ملابسات مصرع ثورة

نوفل شاكر
nofalshaker55@gmail.com

2021 / 9 / 5

" قال عبد الله بن خازم:
أنا، والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانيء... فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله، وكانوا أربعة آلاف رجل، فناديت: يامنصور أمت، فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه فعقد مسلم لرؤوس الأرباع... فما لبثنا إلا قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يتوثبون حتى المساء، فضاق بعبيد الله أمره ... وليس معه إلا ثلاثون رجلاً من الشرط، وعشرون رجلاً من أشراف الناس..."

الإرشاد ص201

حدث ذلك؛ عشية وثوب مسلم بن عقيل بالكوفة، في الثامن من ذي الحجة عام ستين للهجرة، فكيف انتهى المطاف بمسلم، بعد سويعات قليلة من هذا الحشد الكبير الذي كان بمعيته؛ إلى أن يجد نفسه وحيداً في دروب الكوفة، ثم يؤول مصيره إلى تلك النهاية التراجيدية المؤلمة !

ماهي ملابسات الأحداث؟

كيف انقلبت الأمور بهذه الطريقة الدراماتيكية، فإذا بابن زياد صاحب الثلاثين شرطي، ينتصر على ابن عقيل قائد الأربعة آلاف جندي أو الثمانية عشر ألفاً ( على رواية المسعودي)؟

ماذا حدث حتى يترك هذا الحشد الكبير قائدهم في المسجد؛ ليلتفت إليهم بعد إتمام صلاته فلا يجد إلا ثلاثين رجلاً فقط؟! وحتى هؤلاء الثلاثين اختفوا بعد خروجه من المسجد، ليتبقى منهم عشرة فقط!!ولإكمال المشهد المسرحي بصورة أكثر " كتاريسية" فإن هؤلاء العشرة أيضاً؛ يتبخرون عند وصول مسلم لأبواب كندة؛ ليجد نفسه وحيداً بلا دليل يدله على الطريق!

واضحٌ من قراءة القصة، بأنها قد نُسجت بحبكة درامية محكمة، حتى إنها لم تغفل الجانب العددي في الموضوع، فكاميرا المخرج، و" عين الطائر" للراوي "كلي العلم " ؛ ظلت تتابع مسلم، وتحصي أنفاسه من لحظة خروجه بالآلاف من أنصاره إلى المسجد، إلى خروجه منه وحيداً على أبواب كندة!!

لكن صناعة الحدث وإخراجه بهذه الطريقة الدرامية المفتعلة، لا ينفي وقوعه، ولا ينفي الحاجة إلى صياغة أسئلة من قبيل :
لماذا هذا الانقلاب في الموقف؟
ما سر هذا التبدل في مزاج الكوفيين قبل صلاة المغرب وبعدها؟
هل هي سخرية القدر، أم سوء التقدير، أم الاثنان؟
هل هنالك مشهد تأريخية مفقود،بين خروج مسلم بالسلاح، وانتهائه من صلاة المغرب في ذلك اليوم، حدث فيه هذا الانقلاب العظيم في الموازين؟
ثم أين اختفت رجالات الشيعة الكبار كمسلم بن عوسجة، وأبي ثمامة الصائدي، وسليمان بن صرد الخزاعي؟؟
أين تبخر هؤلاء؟!
التأريخ لايذكرهم إلا فيما بعد، ولكن ابن الأثير يذكر بأن المختار "قد نهض بمواليه"؛ لينصر مسلماً ولكنه وصل بعد فوات الأوان؛ فألقي القبض عليه، ليتم سجنه.

ولكي نبقى في صُلب الحدث، فلنقرأ ما كتبه الشيخ المفيد نقلاً عن الكلبي، والمدائني، وغيرهما في إرشاده: " وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم ثم أشرفوا على الناس، فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل العصيان الحرمان والعقوبة وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم... فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون، وكانت المرأة تأتي أخاها أو ابنها فتقول: انصرف، الناس يكفونك... حتى أمسى ابن عقيل وصلى المغرب، وما معه إلا ثلاثون نفساً في المسجد" ص202

وهنا يُصاب المرء بالذهول! فكيف لجيشٍ، قوامه ثمانية عشر ألف رجل، أن يتخلى عن قائده بهذه السهولة، وينفرط عقد نظامه في هذه السويعات القلائل، لمجرد إنهم سمعوا إشاعة مفادها: إنّ جيش الشام قادم؟!

يقول المؤرخ الروماني ( تيتوس ليفي) واصفاً تمرد شعب روما على مجلس الشيوخ، ومن ثم إطاعتهم لقرارات ذلك المجلس في النهاية: " لقد كانوا كحشد ٍكبير، قوةً شرسة، ولكنهم كأفراد، كان الواحد منهم يتملكه الخوف فيسارع إلى الطاعة".
وهذا الوصف الدقيق، الذي قدمه ليفي آنفاً، ينطبق حرفياً على سلوك أهل الكوفة في تلك العشية، فهم كانوا ثائرين على ابن زياد، لكنهم لما سمعوا بقدوم الجيش الشامي، فكّروا فيمايترتب على ذلك من تبعاتٍ، فأخذ كل فرد منهم يشك بالآخر، ويتخوف ويتنصل منه، ثم سارعوا جميعاً في النهاية الى الطاعة، ويعلق مكياڤيلي على هذا النمط من السلوكيات، بكلمة حكيمة، تلخص لنا عقلية القطيع، يقول فيها: " ليس ثمة شيء أكثر تفاهة أو تقلباً من الجماهير".المطارحات ص406

ولكن هل يكفي إلقاء اللوم على " الجماهير" فقط؟
لماذا تمكنت شخصية شابة كابن زياد ( 28عاماً)، لا تملك مجد الأرومة، و شرف المحتد، مكروهة من قبل الكوفيين، من امتلاك زمام هذه الجماهير، في حين عجزت شخصية تمتلك مايمتلكه مسلم بن عقيل من مجد عائلي، و مواصفات شخصية، عن الاحتفاظ بهذا الزخم الجماهيري التعبوي؟

يجيبنا عن هذا السؤال مكياڤيلي بفلسفته السياسية المعهودة، فيقول بأن على المرء إذا أراد أن يدعو إلى " أساليب استثنائية كاستخدام القوة، والدعوة الى السلاح... أن يعلن نفسه أميراً على الدولة، حتى يتمكن من التصرف وفقاً لما يراه صالحاً ومجدياً". وهذا هو عين مافعله ابن زياد وقت وصوله إلى الكوفة، ولبيان ذلك فلنمضي مع الشيخ المفيد وهو يصف لنا دخول ابن زياد إلى الكوفة:

"فأمر عبيد الله من وقته بالجهاز والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد ثم خرج من البصرة وأقبل الى الكوفة ... ودخل الكوفة وهو متلثم ... وسار حتى وافى القصر في الليل... وأصبح فنادى في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخرج اليهم... وقال:

أما بعد: فإنّ أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم... وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبيء عنك لا الوعيد" ص197

كلمة ابن زياد _ على قصرها - كانت مفخخة بلغة العنف، و مفردات البطش، والقوة، والحزم، والانتقام، والوعد والوعيد، وهو يلقي بنفسه في خضم الأحداث منذ البداية، ففور دخوله الكوفة سارع بإعلان نفسه أميراً عليها،ليضفي لإجراءاته التي سيتخذها لاحقاً مشروعية النفاذ، وشرع باتخاذ هذه الإجراءات بسرعة وحزم، فجمع العرفاء" وأخذهم أخذاً شديداً" وأمر بأن يذاع بين الناس بأن يخبروا عن مكان تواجد مسلم، وأن قد برئت الذمة ممن يتستر عليه، وهذا هو عين ما أوصى به مكياڤيلي في مطارحاته، وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على إن ابن زياد كان عارفاً بفنون الحكم، وواقعياً في سلوكه السياسي، فماذا فعل مسلم بن عقيل؟

لم يفعل مسلم ابن عقيل شيئاً، فباستثناء أخذه للبيعة، وجمعه للمال والسلاح، فقد تخفّى في بيت المختار في البداية، وفي بيت هانيء ابن عروة لاحقاً، وأخذ بكتابة الرسائل للحسين يستحثه بالمسير... ماعدا ذلك، لانجد له دوراً على الأرض، ففقد زمام المبادرة، حتى جاء حادث اعتقال ابن عروة، فترك نفسه ينساق لعواطف أهل الكوفة؛ ويعلن ثورته بلا تخطيط، فواضح إن خروج مسلم للعلن كان ردة فعل على اعتقال هانيء، وهذا ماكان يريده ابن زياد من الاعتقال، أراد خروج ابن عقيل للمشهد حتى يتمكن من الانقضاض عليه بدهائه وتخطيطه... ولو إن ابن عقيل كان قد فعل ذلك في عهد الوالي السابق الضعيف ( النعمان بن بشير ) لنجح في ثورته، ولكن افتقاره لعنصر المبادأة واتخاذ القرار كان سبباً في تركه هذه الفرصة الذهبية التي سوف لن تسنح مرة أخرى كما هو واضح. بل أن مسلماً حتى وهو في أوج الحدث الثوري لحظة اقتحامه للمسجد، لم يبادر فيصعد المنبر ويلقي خطبة يشد بها من عزم أنصاره، ويبين أهداف ثورته ليعبئ بذلك الرأي العام في الكوفة، ويسخره لمصلحته بدلاً من تركه نهباً لأراجيف ابن زياد وإشاعاته الماكرة.

و لكن هذا لا يعني بأن مسلماً كان شخصية سلبية، على العكس؛ إذ يسجل له التاريخ تلك النهاية التي تليق بهذا الصنف من الرجال، فقد أبدى فنوناً من البسالة في القتال ، وعندما أحاط به جيش ابن الأشعث في دار طوعة، خرج مصلتاً عليهم بالسيف مرتجزاً:

إني رأيت الموت شيئاً نُكرا
آليت ألا أُقتل إلا حراً

وظلّ شامخاً بعد أسره، و لم يخضع لابن زياد، وهو في أضعف لحظات النفس البشرية، التي تنكسر فيها كثيراً من النفوس الكبيرة، فمضى إلى حتفه، ملؤه الكبرياء الهاشمي، وكأنه يحمل نفس عمه علي بين جنبيه.
الذي نريد قوله هنا، أنه شخصية لاتبادر الفعل، بل يدفعها رد الفعل والاستفزاز للفعل، ولعل هذا هو من أكبر الأسباب في إخفاق ثورته التي لو نجحت، لسار التأريخ باتجاه آخر. وهكذا وجد ابن عقيل نفسه وحيداً خارج أبواب كندة بلا دليل يدله على الطريق، وهكذا أخذ يمضي " متلدداً" في أزقة الكوفة، حتى نهايته المأساوية الأليمة التي خلدها لنا الشاعر عبد الله بن الزبير الأسدي بصورة شعرية مرسومة باللون الأحمر :

إن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانيءٍ في السوق وابن عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشم السيف وجهه
وآخر يهوي من طمارِ قتيلِ

أصابهما أمر الأمير فأصبحا
أحاديث من يسري بكل سبيلِ

تري جسداً قد غير الموت لونه
ونضح دمٍ قد سال كل مسيلِ



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن