لنتعلم من - غريغوريو ميرابال - !

عارف معروف
aw56maroof@yahoo.com

2021 / 9 / 15

بعث لي السيد " غريغوريو ميرابال " ، وهو من السكان الاصليين لحوض نهر الامازون ، ويقدم نفسه كقائد وممثل لاكثر من 500 جماعة من جماعات السكان الأصليين ، بعث لي رسالة من خلال منظمة " أفاز " ، وهي منظمة حملات انسانية تضم اكثر من 65 مليون عضو حول العالم ، كما بعث لالوف غيري بنسخة منها ، ممن سبق وان شاركوا في حملات هذه المنظمة ، رسالة تتضمن الدعوة الى التوقيع على عريضة تطالب بوقف تدمير البيئة والحفاظ على التنوع البيئي الذي “ يدمره السياسيون الذين لا يعبأون بحلول حقيقية ، طويلة الاجل ، لرعاية الكوكب “ ،على حد تعبيره ، مما يهدد شعبه ومعظم الشعوب الاصلية ، في حوض الامازون ، وغيره بالانقراض ...
وبالطبع وقعّت على العريضة وعقلي وقلبي مع السيد غيرغوريو ومشروعية حملته الانسانية وجدارة نداءه الواعي بالتضامن والمساندة ، لكن هذا اعاد اليّ هاجسا اخذ ، منذ فترة ليست بالقصيرة ، يلّح على خاطري ويقترب اكثر فاكثر من ان يصبح واقعا عليه شواهد مهمة وحقيقة تنهض في دعمها المزيد من الدلائل والاشارات ....
وقعّت على نداء السيد غيرغوريو وانا اتمعّن في كلماته واردد : ومن هو المُهَدَد بالانقراض اكثر ، بالمعنى الحرفي للكلمة ، ياصديقي ميرابال ، هل هو حوض الامازون وحياته الطبيعية وانواعه والذي كان وما يزال ، يسترعي ما يسترعيه من اهتمام غربي وعالمي ، ومنذ مدة ليست بالقصيرة ، ام العراق والعراقيين الذين ، على العكس تماما ، تتظافر عوامل خارجية كثيرة ومؤثرة مع عوامل داخلية مدمرة ، يسهمون هم ايضا ، في خلقها وتحفيزها ، بنشاط وحمّية ، على السير بهم الى التلاشي والانقراض الفعلي ؟!
من المؤكد ان التأثير على النظام البيئي وعدم الاهتمام بعناصرحفظه وتوازنه واستمراره سيقود الى نتائج مؤثرة سلبا بل وخطيرة على انماط الحياة فيه بما في ذلك الحياة الانسانية ونظمها الاجتماعية والثقافية لكن معظم الوقائع المؤرخة والمعروفة تشهد ان الحياة الانسانية والمجتمعات والحضارات بادت وفنيت ، في اغلب الحالات ، ليس بفعل عوامل طبيعية مدمرة ، كثورات البراكين او الزلازل اوالفيضانات او حتى التغيرات الايكولوجية التي يشير اليها السيد ميرابال في حملته ، الاّ من خلال وقائع محدودة جدا ، ومحصورة مكانيا . فقد تزول مدينة او تتحجر بفعل الصهارة او الرماد البركاني مثل مدينة " بومبي "، او قد تغمر المياه مساحات واسعة كما كان يحصل في وادي النيل او وادي الرافدين ..ولكن ذلك لم يكن ليقضي على مجتمعات او يدمر مجموعات سكانية كبيرة بكاملها ، والتي ، كانت تنجح ، غالبا ، في تجنب الاثار المدمرة للكارثة الطبيعية ، ثم تتكيف وتستعيد نشاطها وحياتها بقدر من الخسائر او ربما تجددت دورة الحياة فيها وانبعثت على نحو اكثر نشاطا وتنوعا وغنى بالحياة ، كما كان الحال في اعقاب كل فيضان مدمر شهدته وديان الانهار الكبرى مثلا ، او كما يحصل من خصب وتنوع للحياة في اثر كل ثورة بركانية ...
اما اذا كان التدمير ناتجا عن فعل انساني مثل الغزو والاجتياح من قبل اقوام اخرى ، ومهما بلغت اعدادهم وقسوة اساليبهم وهمجيتهم فقد برهنت الوقائع التاريخية ، عبر امثلة ملموسة ، على ان الشعوب والحضارات ان لم تتمكن من صدّ موجات الغزو وكسرها فانها ، في اغلب الاحيان ، كانت تستوعب الصدمة وتتمثل الغزاة ، ولربما انصهروا في بوتقتها وتلاقحوا مع حضارتها وثقافاتها واصبحوا ، لاحقا ، جزءا عضويا من تكوينها كما كان الحال في اغلب موجات الغزو البربرية التي شهدتها الحضارات المعروفة وغزوات المغول مثال واضح على ذلك بل ان وادي الرافدين نفسه ، كان طوال قرون ، مسرحا لغزوات ومعارك مستمرة بين الفرس والترك ، ورغم انهم تركوا بعض الآثار المحدودة في ثقافة العراقيين، لكنهم لم يتمكنوا من محق هويتهم الخاصة او انهاء وجودهم ...
لكن الاخطر ، على الاطلاق ، والذي قدم الواقع امثلة كثيرة ، وعبر التاريخ ، على اثره المزلزل وعقابيله المدمرة وآثاره الماحقة هو الانحلال الداخلي ، نتيجة فقدان عناصر ومقومات الوجود والاستمرار او تآكلها واضمحلالها ، وان حصل طبعا ، وفي اكثر الاحيان بمحفزات خارجية ...
وتعالوا الان نتكلم بصراحة ونحسبها بهدوء وبحساب " عرب " ودون حذلقة النصف الملآن من الكأس ، الذي يراه المتفائل ونصفه الفارغ الذي لا يرى غيره المتشائم ، ولنكن ، ابتداءا ، " متشائلين " فقط ، على حدّ تعبير المرحوم " اميل حبيبي " في روايته الشهيرة التي كان هذا التعبير جزءا من عنوانها ، بمعنى حياديين ومبتعدين عن الهواجس والعواطف والامنيات ، ما امكن ، ولنسأل :
مالذي بقي لدى العراقيين كدولة وكمجتمع ، او كوطن وشعب ، بصيغة اخرى ، من مقومات الوجود والاستمرار حقا ؟
وهل للعراق والعراقيين مستقبل ، وما هي طبيعة هذا المستقبل وضماناته ؟
واعني بالطبع ، مقومات ملموسة وواقعية مما يؤيده العقل وتدعمه التجربة ويؤكدعليه العلم ... فلا يحدثني احد عن " الغيرة العراقية " مثلا ، تلك التي نستنجد بها ، كلما كان على المنتخب العراقي لكرة القدم ان يواجه فريقا خصما في بطولة او نهائيات دوري اقليمي او عالمي ، بلا امكانات حقيقية ودون ان تدعمه اي من مستلزمات الفوز الى حد الافتقار حتى الى الشعور بوحدته كفريق ، فاذا حصل وفاز بفعل المهارات الفردية للاعبيه وشيئا من الحظ هتفنا للغيرة العراقية ولأسود الرافدين الذين لن يقهروا ، اما اذا خسر ، اتجهنا الى التخوين والتشكيك بنزاهة وولاء اللاعبين والاداريين ونسينا تعويذة " الغيرة العراقية " !
ولا يبحث احد ، كذلك ، عن الطمأنينة في افكار سديمية مثل افكار ميشيل عفلق عن " قَدَر الأمة " فيطمئن نفسه بأن " قَدَر العراقيين " سيلد المعجزات من رحم المعاناة ، او ان نهدهد انفسنا بالحديث عن ان ارض الانبياء والاولياء تحفظ مالها وما عليها بقدرة الواحد القهار ، فالانبياء والرسل وكذلك الاولياء والاصفياء كانوا يعدون للامور عدتها ويهتمون لحسابات الواقع وممكناته ولم يعتمدوا او يركنوا الى عبارات لا تقول شيئا مثل " قدر الامة " او " روح التاريخ " او " رسالة " شعب من الشعوب !
هل هو التشاؤم والسوداوية التي قد تنبع عن العجز ؟
ربما ...
ولكن على من يرى ذلك ان يتفحص حياته اليومية وحياة اقرب المحيطين به وليستعرض مفرداتها واحدة واحدة ، هل يجد فيها مايطمئنه ويؤمنّه ويلبي حقوقه او شيئا منها ويعده بحاضر آمن ومستقبل افضل ، او حتى ممكن ، له ولعائلته ؟
فان كانت الاجابة بنعم فانا اعتذر عن سوداويتي وتشاؤمي ، اما اذا كانت الاجابة بالايجاب فاسأله ماذا نحن فاعلون اذن اتجاه وجودنا ومصيرنا ومستقبل اولادنا ؟
هل نستمر في وضع رؤوسنا في الرمال ونتجنب التفكير الجاد والمسؤول بحل حقيقي ، ام نضع يدنا في يد السيد " غريغوريو ميريبال " ونفعل شيئا اتجاه ما يهددنا من تلاش وشيك وانقراض مؤكد ، اذا استمر الحال على نفس المنوال ، فنهتف تباً للامبراطور الجاهل العاري الذي يضحك علينا ، ويعيد السخرية منا ، منذ ثمانية عشر عاما ، حتى اليوم ، فيستعرض امام انظارنا ، في كل مرة ، " ملابسه الجديدة " التي لا تفلح في ستر عريه الذي بات يعرفه حتى اطفالنا فيهتفون ببراءتهم المعهودة ... ولكنه عار ومفضوح ولا يرتدي شيئا ، كما هو شأنه في المرات السابقة !



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن