟؟

قال حامد : نتجاهل أفكار سلامة موسى وفرح أنطون وأحمد لطفي السيد، وتركز على أفكار محمد عبده وعبد المتعال الصعيدي لإضفاء شرعية دينية على فكرة التنوير. ومع ذلك لا أريد أن أقول إن تجربة التنوير عندنا فشلت كلياً، ولكنها مازالت تحبو وما زالت تخطو خطوة وتتراجع خطوة، ما زالت تنقصها شجاعة جوردانو برونو وشك ديكارت ومنهجية إيمانويل كانط وسخرية فولتير ووضوح رؤية جون ستيوارت ميل. ومشكلتها هي أن عليها أن تعيش كل مراحل التنوير في عصر واحد وبسرعة شديدة في حين أن مزاج الحكام والعوام والظروف السياسية والاقتصادية والإقليمية لا يزالوا ضدها.

قلت: هذا أيضا حشو مكرر يقوله العلمانيون المسلمون..ويبدو أن عبدالصمد أغضبه شخصا ما كان يستدل بالصعيدي دون أنطون..وهذا خطأ في الاستنتاج، فلطفي السيد وسلامة موسى من آباء العلمانية بالشرق الأوسط ولا ينفك علماني عن طرح آرائهم في الغالب..

قال حامد: لا أستطيع أن أقول ان تجربة التنوير عندنا فشلت بشكل كامل وأنا أعلم أن عشرات الآلاف عندنا أصبحوا يقرأون لطه حسين وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وفرج فودة وسيد القمني وريتشارد دوكنز وتولستوي ونجيب محفوظ وأورهان باموك، والملايين ويشاهدون فيديوهات تنويرية ليس فقط بما يتعلق بنقد الأديان، فالدحيح تنويري، وبرامج تبسيط الفلسفة تنويرية، والكثير من مسلسلات نيتفليكس تنويرية وفيروز تنويرية لأن كل هؤلاء يحثون على التفكير، أو يرسخون للفردية والحرية، أو يبرزون الجمال أو يناقشون قضايا المجتمع وآلام البشر.

قلت: حشو مكرر أيضا يقوله العلمانيون المسلمون

قال حامد: أظن أن التغيير ليس مجرد خيار بل هو حتمية تاريخية في ظل تطور الوعي البشري. وهناك طريقان للتغيير: طريق الكوارث والحروب الدينية والأهلية وتفكك الدول والمجتمعات، أو طريق التصالح مع العالم ومع المعرفة والحرية وشجاعة الشك والبحث والتجديد. أوروبا اخذت الطريق الثاني بعد أن أدماها الخيار الأول، فماذا نحن فاعلون؟

قلت: أيضا حشو مكرر يقوله العلماني المسلم
وأضيف أن هناك أربعة تيارات تنويرية تعمل في الشرق الأوسط معارضين للشيوخ بشكل عام، ثلاثة منهم مسلمين أو ينشط فيه مسلمين.والرابع ملحد راديكالي متطرف..وهو التيار الذي يراه عبدالصمد هو الأحق بالعلمانية والاستنارة، وسأختم مقالي بهذه النبذة البسيطة عن طرق الفكر في الثقافة الإسلامية النقدية..

التيار الأول: وهو الذي يدعو للعودة إلى فهم السلف الأول قبل نشوء الخلاف، أي إلى مبادئ الأخلاق وقيم عصر الرسول والخلفاء الأربعة قبل الإضافات الأموية والعباسية من روايات وأحاديث، وهؤلاء من يعملون في نطاق نقد الموروث فقط، ويؤمنون بأن إحياء قيم ومبادئ عصر الرسول كافية لإصلاح الدين..وغالب ظني ان انتقادات حامد والملحدين لهذا التيار بشكل كلي..

التيار الثاني: وهو الذي يدعو إلى نسخة جديدة من الإسلام تتوافق مع الحداثة والعلم وحقائق العالم الجديد، وهؤلاء غير مشغولين بنقد التراث ولا يهمهم تاريخ المسلمين بل في ضرورة أن يتوافق أي دين مع العصر الحديث أيا كان هو..والغالب على هذا التيار لادينيين، وفئة قليلة مسلمة بلغت ثقافة الحداثة..

التيار الثالث: وهو الذي يجمع بين الاثنين..فينتقد التراث ليُخاطب فئة المؤمنين وينافس الشيوخ في إسلامهم، وفي ذات الوقت يؤمن أن مبادئ وقيم عصر الرسول تصلح للحداثة لا معالم العصر نفسه..يعني العيش في الصحراء والمجتمع البدوي القديم هذا لا يهم..الأهم أن تلك المبادئ الدينية تصلح لإنشاء مجتمع متحضر، والغالب على هذا التيار مسلمين وفئة قليلة من لادينيين وأديان أخرى مهتمين بقضايا الأسلمة الفكرية..

التيار الرابع: وهو الذي يرى أنه لا قدرة لأي مسلم أن يبلغ الحداثة أو يتعايش مع العصر أو ينتقد دينه بشكل صحيح أو يؤثر في مجريات التاريخ لينجح في التغيير، وبالتالي فالحل هو (ترك الإسلام فورا) وبالطبع هذا التيار لاديني لكني أعتقد أن فئة كبيرة منه ذات أيدلوجيات راديكالية من اليسار واليمين وموقفهم من الإسلام سياسي أكثر منه عقائدي فلسفي..

وأصحاب التيار الرابع أنتقدهم كثيرا لجهلهم بأصول التجربة الدينية البشرية التي تبحث عن المقدس أساسا، بينما النصوص الدينية والمذاهب والفتاوى لديهم هي مجرد (تفاعل) مع هذا المقدس فقط..أي أن الدين راسخ في النفس البشرية، وهذه الحقيقة فطن إليها الفيلسوف الألماني "فيورباخ" وقال بأن الدين هو أي معتقد مقدس عند صاحبه حتى لو لم يكن لاهوتيا، مما يعني – حسب فيورباخ – أن الملحد قد يكون متدينا بشكل مختلف، وبالطبع ففيورباخ كان ملحدا بالأديان وهو أشهر وأول فلاسفة التنوير الذي جهر بإلحاده، لكنه فسّر معتقده أنه إلحاد بآلهة الأديان فقط ، وبالتالي كان يعتبر نفسه مؤمنا بطريقة أخرى لا نعرفها.

أصحاب التيار الرابع غاب عنهم تأثير محي الدين بن عربي وجلال الرومي والحلاج وابن الفارض وعبدالقادر الجيلاني في (إيمان الصوفيين خصوصا) وكثيرا من الشيوخ بشكل عام، فهذا التأثير مرتبط بالسعادة والمتعة من التدين الشخصي وإيجاد الحلول للمشاكل المجتمعية، كوفاة الوالدين والأقارب مثلا..هنا يتدين الشخص ليشعر بمتعة مفقودة، ولأن الانتهازيين من الشيوخ على قفا من يشيل يستغلون أحداث الوفاه بالذات لنفث سمومهم السياسية والخرافية بين العوام..لذا فقلت سابقا أن كثير من مظاهر التدين الخرافي والسياسي يتشربها المسلم في أحداث الوفاه والعزاء وفقدان الأحبة..

كذلك فالذي يمارس الأخلاق ويعتقد أنها أصل الدين هو يشعر بمتعة لا يضاهيها شئ لاعتقاده أن ثواب ما يفعله سيجده ، وأن كل ما يعمله من خير وبر وإحسان لن يذهب هباءً ، ومتديني الصوفية بالذات الذين يرقصون ويسمعون الأغاني والموسيقى متعتهم كبيرة جدا، وروحانيتهم تذهب لعنان السماء، فكيف تنسى كل ذلك وتقفز على هذه الحقائق وتختزلها بطلب ساذج يطرحه حامد دائما، وهو أنه طالما ظهرت داعش والقاعدة والاستبداد فهذه حقيقة الإسلام ويجب أن تترك الدين؟..وجوابي أن سؤالك وطلبك عدم فهم للدين نفسه ولا طرق التدين ولا تنويعات وتجارب البشر في علاقتهم بالدين..

شخصيا أقرب التيارات إليّ هو الثالث، لكني أضيف له أنني غير مؤمن بوجود نسخ دينية صالحة للاستدعاء ومؤمن بأن الدين هو اتصال لا ينتهي بين الخالق والمخلوق، وبالتالي فهو يستفيد من كل تجارب التاريخ ومذاهب الفقه المعروفة وغير المعروفة..حتى إذا وصلت إلى فهم معين لدينك تكون قد وصلت لفكرة جزئية عن الدين وليست كلية تصلح لغيرك بشكل متطابق..وبالتالي فما أدعو إليه من قيم ومبادئ ومعارف أصرح بشكل متكرر أنها غير ملزمة لغيري وأن ما نجتمع عليه فقط هو الدين الوجودي الذي شرحته في كتابي "الدين والعقل" وأن لكلٍ منا الحرية أن يمارس دينه كيفما يشاء شريطة أن لا يؤذي أحدا بالقول أو الفعل، والطريق لهذا الشرط ليس سهلا لو كنتم تعلمون..



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن