تأخرنا بماضينا وتقدم الأخرون بالمستقبل

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2021 / 9 / 28

في أوسط سبعينات القرن الماضي وحين كانت أولى تأثيرات قفزة أسعار النفط ترسم ملامح شرق أوسط جديد برز العراق كواحد من بلدان العالم الثالث الأكثر نشاطا في مجال البناء الأقتصادي والتنموي المخطط له والمبني على أستراتيجيات واضحة تسن على شكل خطط خمسيه وبموجب قوانين إلزامية , حتى قارب العقد على الانتهاء ليبرز العراق بلدا يملك الرؤية الأقتصادية الواضحة والتي تبشر بنمو بلد أقتصادي من سلسلة النمور الأقتصادية في الشرق الأوسط , في هذا الوضع والزمان تحديدا كان كل من تركيا وإيران تغرقان بمشاكل أقتصادية نتيجة لظروف سياسية وأجتماعية عاصفة , السعودية ما زالت تحبو ودول الخليج في طور التهيؤ والبداية بالتفكير والبناء التحتي .
لم يكن ينافس العراق في المنطقة أحد لا سوريا التي تعاني حصارا أقتصاديا ولا حتى الأردن صاحبة الأقتصاد الذيلي في المنطقة المعتمد على المساعدات والخدمات الأقتصادية التي ترهن حركته باقتصاديات بلدان أخرى ,ومصر بين خطوة للأمام وخطوة للخلف في ظل نتائج وخيمة على سياسة الباب المفتوح التي أختطها الراحل السادات في حينها , العراق كان الأول في البناء والتعمير والإصلاح الذي أستدعى أن يكون من بين عمالته التي تحرك سوق العمل ستة مليون مصري والما يقارب مليوني من جنسيات مختلفة وعشرات الشركات التي وفدت للقطر لتنفيذ مشاريع خطط التنمية والتحول الأقتصادي الرهيب , هنا حدث ما لم يكن في الحسبان توقعه , الثورة الإيرانية التي عصفت بالمنطقة سياسيا وعسكريا وأجتماعيا حتى حولت الوضع في الشرق الأوسط عموما إلى مواضع دفاعية وهجومية متقابلة متقاتلة على التأريخ والجغرافية المهملة .
السياسة في جانب منها مهم وحيوي هو جانب حماية الأقتصاد والمنجز الأقتصادي بما يمنع من تحطيم ثمار الجهد والبناء والأموال التي بذلت لإنجاز التحول , كان على المخطط السياسي والمنفذ لها أن يفهم أصول اللعب السياسي ويتمتع ببرغماتية إيجابية تمكنه من أحتواء تأثيرات التبدلات الجذرية في واقع الإقليم السياسي من جهة , والأستمرار بالبناء والتطوير والتصنيع لترسيخ نوعية ونمطية أقتصادية منتجة وراسخة يمكنها بالأخر تحمل شتى أنواع الأهتزازات السياسية , ومحاولة التغلب على المشاكل الناشئة عنها بقوة ومتانة الواقع الأقتصادي وما يوفره من خيارات قوية لصاحب القرار السياسي .
الأمر المؤلم حقا بعد أن قطع العراق الأقتصادي الجديد الذي يمتلك كل المقومات الأساسية للتطور والتحول السياسي والأقتصادي للحاق بركب الأمم والشعوب والبلدان الراقية ,لولا ما كان ينقصه من حضور مباشر العقل القيادي البرغماتي المتفهم للشرط السياسي والذي ينحاز للعقل والمصلحة الوطنية الخالصة , لقد فرطت القيادة العراقية بعد الحقبة التنموية الهائلة في السبعينات من القرن الماضي بكل تلك المقدمات وانساقت وراء شعارات ثورية فارغة من إمكانية التحقق أو البلورة , دون أن تنظر للمصلحة وعلاقة هذه الشعارات بعملية التحول .
فدفعنا أثمان باهظة تمثلت بفقدان كل الرصيد المادي الأقتصادي والمالي وتدمير البنية التحتية اللازمة لكل مراحل التطور , وتهجير وتفريط بكل الكفاءات والنخب العلمية والعملية , والأتعس من كل ذلك هو ارتهان الأقتصاد العراقي ولفترات طويلة لعوامل خارجية تمثلت بالديون العالية والفوائد المتراكمة والتعويضات الناتجة عن خسارة حروب عبثية , وتدمير لكل أشكال البناء الأقتصادي وأعتماد شبه تام وكامل ولفترة طويلة قد تمتد لعدة قرون على أحادية المنتج الأقتصادي المتمثل بتصدير خام النفط .
لقد ضاع العراق بتلك السياسات الحمقاء التي اختارت منطق القوة على منطق العقل ودخلت في حروب ونزاعات لم تخرج منها صورة مجتمعنا إلا كالركام المتناثر الذي هده زلزال مدمر بحاجة إلى كل أنواع الدعم والجهد والنضال من أجل الترميم وإعادة الحياة , في الوقت الذي فيه استوعبت فيه إيران الدرس وباشرت بناء أقتصاد طوارئ من جهة ومن خلال هذا الأقتصاد أعادت البنية التحتية للصناعة والزراعة وكل أنماط العمل الأقتصادي لتكون في نهاية القرن الماضي قوة أقتصادية لا يمكن التأثير عليها من هذا الباب .تركيا التي شهدت تحولات بنيوية مهمة نتجت عن نوع من الأستقرار السياسي المصاحب بتنميو وطنية في كل المجالات العامة والخاصة مستغله علاقتها الإقليمية والدولية لتتحول إلى واحد من أقوى أقتصاديات المنطقة ومصدر أساسي يحسب له في السوق العالمي والإقليمي كمنتج مهم وحيوي , كما شهدت نهايات القرن الماضي تحولات أقتصادية رهيبة في دول الخليج العربي والسعودية والأردن التي أختطت جميعا سياسة السوق الحرة وفتح الأبواب على مصراعيها للاستثمارات المحلية والدولية من فائض أسعار النفط وتحولت المنطقة إلى مجال حيوي للجذب الأستثماري والأقتصادي وأرتفاع في معدلات الدخل القومي والفردي .تماما في هذا الوقت الذي شهد أرتفاع رهيب في أسعار النفط ومشتقاته وشهد تبادل حر للاقتصاديات العالمية , لم يكن العراق قادرا على فعل أي تصرف أو نشاط أقتصادي وهو يخضع لسلسة من العقوبات التي حرمته من أستخدام موارده النفطية وكما حرمته من التصرف في تنمية هذه الموارد وإصلاح البنى التحتية وإقامة صناعات أو مشاريع جديدة , لنشهد في أوائل عام 2003 سقوطا مدويا للنظام السياسي العراقي القديم بأحتلال أجنبي كان من وراءه أطماع سياسية وأقتصادية وعسكرية لم يخفها قادة الأحتلال كما لم تخفيها سياستهم الأقتصادية التي أبقت العراق تحت بنود الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لفترة قريبة جدا .
صاحب هذا التحول بروز قيادة سياسية وأجتماعية تفتقد لأبسط مقومات التخطيط والتفكير الأقتصادية , ولم يكن لديها برنامج محدد وواضح وأعتمدت في ممارستها السلطة على الاجتهادات الشخصية المتخبطة التي وضعت العراق تماما على حافة الفشل والانهيار نتيجة للكثير من الأسباب والعوامل والتي من أبرزها خضوعها التام لقوى أقتصادية إقليمية نافذة , عملت بكل قوة لجعل الأقتصاد العراقي أقتصاد ريعي خالي من أي أحتمالات تطور أو وجود بدائل حقيقية .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن