لماذا لا تبكي جدتي

دينا سليم حنحن
dina_saleem2@yahoo.com

2006 / 8 / 20

أتيتُ الى العالم بلا مساومات، هكذا وبدون مقدمات، ولدتُ دون اختياري في منتصف الطريق على طول زمن الترحال. خبأتني جدتي بعباءتها وكبرتُ في حضنها أتخبط بأريج رائحتها. تزعزعني الأيام تسافر بي السنوات فترديني قتيلة الذكريات.
الهبتني بكلماتها، أودعت داخلي سر الكينونة، وهبتني ما تحتاجه كل امرأة تتحصن الحياة، علّمتني ان للوجود شروط وللهروب شرور .
ما دمتِ حية يجب إجادتها...أي الحياة .
استذكر نصائحها كلما خَطرتْ على بالي وكلما خطوتُ ميلا آخر في سبيل الأقدار .
الحياة يا صغيرتي كشلّة صوف ان أتقنتِ التعامل معها فلن تتعقد ...
وإن تعقدتْ أمامي ماذا أفعل؟
لا تفعلي أي شيء الا التّعلم من التجارب فتتحصن خطاكِ ، إياكِ والهزيمة...
عندما رحلنا من بيتنا العتيق لم تستطع جدتي النوم ليال طوال، المحها تنتقل من جدار الى آخر ومن غرفة الى أخرى، تسند جسدها الواهن تارة وتارة تقف مشدوهة وسط دارها الجديدة تستذكر القديم الذي تركتهُ هناكَ بمعية رائحة الأحباب، رائحة العبق القديم الذي نام في حضن السنوات.
تترك بيت العز دون شكوى أو ملامة فتنال المزيد من ثنايا الأفكار فتتراكم داخل رأس أمتلكهُ الشيب ، لم تكف عن البحث، وكأنها تحاول شمّ رائحة بخور الأعزاء، تنتظر انتشاره من بين الثقوب فلا يأتي أبدا، تعلّق نظرها على صور الأحباب، تطيل النظر تتعاقبها تنهيدة حزن غائرة ...غاب عنها العبق والبخور في آن .
لم تترك مجالا للحزن ولم تسمح بأن يشفق عليها احد، تتظاهر أمام الجميع بالقوة وما كان يضاهيها أحدا وهْنا وضعفا.. لم أرها تبكي .. استحالت دموعها الى ابتسامات وعيونها البراقة الى تحدّي ... طالما تساءلتُ :- متى تبكي جدتي !؟ ولها آلاف الأسباب للبكاء !
أرملة تعيش وسط بناتها الخمس، بعد سنوات اليتم الحقيقي، تذكر أمها الشابة يغطيها السواد ما يلبث أن يتبدل الى ثوب ابيض يخفي داخلهُ طيفها ويبتعد بلا رجعة داخل الضباب.
أمضت جدتي عمرها وهي بعيدة عن أهلها وذويها ، تفقد بنتا وابنا، تتناوب عليها أفكار رجعة جدّي الذي ذهب في صومعة الحرب الخاسرة ، بعد رحيلها تورثنا ذات الأفكار فبتنا مثلها تماما نتناوب انتظار رجوعه حتى اضمحل الانتظار وتحول الى عادة سيئة ، انتظار اللا شىء...
أذكر يوما حملوني به الى المستشفى ،عشتُ غيبوبة الأربعين ، فتحتُ جفناي الثقيلان أسأل عن سبب مجيء الكاهن وعن سبب صلاة الوداع، تنهمر الدموع عليّ كالطوفان تغطي وجنتيّ الشاحبتين تودّع طفلة تفارق الحياة ، تصل اليّ حارقة تلهبني حرارة ما بعد الجمود فتزهق روح عزرائيل، استفقتُ من غيبوبتي متسائلة: أين هي دموع جدتي !؟
انهمكتْ تطعمني قطرة تلو القطرة بواسطة إبرة استعارتها من احدى الممرضات حتى قويت عظامي ونما عقلي .
وكانت حرب الستة أيام أجد نفسي داخل عباءتها ، تغطي وجهي بمنديلها وكأنها بهذا تحجب نيران الحرب عني، اسمع دقات قلبها المتسارعة، المح وجهها الشاحب وبيديها المرتعشتين تهدىء من روعي تبقيني في حجرها ساعات طويلة بينما يتسرق الى أذنينا ولولة النسوة وبكاء الأطفال المرعوبين ... إلا جدتي لم ألمح لها دمعة بل هي نظرات الوقار والقوة، الصبر والتحدي .
ضبطتْ نبضات قلبها عندما رأتني أتوسط نساء الحارة ، يعانقنني بنشوة الحنين مودعين خطاي الى منهل العلم . ما زلتُ أذكر دموعهن الممزوجة بطعم الحبور... لم أرَ دموع جدتي، كل الذي أذكرهُ حضنها الدافىء وصدرها الخفّاق الذي احتواني حتى فجر مغادرتي.
وجاء يوم مغادرتي البيت الى الأبد، من خلف طرحتي البيضاء بحثتُ عن دموع جدتي لم أجدها ولم أجد لها دموعا .. وحتى الآن اتساءل، اين كانت جدتي ؟
جاءتني بعد سنة تدللني كقطة تطعمني بيدها وتناولني فلذة كبدي، تدربني على حملهِ وكيفية اطعامه. تبتسم لطفل عمري تتسع ابتسامتها كلما رأتني سعيدة به، تحيطنا انا والطفل معا فحضنها يتسع الجميع فهي أرض الوطن تجلس القرفصاء على البسيطة تتربع بشموخ وكبرياء، تومىء اليَ بنظراتها الحنونة تدعوني الى كنفها كلما احتجتُ لها .
وكانت صدمتي الاولى بدموع جدتي التي خلتها لا تبكي أبدا، تذكرتُ للحال شلة الخيطان التي تعقدت وتعددت عقدها فبدت كمعضلة لا حلّ لها . دموع جدتي تخترق ذاكرتي ودموع طفلي تكويني وتحرق قلب الأمومة داخلي، كلما نظرتُ اليهِ يتململُ وجعا ويولول ألما .
أيقنتُ أن لجدتي دموعا... دينا سليم Australia
Dina_saleem@hotmail.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن